أعترف بداية بأننا نعاني من أزمة في المصطلح والمفهوم، فالترجمة العربية السائدة وهي (الأدب الساخر) لا تعبر دائما عن روح المكتوب ، وتلغي فروقات جوهرية مهمة بين آداب عالمية وأدباء عالميون. فمن المجحف حقا أن نسمي ما يكتبة الساخر التركي الكبير عزيز نيسين أدبا ساخرا ، ونطلق ذات الاسم على ذلك الحزن الإبداعي المرير الذي كتبه محمد الماغوط، ونطلق ذات التسمية على الكثير من قصص تشيخوف وغوغول ، في ذات الوقت الذي نطلقها على بعض مسرحيات وقصص جورج برنارد شو الفلسفية، وسواليف الجاحظ حول البخلاء.
هل نستطيع أن نسميه أدبا هجائيا مثلا ، أو أدبا مختلفا(وهو بالتأكيد مختلف عن السائد والمالوف)؟ أو أن نسميه (الكتابة الذكية ) كما اقترح أحد الساخرين؟
في الواقع فإن لكل تسمية نقاط ضعف، لكن هذه المهمة تقع على عاتق النقاد وعلماء الألسنية وليس على الساخرين .
لذلك فأننا حتى الآن نتفق – جدلا- على تسميته بالأدب الساخر ، لكننا نقع في مطب آخر هو أن ليس كل ما نكتبه يقع في خانة الأدب ، وهو أقرب للكتابات الساخرة .
في الأصل والفصل
قد لا يكون كائنا من لحم ودم ، وقد يكون عدة كائنات تواجدت في أكثر من زمان وأكثر من مكان، وقد يكون مادة مكثفة صنعتها الشعوب من وهج الأساطير ورماد المعاناة وجمر الثورة. لذلك جاء جدي جحا كائنا غريبا ، متعدد الانتماءات ويحيا عدة حيوات متجددة ، من صهيل الصحراء حتى عصرالكهرباء، وهو أيضا خليط عجيب غريب من الذكاء والحمق ، الجهل والعلم، من الشجاعة والجبن، من الفارس والبهلول .
في الواقع لا أعرف الاسم الحقيقي لجدي جحا الذي ما يزال حيا وسبقى بعدي وبعد أحفاد أحفادي. فقد ورد ذكره أولا في شعرعمر بن ابي ربيعة عام(93هجري)، وعاصر أبي مسلم الخرساني والخليفة المنصور، وتوفي حسب المصادر التاريخية، عام 160 للهجرة بعد أن عمر طويلا ، وهو حسب ذات المصادر عربي اللون واللسان ويدعى دجين أبوالغصن بن ثابت اليربوعي البصري المعروف بجحا.
أما الأتراك فجحاهم يدعى (الخوجة نصر الدين) وقد ظهر في أحوج وقت اليه..تماما خلال الاجتياح المغولي الثاني لبلاد المسلمين ، تحديدا ، في فترة تيمورلنك المحتل القاسي المتكبر الذي كان يسخر منه جحا ، ويشفي غليل الشعب من الحاكم الظالم.
علينا ان نعترف أن جحا الأتراك هو الأكثر شهرة ، نظرا للظروف التي أشرنا إليها ، إضافة إلى أنجحا العربي كان يسخر من الخليفة المنصور المشهور بالبخل، لذلك تم طمر معظم هذه الحكايات خلال العصرين العباسي الأول والثاني إلى أن اختفت تحت رماد السنين.
ومن حكايات جحا التركي المشهورة ، قصته مع تيمورلنك، الذي سأله يوما قائلا:
– ترى كم أساوي بنظرك من المال يا حجا؟
فنظر إليه جحا متأملا أعلاه وأسفله، ثم قال بغير تردد:
– لا أظنك تساوي أقل من ألف دينار أيها الملك العظيم.
فقال تيمورلنك غاضبا:
– إن ملابسي وحدها تساوي ألف دينار !!
فقال جحا:
– إذن فقد صدق تقديري تماما.
المقصود طبعا ، أن تيمورلنك لا يساوي سوى ثمن ملابسه.
قد تقولون إن من المستحيل أن يستطيع جدي جحا أن يتكلم بهذه الطريقة أمام تيمورلنك…فليكن….ألم يستمتع الشعب وما يزال بهذه الحكاية، حتى لو كانت مجرد اختراع شعبي على لسان جدي العظيم.!!
للفرس جحاهم أيضا ، وهو عندهم فارسي الأصل والفصل واسمه (جوجي) من أهل اصفهان، واسمه الحقيقي -على ذمتهم – هو الملا ناصر الدين.
= وجدي حجا في مالطا اسمه جاهان!
= وفي صقليه اسمه جويكا!!
كما عرفته أقوام كثيرة، وهناك ترجمات لنوادره عند الرومانيين والبلغار واليونان والألبان واليوغسلاف والأرمن والقوقاز والروس والأوكرانيين والصينيين، اضافة إلى انتشار نوادره في معظم أنحاء افريقيا.
جدي لم يمت ، لأنه يعيش في أفئدة الشعوب ، فهو روح المقاومة التي تحمل شعلة الأمل حتى لا تنطفئ في الزمن الصعب ، وهو مانعة الصواعق التي تنقذ الشعوب من اليأس والإحباط والجنون.
الكتابة الساخرة في الأردن
السخرية في الأردن بخير وهي تتبوأ مركزا ممتازا عددا وعدة، ولعلنا من أكثر دول العالم التي لديها كتاب سخرية ، نسبة إلى عدد السكان طبعا، وقد تطورت هذه الكتابة من عام 1987 عندما احتل محمد طمليه أول زاوية أردنية ساخرة في صحيفة الدستور باسم (شاهد عيان) وصارت السخرية منتظمة الصدور للمرة الأولى ، وكان علينا الانتظار حتى عام 1990 بعد الاتجاه نحو الديمقراطية لنصاب بحالة فلتان ساخر ، حيث ظهر العديد من الساخرين، كنت أنا أحدهم . ثم ظهرت صحيفة (الرصيف) ثم صحيفة (قف) لمحمد طمليه . وبعدها عام 1996 صحيفة (عبد ربه)التي كنت أتشرف برئاسة تحريرها. ومن ذلك الوقت والسخرية الأردنية في تطور مذهل، حتى صار لكل صحيفة أردنية يومية كبرى كاتب يومي ساخر أو أكثر.
مع ذلك، فالسخرية السياسية ليس صنفا أدبيا بل ، أسلوب فني لتوريط القارئ بالفكرة في أسرع وأبسط الطرق .
بين الأدب والتهريج
يحلو للناقدين لكاتب ساخر ما أو لمقال ساخر ما إلى اعتباره تهريجا ، كما يحلو للمعجبين والمادحين إلى اعتبار ما هو مكتوب أدبا راقيا ينأى عن التهريج. هذا الفصل التعسفي أحيانا بين الكتابة والتهريج أقبل به نظريا ، لكني لا أقبل – نظريا أيضا- اعتبار التهريج مذمة ومنقصة تعيب كاتبها وتضعة في مصاف الانحطاط الأخلاقي.
أفترض بداية حسن النية عند الناقدين والمادحين، لكن الأمر مغلوط في الاتجاهين، فهو مغلوط، أولا، حين يعتبر كل الكتابات الساخرة التي نقترفها أدبا، وهي ليست كذلك في الواقع، وثانيا، حينما يعتبر التهريج مذمة ونقيصة، كما أسلفت.
الكتابات الساخرة التي نقترفها يوميا في الصحف ، لا يمكن إدراجها كلية في مجال الأدب، فهي تسعى إلى الاشتباك مع الواقع السياسي والاجتماعي وتخضع لمتطلبات اليومي ولسرعة الإنجاز، ولاستخدام أساليب التشويق المناسبة لحظة الكتابة، سعيا لإيصال الفكرة إلى القارئ وتوريطه في تبنيها بأقصر الطرق الممكنة.
نرجع إلى التهريج، فالواقع ان التهريج قد يرقى أحيانا إلى مرتبة الفن حين ينجح في إثارة ضحك الناس والتخفيف من قسوة الحياة عليهم ودفعهم إلى ممارسات أكثر حيوية وتفاؤلا. وقد يغير في طبائع الناس وممارساتهم بذات الطريقة التي يغيرهم فيها الأدب الساخر.
ولا ننسى قط ، أن اجدادنا من الساخرين الأوائل ، قد لجأوا إلى التهريج وسيلة لإيصال رسائلهم إلى الحكام، بل إن بعضهم ادعى الجنون ليستطيع أن يسخر ممن يريد دون حسيب أو رقيب ، وكانت ظاهرة عقلاء المجانين ومجانين العقلاء والممسوسين، من أكبر ظواهر الرفض في العالم العربي . وكان هؤلاء يصلون إلى الخلفاء والسلاطين ، ويقولون وينتقدون ويسخرون ، دون خشية ولا خوف .
حتى المهرجين ، فقد كانت لديهم إساليبهم لإيصال الرسائل إلى الخلفاء والسلاطين والولاة بأسلوب ساخر مستغلين ما يتاح لهم من حرية في حضرة الرجل الكبير …وكان كبار رجال الدولة يخشونهم ، فإن أيه سخرية بهم ومنهم في حضرة السلطان كفيلة بالقضاء على مستقبلهم الوظيفي.يمكننا أن نقول بأن هناك علاقة تداخل وتمايز بين السخرية التهريج ، لكن ينبغي أن يعرف كل واحد منهما حدوده وفواصله التي لا ينبغي تجاوزها.
وليس آخرا، فإن القضية في النهاية هي قضية حدود ثابته وواضحة ومعترف بها بين الأدب الساخر والتهريج، فالأدب ينبغي أن لا يدعي التهريج ولا يسعى إليه ، وإلا فقد هويته ، وفشل في أن يكون تهريجا ناجحا (إلا اذا فقد هويته تماما)، والتهريج أيضا لا ينبغي أن يدعي كونه أدبا، والا فقد هويته وفشل في أن يكون أدبا..وتحول إلى مجرد ثرثرة لا تضحك احدا ولا تفرح أحدا. وهكذا يفقد كل من الأدب والتهريج هدفه ورسالته.
الساخرون في المجمل هم ثوار انقلابيون في ثياب مراوغة ، لا يرتدون الكاكي ولا يحملون الرشاشات ولا تتدلى القنابل اليدوية من أحزمتهم الناسفة، ولا يتلاعبون بالسيجار بين أيديهم، اإهم اناس يتنكرون في أزياء الناس العاديين ، ويمارسون ثورتهم داخل الثورة ، ويقلبون المفاهيم بلا أي اعتبار للمناصب والطبقات أو القيم السائدة.
هل نحن شعب ضاحك أم عابس؟
نحن شعب مكشر أمام الاخرين ، لكن تاريخنا يفضحنا ، ولا أعتقد أن هناك تاريخ شعب وتراثة مليء بالسخرية كما هو التاريخ والتراث العربي …من أشعب الطماع إلى هجائيات الحطيئة إلى جحا إلى عقلاء المجانين .. إلى شعر الهجاء العربي الذي يشكل قاموسا عملاقا للسخرية العربية .
في مجالسنا بعيدا عن أعين الغرباء ، لا تصدق كم نضحك ونسخر ونقهقه ، لكننا أمام الغرباء نشعر بأن الضحك يفقدنا الهيبة التي نصطنعها لخداع الاخرين، كما يخدعوننا هم… إنها سطوة الأعراف البدوية التي تجبرك على الظهور أمام الآخر لكأنك في معركة معه… إما أن يأكلك او تأكلة … !!
بالمختصر غير المفيد: نحن شعب ضاحك يخجل من كونه ضاحكا ويحاول إخفاء ذلك.
= إنها معركة مصيرية ، أن نبتسم في وجه الصعاب ونحول انتصار الأعداء إلى مهزلة تحرمهم من لذه الفوز ، وأن نثير مكامن الإنفعالات الإيجابية في الروح البشرية، من أجل مستقبل آقل تجهما وكآبة.
= إنها معركة مصيرية أن تجعل من السخرية مانعة صواعق تبعد عن الناس اليأس والقنوط والانهزام واحتقار الذات .
= انها معركة مصيرية أن تفقع بالونات البروبوغندا حول أولئك الذين يضعون حول أنفسهم هالات مزيفة من العظمة والاستكبار ، وتعيدهم إلى حجومهم الطبيعية ..إلى جحورهم.