أبي الشاعر أجلسني على رفوف الكتب


*زهيرة زقطان

لم تكن رحلتي مع الكتاب جبلية، فالكتاب من موجودات البيت قبل وجودي؛ كان في الخيمة في مخيم عقبة جبر، على طرف أريحا حيث ولدت ابنة لشاعر. ربما كان الحظ معي بوجود ذلك الأب الذي سيوفر مكتبة للجميع، بعد استقرار العائلة في مخيم الكرامة، في بيتنا الطيني التابع لوكالة غوث اللاجئين. كانت المجلات مرتبة في خزانة، سأرى «الأديب»، و«الآداب»، و«مجلة العربي»، ومجلة ترأسها ماري كعيبني، من بيت لحم، كان أبي يشارك في الكتابة فيها.

كان إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، وعمر بن أبي ربيعة، وأبو فراس الحمداني، مؤلفين وكتبا رافقوا طفولتي. وبفعل العمر، سأختار من الرفوف كتابا ضخما: «دكتور جيفاكو» الذي عانيت في التعرف عليه، ولم يعلق في ذهني منه أكثر من أن الطبيب كان في الحرب. كنت أعرف أن وجودي في المخيم كان نتيجة حرب خسرنا فيها قريتنا «زكريا»، وعندما أعيد قراءته في بيروت، وأنا في الثلاثين من عمري، سأكتشف أني أقرأ كتابا آخر، لكني سألتقي في المكان نفسه «فوبي»، في ترجمة لرواية «ثلوج ودماء» التي أجهل، حتى الآن، اسم كاتبها. كانت أول رواية في حياتي، تظل الكلمات على غلافها الأخير عالقة بذاكرتي؛ إنها (قصة الحسناء «فوبي» التي ضحت بشرفها في سبيل عائلتها خلال الحرب العالمية الثانية). فوبي التي استعرت شخصيتها بمجرد انتهائي من قرأتها.. يا لفوبي التي جعلت مني بطلة في حصة الإنشاء في مدرستي، حين كتبت عن فتاة تضحي من أجل عائلتها في رام الله.
سأكمل دراستي، وستختلف تجربتي. سأقرأ غسان كنفاني، ومعين بسيسو، وشعراء الأرض المحتلة، وكتاب مجلة «الأفق الجديد» التي كان أبي من كتابها. وسترعى بدايتي مدرسة اللغة العربية، المناضلة السياسية، فاطمة البديري حماد.
كان تاريخ 15 مايو (أيار) ذكرى النكبة، عنوان موضوع درس الإنشاء، حين تركت تلك السيدة ملاحظة على دفتري: «يا ابنتي أنت تمتلكين قلما عليك أن تضعيه في خدمة شعبك». هذه الملاحظة، كانت بداية محاولة كتابة قصة قصيرة، سيتاح لي نشرها في جريدة فلسطين، في زاوية القصة. وقد أدخل عليها مسؤول الزاوية تعديلات. بدأت تلك الزاوية تستقبلني ككاتبة، لتعزز ثقتي فيما كتبت. كانت الكتابة عن فلسطين فقط؛ أنشر كتاباتي في الصحف الأردنية، وأبالغ في انتقاء اللغة. وربما ساهم اسم والدي في تسهيل النشر. لكن اللغة كانت تطغى على كل ما كتبته في تلك الفترة، وكذلك عدم الشجاعة وقلة الجرأة لأكتب عن الحب مثلا.
في 1977 كانت بيروت فضاء بلا حدود للنضج والاختيار في كل شيء، وستكون الكتابة بالنسبة لي كمن يبدأ من أول اللغة. في بيروت انتميت لحركة فتح، وتعرفت على عمالقة في الكتابة، وعرفت الحرب والحب، وبدأت تجربة مختلفة منحازة إلى الرواية، أينما كانت جغرافيتها، إلى جانب البحث في التاريخ الفلسطيني القديم، منذ حطت قبائل كنعان رحلتها وشكلت هوية الفلسطيني. رسمت، وطرزت، وكتبت، وحملت نص التاريخ إلى ما أكتب. صدرت لي مجموعتان قصصيتان وثلاثة كتب عن عملي في الذاكرة الكنعانية، وسرد عن تجربتي البيروتية، وبقيت «فوبي»، ابنة الحرب، معي، تماما كما ليالي مخيم الفوار حين اصطحبني أبي لدروس محو الأمية في مركز وكالة الغوث، ورأيت صورة جمل تحته حرف «ج»، لحظتها، تركت الجمل وأحببت شكل الحرف. عبرت الستين عاما الماضية، هل كتبت روايتي الحقيقية؟ لا أعتقد.. ولا أدري إن كنت سأكتبها، أم أحملها معي في رحلتي الأخيرة.
______
* كاتبة وفنانة تشكيلية من فلسطين/ الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *