*نزار الفراوي
يراهن بنسالم حميش في دراسته لسيرتي ابن خلدون وابن بطوطة على الفكر كطاقة خلاقة ورافد أساسي تُطلب به الحقائق والدلالات، إذ المفكر هو الفاعل المحنك في إلحاق الجزء بالكل والشيء بمفهومه، وهو يتجاوز شريحةَ “المونوغرافيين” الذين تنحصر اهتماماتهم في تحقيق النصوص وضبطها تاريخيا ولغويا، كما يتجاوز صنفَ الباحثين المهتمين بالدراسات التاريخية والمشتغلين على مواد النصوص المحققة المنشورة.
أما عن جاذبية سيرتي ابن بطوطة وابن خلدون وأحقيتهما بالمتابعة والدرس، فإن حميش يرى أن “الترجمة الذاتية في تصورنا لا تستحق اسمها إلا اذا كانت لكاتب يعيش مواقف حدية قصية (المحنة والألم، وعسر التكيف، والقهر السياسي، والسجن، والمنفى، …) أو كانت آخر إشارة اعترافية يقوم بها على عتبة توديع الحياة.
شوق للترحال
ينطلق الباحث في كتيبه الملحق بالعدد الجديد من مجلة الدوحة (أبريل 2104) “عن سيرتي ابن بطوطة وابن خلدون” من سؤال افتتاحي محوري هو: “كيف لنا أن نفهم شوق السفر عند رحالتنا؟ وهل من دوافع عميقة كانت تجعله يشد الرحال ويخترق الآفاق بعيدا؟”
يستخلص حميش من سيرة ابن بطوطة أنه كان ذا زاد معرفي متوسط المستوى، لكنه تميز بذاكرة قوية وحسٍّ استكشافي متوهج. عن شوق السفر عند هذا الرحالة يكتب بنسالم حميش “إن دافعه يتسم بنوع من الإطلاق والخلوص، من حيث إنه لم يكن تكفيرا عن سيئة كما عند ابن جبير، ولم يكن للتجارة كما عند الرحالة ماركو بولو، ولم يكن سفارة رسمية أو فرارا من مهمات صعبة أو مواقف خطيرة كما الشأن عند ابن خلدون، ولم يكن نتيجة إكراه أو قسر كما الحال عند البيروني”.
ويعود إلى نص ابن بطوطة ليحدد هدف رحلته الأولى في أداء فريضة الحج. لكن الأمر كان أكبر منذ ذلك -حسب حميش- الذي يسجل أن رغبة ابن بطوطة كانت بدوافع لا بد من افتراض مقياسها النفسي غير المعلن في التغيب الطويل واختراق المجالات والآفاق، كما يبين ذلك سرده لمنام بدت له نفسه فيه على جناح طائر عظيم يجوب كل الاتجاهات.
بناء على هذا المعطى، تكون للرحلة -كفعل وإنجاز- دلالة اجتماعية وثقافية أكيدة (توخي رفع الضيق عن الذات باكتشاف الآخر، والبحث عن الغنى في الغربة، إلخ) ولعل هذا الشوق إلى البعيد يتراءى في تعجل الرحالة خلال وصفه لجغرافية البلاد التي انطلق منها، والتي بدت مجرد مناطق عبور إلى أماكنه التي يرغبها.
أما حين بلغ الشرق وأنواره، فقد أخذ الرحالة “يستفيض في ذكر مآثره وعجائبه بكثير من الانبهار وما وسعه من دقة”. هكذا يتحدث عن الإسكندرية والقاهرة ودمشق، لكن دون أن تستنفر حاسته “الإغرابية” التي ستتفجر وهو يصطدم بالمجال التركي المغولي المكون من آسيا الوسطى والصغرى والهند والصين. إنها “إغرابية” تعود لتنتعش مرة أخرى في رحلته إلى بلاد السودان القديمة مع ما يصادفه من أنماط اجتماعية وسلوكية وطقوس دينية غريبة عن ثقافته.
تشاؤمية الواقع
في تناوله سيرة ابن خلدون يقارب بنسالم نص “التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا”، وهو يشكل الجزء السابع من “كتاب العبر”، مما يدل على أنه آخر نتاجه.
إنه سيرة فكرية وذهنية لعلامة ولد في تونس وحصّل العلم في المغرب الأقصى وكتب وفكر في المغرب الأوسط، وتملّك الاستقامة السلوكية في أرض الكنانة، مما يجعله تراثا مشتركا بين هذه الأقطار والإنسانية جمعاء.
يستجلي حميش خصائص نفسية طبعتها بنية المغرب وأحداث عصره العصيبة فضلا عن المحن الشخصية للعلامة. فقد كابد ابن خلدون أفدح الرزايا والهزات، واستوعب مكونات عصره التي أخضعته إلى قوانين الاجتماع والتأقلم الوسطي، ومن ثم فإن سلوكياته المتقلبة وتنكره تنطبع في عمق الأطر المجتمعية والنفسية المأزومة التي بات يستمد معنى الحياة منها.
إن البنية المريضة للمجتمعات التي عايشها جعلته على أرض الغرب الإسلامي -أرض العصائب والصراعات المستديمة- يمارس السياسة كشر لا بد منه، ومن ثم كثر استعماله كلمات معبرة عن علاقته بأهل الدولة في جل العواصم المغاربية: “إظلام الجو”، “اتساع الخرق”، “الاستيحاش”، “طلب إخلاء السبيل”، “التخلص من الشواغل وأحوال الملوك”.
وتوقف الباحث عند محنة الطاعون الذي اجتاح البلاد وقضى على عدد كبير من أسرة العلامة. على مسرح المنطقة، اكتسى الوباء كل صفات التراجيديا المنسحبة على المجتمع برمته: سكانيا، انهيار ديمغرافي بفعل الموت. واقتصاديا، تقلص الزراعة والصنائع وأزمة اليد العاملة وتدهور المخزون النقدي. وسياسيا، فشل مشروع توحيد بلدان المغرب وحكمها من مركز واحد. واجتماعيا وثقافيا، تأجج الاختلال الطبقي وتنامي التصوف الشعبي والذهاب إلى الحج.
ويرى الباحث حميش أن الطاعون من بين أهم العناصر المنشئة لتشاؤمية ابن خلدون ولنظريته الدائرية للتاريخ.
ويضاف إلى الوباء حلقات متواترة من المحن، من بينها السجن لاتهامه بتهيئة فرار أمير بجاية أبي عبد الله في ظل أبي عنان المريني، وفقدانه الوزير لسان الدين ابن الخطيب الذي مات مقتولا في سجنه دون أن يستطيع إنقاذ حياته.
هكذا يأتي فرار ابن خلدون إلى تلمسان، حيث لم يكن له من هم سوى التفرغ للعلم، بعيدا عن معترك السياسة، وأعقب ذلك لجوؤه إلى قلعة ابن سلامة (مدينة تيارت بالجزائر) حيث مهدت له الطبيعة الصحراوية والهواء الطلق الخلوة والنفس الكوني خلال مرحلة تدوين المقدمة الشهيرة.
إنها -جغرافيا- وفرت له السبيل ليحقق الاقتران بين التجربة والفكر الأكثر توفيقا في تاريخ التراث العربي الوسيط.
_________
*الجزيرة