ما وجدتُ عند القدماء من تحليل دقيق لأساليب السرد ووظيفتها كالذي وجدته عند أفلاطون في محاورة “الجمهورية” ففيها من الإشارات الواضحة ما يصلح أن يكون بذرة للدراسات السردية قبل أرسطو الذي أجمل رأيه في كتاب “فن الشعر”. ومن سوء الطالع أنّ موقف أفلاطون من الشعراء المغالين في تخيلاتهم، وإصراره على تطهير الجمهورية منهم، وكل ما أثير حول ذلك من استعداء معلن أو مستتر، دفع إلى الوراء بذلك التفريق بين أساليب السرد. وأرغب في هذه المقالة الوقوف على جانب من ذلك عسى أن يستفيد النقد من تحليل أساليب السرد وربطها بالمحاكاة، وهي وظيفة الأدب في تمثيل الواقع عن أفلاطون وأتباعه.
قال أفلاطون: بما أنّ “كلّ الأساطير والأشعار ليست إلا سردًا لأحداث وقعت في الماضي، أو تقع في الحاضر، أو ستقع في المستقبل”، فإنّ السرد ينقسم إلى ثلاثة أقسام “قد يكون مجرّد سرد، أو تمثيل ومحاكاة، أو كليهما معا”. وخير من يمكن الاستعانة به من أجل توضيح هذه الأقسام، هو هوميروس في ملحمتيه؛ ففي استهلال الإلياذة روى الشاعر أن كاهن أبولو العجوز “خروسيس” أخذ يتوسّل “أجاممنون” أن يطلق سراح ابنته، غير أن الأخير أبى ولم يستجب لرجائه، فكان أن آثار شعورُ الكاهن بالإخفاق غضبَ آلهة الأغريق. تكلّم الشاعر بلسان الكاهن، ودرج هوميروس على ذلك في سرد رواية كثير من الوقائع في الملحمتين، وبهذا “فحديث الشاعر يكون سردًا حين يقصّ الحوادث من آن لآخر، أو حين يصف ما يتخللها من وقائع”، لكنه “حين يتكلّم بلسان شخص آخر، فإنه يتشبّه بتلك الشخصية التي يقدمها إلينا على أنها هي المتحدّثة”. ولّما كان تشبّه الشاعر بغيره في كلامه وحركاته هو محاكاة للشخصية التي يتقمّصها الشاعر “إذن فهوميروس وبقية الشعراء يلجأون إلى المحاكاة فيما يروونه”.
ولكن في حال لم يخف الشاعر ذاته مطلقا، ولم يتوار عن الانظار في أثناء السرد، فلن يكون للمحاكاة في أشعاره أي نصيب “ولا اقتصر كلّ شعره على السرد والبحث” فلو قال هوميروس عن الكاهن “خروسيس” إنه قدم إلى ملك الإغريق متوسّلًا، وفي يده فدية ابنته، ثم مضى يتحدّث بلسانه هو لا بلسان الكاهن “لما كانت هنالك محاكاة، وإنما سرد فحسب” ولانتفت، والحال هذه، ضرورة الوزن الشعري، لأن الحديث سينتقل من كونه شعرا إلى كونه نثرا.
على أن للسرد نوعًا آخر هو عكس النوع الآنف الذكر “وفيه يحذف الشاعر الكلام الذي يفصل بين الحوار، فلا يبقى إلا الحوار ذاته فقط”. وهذه هي المآسي والملاهي الشعرية. وينتهي أفلاطون بلسان سقراط إلى تقرير النتيجة الآتية “الشعر والأساطير قد يكونان في بعض الأحيان للمحاكاة فقط، ومن أمثلة ذلك المأساة والهزلية الشعرية، وقد يكون سردًا يرويه الشاعر ذاته كما في المدائح، والنوع الثالث مزيج من الأولين، وهو الذي يتمثّل في الملاحم وفي أنواع متعدّدة أخرى”. وكما يلاحظ فأفلاطون لا يتعامل مع السرد بمفهومه الضيق، بل بالمفهوم العام الذي يقصد به طرائق التعبير.
بالحديث عن طرائق التعبير يريد افلاطون أن يدفع بالنقاش إلى قضية المحاكاة، وهي وظيفة الأدب عنده، فمقصده من هذه الاستطرادات، عمّا “إذا كان لنا أن نسمح للشعراء بأن يلجأوا إلى المحاكاة في رواية قصصهم، وإذا سمحنا لهم بذلك فهل تكون محاكاتهم كاملة أو جزئية، وإذا كانت جزئية، فما الذي يجوز لهم أن يحاكوه، أم أن من الواجب منع المحاكاة منها بتاتا؟”. ومن بين الاحتمالات الممكنة التي يقترحها موضوع السماح للمآسي والملاهي أو حظرها، فالأمر متعلّق بطبيعة المحاكاة، وحسب أفلاطون يتعذّر على الإنسان أن يمارس أكثر من ضرب من ضروب المحاكاة، بل ينبغي عليه أن يختصّ بواحد منها، لأن المهارة قرينة الاختصاص، فلا تتبدّد بين سائر أشكال المحاكاة؛ فتفقد كونها مهارة جديرة بالتقدير، ومن ذلك فيتعذّر على الشاعر أن يمارس ببراعة المحاكاة في المسرحيات المأساوية والمسرحيات الهزلية بالدرجة نفسها “وبالمثل لا يمكن أن يكون شاعرا قصاصا وممثلا ناجحا في الوقت نفسه”.
كما يتعذّر على الشاعر(وينطبق ذلك على السارد) أن يجمع بين تمثيل جدي وهزلي، وعلّة ذلك “أن الموهبة البشرية موزعة على أجزاء أدقّ وأصغر حتى من هذه، بحيث يستحيل إجادة محاكاة عدة أشياء، ناهيك بأداء الأفعال التي يعبّر عنها المرء في محاكاته”، فما ينبغي على الشعراء هو محاكاة الفضائل، وتجنّب محاكاة الرذائل، وهذا هو معيار أهميتهم في الجمهورية، فكلما اقتصر المحاكي على ضرب من القول كان ناجحًا في محاكاته، ولمّا كان الشعراء يحاكون أو يسردون أو يجمعون بين الاثنين في أساليبهم، فالأفضل الابقاء على مَنْ يقتصر أن يحاكي بأسلوب واحد، تجنّبًا من خطر التنوّع الذي قد يفضي إلى الخلط، وعلى هذا ستكون الأفضلية للسرد البسيط الذي يحاكي الفضيلة لأنّه يوافق طبيعة البشر في الجمهورية، فهي “ليست مزودوجة ولا متعددة الأوجه”.
خلص أفلاطون على لسان سقراط إلى القرار الآتي: “إن ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كلّ شيء، وأراد أن يقدّم عرضا لأشعاره على الناس، فسوف ننحني تبجيلا له، وكأنه كائن مقدس مُعجز رفيع، إذ أن القانون يحظر ذلك. وهكذا سنرحّله، بعد أن نسكب على وجهه العطر ونزيّن جبينه بالأكاليل، إلى دولة أخرى. إذ أننا نودّ أن يكون شعراؤنا أكثر خشونة وصرامة، لا يحاكون إلا أسلوب الفضلاء، ولا يسترشدون إلا بالقواعد التي فرضناها منذ البداية، حين شرعنا في وضع برامج تعليم محاربينا”. الحياة الفاضلة في الجمهورية هي الحياة الخشنة التي يتمرّس فيها المدافعون عن الجمهورية، وليس الحياة اللاهية، فلا يسمح بالتقلّب بين شتّى الأساليب في المحاكاة إنما ينبغي الاقتصار على أوضحها، وأقربها إلى حاجة حماة الدولة.
تبرّم أفلاطون بالايقاعات المتباينة، والأوزان المتنوعة؛ لأنها تعكّر صفو الحياة المناسبة للمقاتلين، وتنتهي بتضارب طرائق التعبير “ينبغي أن تكون إيقاعاتنا ملائمة لحياة الاعتدال والشجاعة، فإذا اهتدينا إليها، كان علينا أن نجعل الأنغام والأوزان ملائمة للكلمات التي تعبّر عن هذا النوع من الحياة، لا أن نجعل الكلمات ملائمة لأي نوع من أنواع الأنغام والأوزان”. ينتهي أفلاطون إلى تشجيع الأخذ بأساليب السرد البسيطة، ويروّج لها، ويدعو إلى تجنّب المركّبة التي لا توافق ايقاع الحياة، ويحذّر منها، وبذلك يكون قد أسهم في إشاعة الأولى التي هيمنت مدة طويلة في تاريخ السرد قبل أن تتولّى الرواية الحديثة تعديل ذلك.