“الأنثروبولوجيا الشعبية”


شاكر اللعيبي

لن يُنكِر إلا مُعانِد إن هناك “أنثروبولوجيا شعبية” تُصنِّف الشعوب العربية فيها نفسها وفق سلّم الأفضلية على غيرها من الشعوب، إنسانياً وحضارياً ولهجوياً. بقيت هذه الأنثروبولوجيا حاضرة في مؤلفات التراثيين والجغرافيين والرحّالة التي طالما قرأنا فيها “أحكاما قيمية” على المصريين طرّاً، والعراقيين قاطبة، وأهل بلاد الشام كلهم …الخ. فمن رسالة منسوبة لعمرو بن العاص قال عن أهل مصر: ” أرضها ذهب ونساؤها لعب ورجالها لمن غلب وأهلها تجمعهم الطبلة وتفرّقهم العصا”. أما عن أهل العراق، فقد قال الحجاج كلمته الشهيرة: “يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال…”. والحجاج نفسه قال عن أهل الشام: “لا يغرّنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه….”. 

في الأزمات الكبيرة تعاود أحكام القيمة العتيقة تلك الظهور، في السرّ ثم في العلن، بل بين أوساط ثقافية ليست شعبية. لم تكن (ثورات) الربيع العربيّ موجة عارمة ضد الطغيان السياسيّ وجبروت السلطات الحاكمة فقط، كانت أيضاً كشّافاً لعيوب الثقافات السائدة: عدم قبول الاختلاف، ولا أصول الديمقراطية، وشيطنة الخصوم، وبروز الطائفية والمذهبية، والتمترس الحادّ ضمن حدود الدولة الوطنية وحدها، ثمّ أحكام التفوُّق “العاميّة” المتبادَلة بين الشعوب، الفساد المذهل في بعض الأوساط الثقافية، والتلفيقية الفادحة دعماً لهذه الثورة وغض البصر عن تلك، وأشياء كثيرة أخرى. صار التحشيد في سياق الوضع الراهن أكثر حدِّة، وعلى أوسع نطاق إعلاميّ، حتى أننا يمكن أن نفكِّر بالمفردة الفرنسية (furie وبالإنكليزية fury) التي تعني هيجاناً، غضباً عارماً، سُعاراً. والمفردة من أصل لاتينيّ رومانيّ وكانت تعبّر بالأصل عن الربّات المختصّات بالاضطهاد: ثلاث ربّات جهنميات يعذبنّ الأشرار. ليس هذا الهيجان رديفاً بالضرورة للعقل ولا للعدالة ولا لمتطلبات المجتمع المدنيّ، ولا يليق، بداهةً، بالمثقف الرصين. بعض المهيِّجِيْن والإعلاميين لديهم مشكلات غير محسومة مع شريحة كبيرة ممَن يُهيِّجُونهم: مع أشرارهم المؤجّلين. كشفت (ثورات) الربيع العربيّ المستور أيضاً.
وإذا ما بدا الرحّالة والجغرافيون العرب من أوائل مؤسسي الأنثروبولوجيا بمعناها الحديث، فإن المرء يمكن أن يتلمّس أنثروبولوجيا شعبية، لن نتردد بنسبة أصلها حسب مراجعنا التراثية إلى الحجاج خاصةً. أنثروبولوجيا كانت مطمورة لكنها تصاعدت عند اشتداد حركة ربّات السعار في المنطقة. سنقدِّم سُلّم التفوّق الافتراضيّ حسب “الأنثروبولوجيا الشعبية” في الحدود الساخنة الآن: اللبنانيون يقدّمون أنفسهم متفوّقين على السوريين، منذ الحرب الأهلية في السبعينات وحتى يومنا. السوريون قدّموا أنفسهم متفوّقين على العراقيين منذ انحطاط الوضع السياسيّ وهجراتهم إلى بلاد الشام إلى يومنا. في بداية “الانتفاضة” السورية، كتبت الشاعرة رشا عمران غامزة من طرف الجيران [تقصد العراقيين] الذين يرغبون بتصدير الطائفية إلى سوريا التي لا تعرف الطائفية. صبحي حديدي ينفي قطعياً وجود طائفية في المجتمع السوريّ، هناك كذلك فكرة “التاجر الشاميّ” الأكثر براعة من غيره في حلّ الأزمات بالمداهنة والهدوء. المصريون يقدّمون اليوم أنفسهم متفوّقين على السوريين والعراقيين، وطبعا الفلسطينيين. انظر فضائية CBC ولميس الحديدي وخيري رمضان وبعض شيوخ السوء الأزهريين. وما تكتبه صديقتنا القاصة منى برانس. 
الفكرة الرئيسة هنا أن هناك وعياً جَمْعياً (وليس شروطاً موضوعية) لدى هذا الشعب يتفوّق على وعي الشعوب الأخرى الجَمْعيّ. بالطبع التعميم المُفْرط هو شرط هذه الأنثروبولوجيا، والمتخيَّل فيها عن الذات أكثر من غير المتخيَّل.
في الشروط الملتهبة الراهنة، يغيَّب العقل أحياناً، ويلتبس المنطق، وتًستعاد الخرافة، وتتكرر أحكام القيمة المطلقة، ويصير الحماس بديلاً عن التأمل. هل تدهْوُر العقل شرط من شروط الثورة والعدالة؟. لا نعتقد.
_______
*شاعر وأديب من العراق (المدى)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *