*سلمان عز الدين
إنه وقت سيوران. الحرب التي تلتهم بقايا أحلامنا، العنف الجوال في بقاع الأرض، أصوات الكراهية المنذرة بجولة جديدة للبربرية، أوهامنا الكبيرة التي غرقت في بحور الدم، نبوءات علماء المناخ المهددة بمئة عام وشيكة من القحط..
أي يقين في ظل عالم كابوسي كهذا؟ أي معنى؟ أي حافز على الحياة؟ أي اتجاه علينا أن نسلك للبحث عن الخلاص؟.
إنها فرصة «أساتذة اليأس» ليتسللوا خلف حصوننا التي توهمنا أنها منيعة. وقراء العربية الذين كانوا محسودين على نومهم الآمن في حضن اليقين، وعلى حصانتهم ضد «وساوس» العدمية، قد صاروا الآن على استعداد لإصاخة السمع لإميل سيوران ورفاقه.
لا إحصائيات دقيقة، بالطبع، عن توزيع كتب سيوران المترجمة إلى العربية، ولكن ثمة مؤشرات دالة، أهمها أن الكاتب المتوفى منذ أكثر من عشرين عاماً (1995) غدا اليوم نجماً «فيسبوكيا»، ومقطوعاته المنددة بالحياة، والمبشرة بموت أي معنى، باتت تنافس طرائف برناردشو وأشعار نزار قباني ومقبوسات باولو كويلو ودعابات تشرشل..
«ليس من برهان على ما بلغته البشرية من تقهقر، أفضل من استحالة أن نعثر على شعب واحد، أو قبيلة واحدة، ما زالت الولادة قادرة أن تثير فيها الحداد والمناحات».. هذه الشذرة من كتابه «مثالب الولادة»، لا تزال تسجل ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة التداول بين مجموعات فيسبوكية كثيرة.
ولد إميل سيوران العام 1911 في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا (رومانيا) والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. ومن جامعة بوخارست حصل على دبلوم في الفلسفة، قبل أن يسافر لإكمال دراسته في ألمانيا، وهناك أعجب بالنازية الصاعدة وصار هتلر نجمه المفضل، بل إنه في تلك الفترة، تمنى لبلده رومانيا أن تسير على خطى ألمانيا النازية، فتتخلى عن «رخاوتها وعزلتها» لتغدو «أمة طموحة متحفزة ومنطلقة».. وبعد سنوات قليلة من انتقاله إلى باريس قرر ببساطة أن يغدو فرنسياً. تخلى عن لغته الأم وصار يكتب بالفرنسية، وسرعان ما لفت انتباه الأوساط الثقافية الباريسية، حتى أن كتابه «الفرنسي» الأول «موجز التفكيك» حصد جائزة مرموقة..
في فرنسا تخلى عن طموحاته الفاشية، ومعها تخلى عن السياسة برمتها، مزدرياً «شؤون السطح الدنيوية»، ومتفرغاً للتنقيب عن «العدم القابع خلف كل مظهر»..
بدأ بالنشر مبكراً، وكتابه «على ذرى اليأس» صدر وكان عمره لا يتجاوز الثالثة والعشرين، ومنذ البدايات فضل أسلوب الشذرة (الحكمة الموجزة حسب تعبير نيتشه) في كتابته، وهو يقول عن ذلك: «الشذرة، وهي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة محولة مع كل التناقضات التي تحتويها. إن عملاً ذا نفس طويل وخاضعاً لمتطلبات البناء ومزيفاً بهاجس التتابع، هو عمل من الإفراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقياً..».
يشيد محبو سيوران بلغته الشعرية، مجازاته وصوره المبتكرة،ومفارقاته الذكية، وتراكيبه الطازجة.. وهي أشياء نخشى أن يضيع كثير منها على طريق الترجمة العسير، فلا يبقى لنا إذاً إلا مساءلة الأفكار التي تثيرها شذراته، الانطباعات والمشاعر والرسائل ورؤية العالم.. الكامنة في ثناياها.
يقول هنري توماس في كتابه «أعلام الفلاسفة كيف نفهمهم»، إنه في الفلسفة، في الفكر المجرد، تغدو مقولة «لا جديد تحت الشمس» صحيحة، إذ لا فكرة تموت تماماً، ولا فكرة تولد من عدم. الأفكار نفسها تعاود الظهور ولكن بلبوس جديد كل مرة.. يصعب تبني هذه الفكرة بالإطلاق، ولكنها في حالة سيوران تغدو على قدر كبير من الوجاهة. فبغض النظر عن الصياغات الذكية، والأفكار الصغيرة الطازجة المنثورة في كتبه، فإن المقولات الأساسية لسيوران تبدو خالية من الجدة.
اللامعنى الذي لا شفاء منه، تيمة الموت المهيمنة، تفنيد مثالب الولادة (الوجود)، الانسحاب من العالم، تمجيد العزلة.. كلها كانت قد كتبت كثيراً بأقلام أساتذة سيوران في العدمية (على رأسهم شوبنهور). وفي الدعوة إلى انطفاء الجنس البشري، هناك سلسلة طويلة من الأعلام لا تبدأ بالمعري «هذا ما جناه أبي..» ولا تنتهي بسيوران.
كان نيتشه قد ضرب بمطرقته على رؤوس العدميين، وخص شوبنهور بالسخرية اللاذعة متهماً إياه بالزيف والكذب وعدم الأمانة. الكاتبة نانسي هيوستن تحذو، في كتابها «أساتذة اليأس»، حذو نيتشه، فتقارن بين حياة سيوران الوادعة التي لم ينقصها الاستمتاع والمرح، وبين تفننه في الكتابة السوداوية وإعلان اليأس والقنوط، وتقف خاصة عند وفاته الطبيعية، شيخاً متقدماً في السن، والمناقضة تماماً لدعوته الدائمة والصاخبة إلى الانتحار..
تقول هيوستن: «قد يدهشنا أن هؤلاء الذين تستحوذ عليهم فكرة الموت هم دائماً شباب من عائلات محترمة، ينعمون بالدفء وطيب الطعام، آمنين في أحضان عائلاتهم الميسورة، في حين أن الذين يواجهون الموت كأفق حقيقي وليس متخيلاً.. نادراً ما يصفون نهاية الذات بالغنائية نفسها..»، وتستشهد بقول ل تشيسترتون: «إن اليأس امتياز طبقي مثله مثل السيجار»..
على كل، ليس هذا النقد بالذي يقف حائلاً بيننا وبين قراءة سيوران. غير أن ثمة تحفظاً آخر أكثر أهمية.
في كتاب بعنوان «لقاء» كتب ميلان كونديرا: «في الوقت الذي كنت فيه على يقين بأن اسم سيوران كان يشع على كل القوائم الذهبية، التقيت بمفكر معروف قال لي وهو ينعم النظر بي: سيوران؟ ثم مع ضحكة طويلة وقوية: «غندور عديم القيمة».. لم يحدد كونديرا موقفه، لم يؤيد أو يعارض، ولكن ضحكة هذا المفكر، الذي لم يقل لنا اسمه، وتعليقه القاسي، يظلان ماثلين في الأذهان ونحن إزاء كتابات سيوران. ثمة دوماً حيرة من نوع ما، وثمة سؤال مقلق: هل نحن أمام كتابة استثنائية في أهميتها وعمقها، أم نحن أمام مجرد حذلقة لغوية؟!
وما الذي يبحث عنه قراء العربية عند فيلسوف اليأس هذا؟ ما الذي يجدونه في كتبه؟
ربما هو الصوت الذي يخبرهم بأن محنتهم الراهنة، هزائمهم، همومهم الثقيلة، أحلامهم المحبطة.. ما هي إلا أعراض لداء أكبر هو الوجود الإنساني نفسه؟ وبالتالي فلا شيء يستحق كل هذا التحسر وكل هذا الضيق.. وأنهم شركاء البشرية في مصيبتها الأصلية..
هل هذا العزاء هو ما يبرر ذيوع اسم سيوران، وانتشار كتاباته، في أوساطنا خلال السنوات القليلة الماضية؟.
وما الذي يبحث عنه قراء العربية عند فيلسوف اليأس هذا؟ ما الذي يجدونه في كتبه؟
ربما هو الصوت الذي يخبرهم بأن محنتهم الراهنة، هزائمهم، همومهم الثقيلة، أحلامهم المحبطة.. ما هي إلا أعراض لداء أكبر هو الوجود الإنساني نفسه؟ وبالتالي فلا شيء يستحق كل هذا التحسر وكل هذا الضيق.. وأنهم شركاء البشرية في مصيبتها الأصلية..
هل هذا العزاء هو ما يبرر ذيوع اسم سيوران، وانتشار كتاباته، في أوساطنا خلال السنوات القليلة الماضية؟.