الهارب

خاص- ثقافات

*الطيب طهوري

اجر..اجر..كنت تأمر جسدك العاري

يتصبب عرقك ساخنا..بغمر شعاب جسدك وسهوله..يزداد ثقلك..تجر الصخرة متعبا حزينا..السلاسل التي في الرجلين تحيط جهاتك..فقط..جهة الأمام تجذبك..

الطريق أمامك ماء يتثاءب من بعيد..يتلوى ..يفتح فاه سرابا يغري..واليمين واليسار جداران سميكان ..وأنت تجري..

 اجر ..اجر..كنت تقول لجسدك المتعب العاري

السور الدائري العالي خلفك يبتعد..بطيئا يبتعد..

في الداخل كنتَ..كما الآخرين كنت..كما الأخريات..النساء كأنهن الرجال..والرجال كأنهم النساء..لباس أصفر البياض لايتغير أبدا..هو لباس الأمس..ولباس اليوم أيضا..تنزعونه ليلا وترتدونه نهارا..

البيوت أيضا تتشابه..كلها طين ..والناس أيضا طين..

الأكل..

لا شيء يختلف..

كنتَ..كالآخرين والأخريات..تتسكعك الأزقة الملتوية..ترتدي قدميك الرمال الحصبية..

حين تنظر إلى السماء يحملك الحنين إلى هناك..وإلى الأرض تنظر يضغط على كتفيك التعب المباح..

لم تكن وحدك..علي ، حميد، عيسى..و..يعانقكم شقاء الأمل ..كيف تخرجون من هذه الدائرية السورية العالية؟..كيف تنفضون عنكم غبار الأعمار التي تذهب سدى في هذا التيه الحجري؟..

كانت الأفكار الوردية تزوركم من حين إلى آخر..تحضنكم السهول الممتدة بهاء خضرة..تعانقكم الجبال العالية..والريح الشهية تزرع في أرواحكم عشب النهار.. لكنه السور الدائري العالي..

في الداخل أيضا ألبسة داكنة الخضرة تحاصر السور..تنتشر الوجوه المتجهمة القاسية في كل مكان..ليلا ونهارا..البنادق السوداء تنتظر الضغط على الزناد في أية لحظة..

يأتيكم السؤال الأبدي: كيف نخرج من هنا..؟..يأتي أحدكم ومضة ليل ..أو ومضة نهار..في الصبح..او في المساء..تنتقل الومضة إلى الآخر دافئة سخية..تتغلغل عميقا في الداخل..تحرك الساكن..يصير الساكن حركة ذهاب وإياب لا تتوقف..لكنه السور الدائري العالي..من يتم الإمساك به وهو يحاول يخصى..يرمى بعيرا أجرب في زنزانة الحديد الملتهب..من يتم الإمساك بها يقص شعرها، أملسا ، براقا وعاريا يصير..وفي الساحة تُعرض ضحكا هستيريا يضج به المكان..

حين نضجت الخبزة تلقفتموها ساخنة شهية..راقبتم ولأيام طويلة حركة الأخضر الداكن ..أفعاله..نومه ويقظته..

فشل زملاؤك في الصعود..أصعدوك..الثالث على الثاني والثاني على الأول..تسلقت السلم البشري وقفزت..و..

خارج السور العالي كنت تسمع ضرب العصي على الأكتاف والأرجل..كنت ترى الصفعات والركلات.. وكان ألم زملائك عاصفة رمل حمراء تغطيك..

اجر ..اجر..كنت تقول لك

في الحقول تتسارع خطاك..في الغابات تمتد أنفاسك اللاهثة..

عاريا كنت..فقط، ما يغطي عورتك كان لباس الطريق..

أشعة شمس الصباح تمسح على كتفيك بحنينها..والأعشاب البرية بأشواكها تدمي قدميك ..

سأستريح قلت..صعدت الشجرة..بين الأغصان الوارفة رميت جسدك المتعب الحزين..

حين غفوت كانت السيارة الخضراء الداكنة أمامك..انتفضت..كدت تسقط من أعلى الشجرة..أمسكت جسدك ..تلويت على الغصن الندي خوفا..فتحت عينيك على الفراغ..لا سيارة..لا خضرة داكنة..

حملت قدميك المتعبتين وجريت..

في الجري كنت تلتفت ..من حين إلى آخر تدير رأسك إلى الخلف..

السيارة الخضراء الداكنة تثير الغبار من بعيد..

أمامك المنزل الوحيد قريبا..خلفك من بعيد رماد الغبار..

دخلت المنزل ..رجفة الرجلين انكسار الداخل والعينان تحملقان في المكان…

أهلا بك قال البياض أمامك..شرَّعت عينيك عن آخرهما..

لا تخف قال الشيخ..ألقى بالبرنوس الصوفي شديد البياض على جسدك..

لا تخف..كرر..

مسح بكفه على الرأس..رأسك التائهة ارتاحت لكفه..في حجم النملة صرت..مد أصبعه السبابة..صعدت..

تغلغلت في اللحية البيضاء..أمسكت بالشعيرات بينها..

وحدك؟..سألت السيارة الخضراء الداكنة..

وحدي..قال الشيخ..

لا أحد مر من هنا؟

لا أحد..

فتش الذين كانوا في السيارة المنزل..

فتشت السيارة محيط  المنزل..

لا وجود له..قالوا حانقين..

غادرت السيارة الخضراء الداكنة المكان..

على السبابة عدت إلى الأرض..واقفا كما أنت كنتَ..

حملقت عيناك في الشيخ تقديرا..عجز اللسان فيك عن الكلام..ما زال الخوف يسكنك بعمق شديد..

استرح..قال الشيخ..واسترحتَ..

خذ هذه الثياب..استر جسدك..

خرج الشيخ وبقيت وحيدا..

كانت الريح تهب شديدة من جهة الجنوبِ..وكانت السماء التي تتعالى تتوهج بشمس الأصيل..

كنتَ وحدك..لا ..لم تكن وحدك..حاصرتك اللحى السوداء المجعدة..

كانوا يتغامزون..

لامست مؤخرتك اليد الكبيرة الخشنة..ابتعدتَ..لمستها اليد الأخرى..

من أين؟..إلى أين؟..ما زلتَ شابا بهيا..

الابتسامات الصفراء تتعانق في نظراتهم الشهوانية إليك..

الأصابع تفرك بعضها البعض..والنظرات تزداد حدة..

تنحنح الشيخ قادما..نظروا إلى بعضهم البعض..وجهوا أنظارهم دفعة واحدة إلى جسدك ..مسحَت اللحى السوداء المجعدة على أياديهم اليمنى..تغامزوا وهم يخرجون الواحد تلو الآخر..

الليل قريب..قال آخرهم..

خرجوا..

دخل الشيخ ..كسرة الشعير في يمناه..وفي يسراه كأس الشاي..

اجر.اجر..كنت تقول لجسدك المتعب ..

كانت اللحى خلفك تلهث..

وكانت الحدود على بعد خطوتين منك..

وكانت الأشعة الشمسية الذهبية قد بدأت تحضن فيك مداك..
_____
*قاص جزائري

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *