خيول الغزاة وطائراتهم

خاص- ثقافات

*أحمد ثامر جهاد

تقول إحدى أساطير حضارة الازتيك، إن خلق العالم مرتبط بتدميره، وتشير الأسطورة إلى أن السرّ الذي يُمكّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة كي يفوز بالماء والنار والنبات والحيوان، ويقيم تحالفا سحريا مع الأشياء لن يمكنه، مع تواتر الأزمان وتقلّب الأقدار، من الحفاظ على عظمة ما بناه، حينما يقوده غروره إلى تدمير مملكته.

ويطالعنا التاريخ من جهته، بصور متباينة عن بشر يهدّون أوطانهم بمعاولهم الخاصة، أملا بالنجاة من سلطة حاكم جائر، وآخرين ينتظرون البشارة البعيدة أو يمهدون الطريق أمام قوى جبارة، تأتي من وراء البحار، ولا تتوانى عن هدّ سقف الوطن على رؤوس ساكنيه، بذريعة خلاص ديمقراطي ووعد رفاه.

لا الغزاة تغيّروا، ولا سقوف الأوطان المنكوبة علت أو علّمت أبناءها فلسفة التسامح وتخطي المحن.

***

مات الفاتحون الأوائل، فيما حصد أحفادهم، البيض والسود، المجللون بالحداثة والعلوم والبارود، والمسكونون بهاجس المغامرة وأحلام التوسع والهيمنة، نشوة انتصاراتهم في مشارق العالم ومغاربه. وكان من أجلى العبر التي خبرتها ذاكرة الشعوب المنتهكة عذريتها، قديما وحديثا، أن تاريخ الغزاة، مهما يكن، مغمّس بالدم وواقع حملاتهم لا يجعلهم فاتحين ولا رسل سلام، وإن جاءت غزواتهم مشفوعة بأنبل الشعارات وأشدّها عقلانية.

كان للباحثين عن الذهب والممسوسين بلعنة النفط، شهية مفتوحة على النهب القاري. شهية بوسعها تذليل أية عقبات محتملة، وإن اقتضى الأمر إشعال فتيل الحروب وحبك المؤامرات وإبادة المعترضين،بأسلحة مشروعة أو محرّمة.
في المقابل، تبدو الأنظمة الوطنية المستبدة، وما أكثرها في مشرقنا العربي خاصة، على اختلاف توجهاتها، بارعة هي الأخرى في اجتراح حفلات القتل والخداع ونكث العهود وتبديد الثروات وإبرام الصفقات، المشبوهة والمذلة، في السرّ والعلن. أنظمة خائبة بلا ذاكرة وقائية، منذورة للشعارات ومصممة بنشوة روحانية غريبة لامتصاص النكبات والهزائم.

ربما تكمن المأساة في مواجهات حتمية بين قوى كبرى ودول صغيرة، في اختلال التوازن هذا. إذ تعود الحكاية للسان راويها ثانية، الأسلحة الحديثة ورغبة السيطرة بمواجهة استبداد الشرق القديم، أساطيره وخيراته، من المحال ان تكون النهاية مختلفة عمّا هو مقرر سلفا لصالح من يملكون الذخيرة والمال والأدلاء المخفيين.

***

يبدو أن حلم برنال دياز ديل كاستيلو، جندي الحملة الإسبانية لفتح الأراضي المكسيكية عام 1519 بقيادة العقيد كورتيس ما زال يعيش بيننا، أو هكذا قُدرَ له أن يكون. مهمته كجندي تتعارض مع إدراكه لخطيئة تدمير إمبراطوريتي المايا والازتيك.

يعاين الكاتب والروائي الفرنسي لوكليزيو في كتابه (الحلم المكسيكي) حالة برنال دياز الذي يمارس،عبر كتابة تأريخ الحملة الاستعمارية، من وجهة نظره، أقدم أحلامه، كفرد من عامة الناس.هول تلك المغامرة التي أسفرت عن إبادة آخر الحضارات السحرية في العالم، وسميت لاحقا، فتح اسبانيا الجديدة، يعاد إنتاجه مع كل غزو جديد لأمة من الأمم.
يسرد لوكليزيو، أنه بفعل ألاعيب الغزاة الأسبان أصبح الهنود مُضَلَلين؛ فالهنود يمنحون الغزاة أطنانا من الذهب تتحول تاليا إلى حراب ترتد عليهم لتشق صدورهم العارية.

“من أين لهم أن يعلموا أو يتخيلوا مقدار الاضطراب الأخلاقي الذي كان يهز أوربا في عصر النهضة؟ كيف كان باستطاعتهم النجاة، وهم الذين لا يشكلون سوى مجموعة واحدة، ذات واحدة تسيطر عليها الآلهة، خاضعة لإرادة الملوك والكهنة، بينما كان يمثلُ أمامهم رجل العالم المتحضر، الأناني والمشكك؟”

في الغضون ومع تراكم الخبرات التأريخية للشعوب ومعرفتها المجرّبة بحقيقة الصراعات غير المتكافئة والتي جرت الويلات على العديد من دول العالم، ناهيك عن انكشاف الطبيعة المهادنة والمتحيزة والبيروقراطية للمنظمات الأممية الدولية، تجاهر منابر الحكومات ومراكز القوى العالمية وحشود المنتفعين بضرورة الحرب كخيار امثل لحل الأزمات المستعصية. فيما تجتهد حشود الميديا بكل ما أوتيت من قوة تأثير لتصوير القاذفات العملاقة كفوهات نظيفة تستخدم للمرة الأولى في حروب ذكية وخاطفة، ولا تستهدف سوى الشياطين والأشرار،فيما تحفظ لباقي مخلوقات الله حيواتهم وكرامتهم.

يخامرنا الشعور أن الحرب يمكن لها أن تكون أي شيء، إلا أن تكون مفهومة ومسوغة وعقلانية، أو أن تعد أقل خطرا من عواقبها. كما أن الحماقة التي تصور الموت رحيما، إذا ما كان حتميا ومقدرا من السماء، لن تكون نافعة حينما تتعثر خيول الغزاة بأشلاء الجسد الإنساني المنبوذ.

وبعد، أليست صورة الغزاة، أي غزاة، برسوخ بنيتها، وثبات نهجها وبما تخلفه من كوارث وأوهام كبرى تستعيد كما في كل مرة مخزون الذاكرة الكولونيالية العريقة وإن تغير إطارها الزمني وبعدها السياسي؟

***

على الرغم من بعد الزمن، أدرك هنود الازتيك أن نوايا ربّات الشر أبدية، مثل عويل النساء المستوحشات آخر الليل. موات كوني يهدد مياه الأنهر العذبة وظلال الأبراج العالية وشرفات القصور الحجرية الفاتنة، ولا سبيل لخلاص أرواحهم الطرية إلا بشعيرة الصلوات المنذورة لكراهية الفاتحين.

_____
*كاتب عراقي

 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *