مارغريت أتوود.. أوقات الكتابة




*حوار: جون مولان/ ترجمة : لمى عمار

عندما كتبت مارغريت أتوود رواية «أوريكس وكريك» في عام 2003، بدت معظم الاختراعات المذكورة في الرواية مستحيلة التطبيق لغير العلماء: أصناف مهجنة، تداخل جينات، لحم ينمو في زجاجة بتري، لكنها بعد مرور عشر سنوات ومع إطلاقها لكتابها الأخير «مادآدم» الذي يختتم الثلاثية، بدت فعلاً كجزءٍ من حلقة الأخبار.

من المنصف الاعتراف بأن أتوود تتحلّى بقدرة رهيبة على التنبُّؤ بالتطورات القادمة في مجال التقنية الحيوية، رغم أنها تدين صراحة تقصير العلماء، وترى أن عليهم النظر إلى كتبها والاستفادة منها. 
“أغنام الموهير… لم ينتجوها بعد”; قالت ذلك بأسلوبها المميز، وأضافت بنوع من الحزم: “أعتقد أنها كانت ستكون ضربة تجارية رابحة، يمكنك تخيُّل الكَمّ الهائل من الناس الذين يرغبون في الحصول على شعر من حمضهم النووي» وتبسم سنواتها الثلاث والسبعون، ثم تكمل قائلة: «أمنح ذلك كهدية مجّانية للعالم”.
نحن الآن في المدينة التي احتضنت معظم حياة أتوود في شبابها، لا تزال هنا في تورنتو تتحدَّث بكلام تغلِّفه سخرية محبّبة، وتمتاز ببراعة تصويبها نحو الهدف، ولعلّ هذا ما ميّز كتبها، وأضفى عليها كل هذه المتعة. ففي «مادآدم» يشعر الجميع أنهم مستهدفون، فلا أحد بمنأى عن مراميها: المتديِّنون، الوحوش المتكاتفة، المصطلحات المثالية الحمقاء المتطرّفة، والمجموعات البيئية مميّعة الأهداف”القائمة على حساب النوايا الحسنة التي يفرضها شكلها المدني، وعلى المشاعر المستهلكة التي تنتهي حال انتفاء الحاجة إليها، من بعد أن يشاطروها مع من يظنّون أنهم فعلاً يحملون شيئاً ما”.. ويتوضَّح ذلك حين تُقام موائد خيرية بهدف حماية الدببة القطبية من الغرق.” ينتصب أمامك أخرق بوجه باسم يخبرك عمّا سيقدِّمه جنيه استرليني واحد لحماية الدببة، وعليك أن تدفع المال النقدي وإلا فستكون متورِّطاً في قتل الدببة”. 
في هذه الأيام، نجد كُثُراً يقحمون أنفسهم في مجال كتابة الخيال العلمي، لكن عندما كتبت أتوود لأول مرة رواية خيال علمي، جعلتها تبدو كرحلة جامحة مشوقة، فقد أجادت لعب هذا الدور، وبدت مرتاحة تماماً فيه، وحين سُئلت كيف تنظم حياتها كروائية وربّة منزل، أجابت بطرافة: “سأقول لك، فقط أنظر تحت الأريكة”.
أشاحت أتوود بوجهها عن النقد دوماً ولم تعطه أذناً صاغية، وحين سألتها إذا ما كانت الرؤية الأعمق تفاقم تأثير الفشل، أجابت ببرود: “لقد أخبروني”، لكنها لن تكتب إلا ما يحلو لها، وهذا هو الأمر برمّته. 
على أية حال، ترفض أتوود أن تندرج ثلاثيَّتها الروائية، التي تتوسَّطها رواية «عام الطوفان»، وكانت تودّ تســميتها بـ «حرّاس الرب»، إلا أنها أحجمت عن هذه المجازفة تخوُّفاً من أن تحتسب على «الكتب اليمينية الخرقاء»، في خانة الخيال العلمي. وتفسِّر وجهة نظرها بالقول: “لو كنت أكتب عن كوكب غريب، لكان الأمر مختلفاً. إنه عالمنا مع بعض التحوير”. سيكون مستقبلنا القريب، بإيجاز، عبارة عن “مجموعات حيوية إرهابية” تهاجم ثلّة من الشركات المهيمنة التي حلَّت محلّ الحكومة لتبقي غالبية السكان تحت تأثير العقاقير، وتفشّي الوباء الذي يقضي على الناس، بالإضافة إلى بعض التوقُّعات الأخرى. ففي هذا العالم نجد خنازير مهجَّنة، وأناساً بالغي الدهاء وأصنافاً منحدرة من أصول بشرية، وفي الوقت نفسه نجد فيه دراما اجتماعية منغمسة في وسط الأزمة. 
هي أيضاً رواية حول تحديد الذات ” هناك القصة، والقصة الحقيقية، ومن ثَمَّ قصة القصة التي تروى”. هذا ما أدركته (توبي) بطلة الرواية، وتكمل سائلة نفسها بالنيابة عن الكاتبة: “ماذا هناك أيضاً ليكتب بالإضافة إلى الحقائق اليومية المفضوحة والمؤرخة؟” وهكذا تبدأ كل قصة، مفتوحة لفهم أن جميع الأطراف متساوون، وأن كل ما نحمله من انطباعات قابل للتغيُّر. 
أما عن طفولة أتوود، فقد اعتادت قضاء الصيف في الغابة وقضاء الشتاء في المدينة، ولهذا تقول ” كنت أظن المدينة باردة على الدوام مكسوّة بالثلج، فهذا هو الوقت الوحيد الذي كنت أراها فيه”.كان والدها كارل أتوود عالم حيوانات، وقاد بحثاً في مجال الحشرات (وظّفت تفاصيله في روايتها “عين القطة”)، أما والدتها فكانت أخصائية تغذية. لطالما كانت رغبة أتوود في العلوم حاضرة تماماً، ولهذا لم تحتَجْ إلى مستشارين من أجل رواياتها. 
“لقد تربَّيت على يد عالم أحياء، لذا أعلم تماماً كيف يفكِّر العلماء”، وربما هذا ما يقدره أكثر علماء الأحياء “إنهم قرّائي… لدي متتبِّعون كثر بين المهتمين بالأحياء… لم يسبق أن وضعهم أحد قبلي في كتبه… يقولون أخيراً: هناك من يفهمنا!”. في الواقع، لم تستعن سوى بقراصنة على الإنترنت لتعليمها في رواية “مادآدم” كيف يمكن للشخصيات أن تنجح في اتصال سري في مرحلة الجاسوسية. وتقول أتوود: إن الممتع في الأمر هو مشاهدة الناس يرغبون في تقنيات أقدم، بعد أن يطَّلعوا على الاحتمالات المتوقَّعة، بالإضافة إلى التسريبات الصادرة عن مركز الأمن القومي. 
على عجل، أمسكت دفتر ملاحظاتي وخطَّت شيئاً ما، ثم مَزَّقته بطريقة احترافية، وقالت:” هذه هي الطريقة الوحيدة الآمنة: تمزيق الأوراق ثم حرقها، إياك أن تفكِّر في رميها في المرحاض، فإن في ذلك مجازفة كبيرة، إذ ثَمّة طرق لفتح هذه المراحيض”. وهذا مشابه لما ورد على لسان أحد شخصياتها في “عام الطوفان” حول التقنية الرقمية: “إذا كنت تراها، فاعلم أنها تراك أيضاً”.
أتوود واسعة الثقافة، تجيد إصلاح أغـلب الأشــــيــاء، وتعتــدّ بذكــائها الشديد – على عكس الكتّاب السطحيين الذين لا يدركون ما الذي يتوجَّب فعله في حال تعطُّل النور- وحين تتمشّى في الطريق تخبر من معها عمّا يمكن تناوله في العالم الطبيعي، لعلّ الحاجة استدعت ذلك يوماً ما، وتبرِّر ذلك: “فقط أريد أن يكونوا جاهزين”. 
ومن الآن إلى أن تحلّ الكارثة، ستظل التقنية تسحرها، وهذا ما يبرِّر كونها من أكثر نظرائها الأدباء استخداماً لتويتر، ولا ينافسها في ذلك سوى الكاتب سلمان رشدي. حيث ترى آتود تويتر أشبه ببرنامج إذاعي لا منبراً للترويج للذات: ” يمكنني الإشادة بأعمال غيري على تويتر، لكن ليس بعملي، لن أفعل ذلك أبداً، سيبدو الأمر مضجراً، فأنا أنشر على تويتر ما أشاركه أناساً في المجال نفسه. ففي حال كتبوا عني شيئاً، فإن الدماثة تستوجب مني مشاركتهم عرفاناً مني بالجميل، لكنني لا أقول اشتروا كتابي، إنه متاح الآن باثني عشر جنيهاً إسترلينياً، يمكنني القول: انظروا إلى هذه المرأة ذات الرداء الوردي، لقد قرأت لها رواية مثيرة حديثاً، يمكنك أن تفعل هذا في تويتر، ويمكنك تسخيره أيضاً لحملات الوعي البيئي (وقِِّع على هذه العريضة، واطّلع على السبب، قُمْ بحماية مزيد من النحل) فأنا الآن أكثر شغفاً بالنحل بفضل تويتر”. ثم حدثتني بحماسة لأكثر من عشر دقائق عن عالم النحل، وكيف قُيّمت هذه الحشرة النافعة في عين الفلكلور بالعودة إلى الحضارة اليونانية، وكيف اختلط على العلماء لسنوات جنس ملكة النحل، فكانوا يظنّونها ملكاً، ولهذا السبب، في الشطرنج، يكون الملك ثابتاً، في حين تتحرَّك الملكة حوله. وكيف يطنّ النحل للإعلان عن وجود قفيره، وكيف يستشعر خوفنا منه أو مشاعرنا السلبية نحوه، وكيف يتصرف بود رغم أنه قادر على اللسع. لقد بدت حكيمة للحظات، ثم قالت «فقط لأنه مشوَّش”!.
تعدّ قدرة أتوود على فهم المعلومات وتذكُّرها توظيفاً رائعاً لذكائها الثاقب، فقد أحسنت استخدام معلوماتها الوفيرة عن النحل في رواية «مادآدم»، العمل الروائي يتطلَّب غزارة معرفية لتفادي وقوع القارئ في الملل. ومن المعروف عن الكاتبة أنها قد تكتب 150 صفحة، ثم تشطبها لأنها تدرك أنها ليست سوى مهرب من كتاب أخر أكثر تعقيداً عليها أن تشرع به. تروي لنا أتوود ما حدث معها في «قصة الخادمة»: ” كان لديّ تصوُّر على الفور قبل أن أبدأ الكتابة، نعم وهذا ما حدث معي أيضاً قبل كتابة رواية «التسطّح»، لكنني لجأت إلى مسافة آمان، وأيقنت أن هذا العمل قد يلاقي نجاحاً، ولكن من المؤكد ليس بهذه الطريقة، لذا عدت إلى نقطة الصفر، وباشرت متخذةً منحىً مختلفاً… إلا أنك، ومع مرور الوقت، تصبح أكثر راحة في إطلاق الكتب، ولن تجد المواد مرعبة”.
تعدّ رواية “قصة الخادمة” أول موطئ قدم لها في عالم الخيال العلمي، وقد حصدت الكثير من الردود الجيدة. ناهيك عن براعتها الأدبية المشهودة، أثنت نساء كثيرات عليها. فقط تحيُّزاً لأنوثتها، كما لاقت إعجاب الكثير من القراء الذكور بفضل المشهد الذي ترسمه لعالم معقَّد. “لقد شدّتهم التصميمات الميكانيكية والمعمارية، ولا أعني بالقول إن النساء لم يفضِّلن ذلك، لكن الأمور الهندسية دوماً تجتذب الذكور، فيهتمون بكيفية تصميم المكان، وبوجود الأسلحة وبكيفية استخدامها، ونشوب الحروب، وتشكُّل المجموعات السرّيّة.. ” غير أنها تلقَّت الكثير من الرسائل الغاضبة، من مجموعات دينية كان يفترض أن تكون أكثر وعياً، ولا تُدرج نفسها مع المجموعات المتشدِّدة الواردة في الرواية. 
كتبت أتوود دوماً عن نوع معين من الوحوش أو نوعٍ أخر، ففي «عين القطة» سَلَّطت الضوء على متنمرِّ المدرسة. وفي موقع ثقافي على الإنترنت يدعى (واتباد)، كتبت أتوود مسلسل زومبي بالشراكة مع نعومي ألدرمان، تحت عنوان «منزل شروق شمس الزومبي السعيد». تمدّنا أتوود ببعض التفاصيل حول هذا العمل: “لكل واحدة منا شخصية، أنا ألعب دور الجدة التي تحارب ضد الزومبيين باستخدام أدوات الحديقة، وهي تلعب دور الحفيدة. يبدأ المشهد بالحفيدة تخبر جَدَّتها: “أمي أكلتُ للتو والدي في المطبخ. ماذا علي أن أفعل؟”، وتقول الجدة: “لم أحبّ يوماً تلك المرأة. الأنانية… الأنانية… الأنانية هي كل ما يشغل تفكيرها”. 
في الواقع، هذا أحد اهتماماتها، رغم أنها تعتقد أحياناً أن متتبِّعيها يعتقدون «أنه أقلّ من مستواها»،إلا أنها منحت الزومبي الكثير من الأفكار والمضامين كما سبق وفعلت في أمور أخرى:”هناك فارق كبير بين الرجل الذئبي أو المستذئب والزومبي. الزومبي يوجد دوماً ضمن مجموعات، لا يمكن أن يكون منفرداً. بينما دراكولا، وإن صنع العديد من الأتباع، إلا أننا نجده منفرداً، كما أن مصّاصي الدماء دوماً أغنياء، لأنهم يعيشون طويلاً، ويكنزون مقتنياتهم الثمينة، ويميلون إلى أن يكونوا أرستقراطيين. من عادة مصّاصي الدماء أن يستمتع بالتجوُّل والطيران والعيش الأبدي، أما الرجل الذئبي فيحصل على متعته من روح الحيوانات، بينما لا يكون الزومبيون أغنياء ولا أرستقراطيين، هم فقط يمشون متثاقلين من مكان لأخر. إنهم ظاهرة جماعية، ليسوا سريعي الحركة، هم مرضى فعلاً… فما المتعة في أن تكون واحداً منهم؟” لقد أطالت الشرح لي بعدم وجود أية متعة في ذلك. 
وبنظرة منتصرة أكملت: “أنت لا تحمل أية مسؤولية! فهذه ليست غلطتك، ولا يمكنك تقديم شيء. ولا تتوقَّع شيئاً مني، أنا فقط أحاول التملّص. عليهم أن يسرعوا قليلاً”.
في” الحرب العالمية Z” جعلوهم يطيروا. 
“صحيح، هذا أفضل فقد بدأ الأمر يصبح مملاً”. 
أكثر ما يشغل أتوود في هذه الآونة مشكلة الوقت. فقد فرض نجاحها جوانب سلبية، كمطالبتها بمنح صوتها لقضايا عامة، أمور باتت تشغلها عن الكتابة. في السابق، أثناء كتابتها لـ»مادآدم» تحلَّت بمهنيّة عالية، والتزمت بالوقت حتى أنها طوت صفحاتها الأخيرة في قطار:” لدي الآن شعور بدنّو دقّات الساعة، فلو سألتني: هل ستقدمين على عمل كبير مجدداً؟ لربما أجبت: لا. بينما لو كنت لا أزال في الأربعين من العمر، لكان ردّي: نعم طبعاً، ودون تفكير”.
حين دخلت أتوود مضمار الكتابة، كانت موضوعاً يثير سخطاً اجتماعياً، لأنها ربة أسرة في الوقت نفسه. لكنها قالت:” بحق السماء، ما بال هؤلاء الناس لا يكفون عن حشر أنوفهم في هذا الموضوع؟ من قال أن عليّ أن أنجز أموري المنزلية أولاً؟ ثم أقوم بذلك ثانياً؟ وأصبح كاتبة ثالثاً؟ لا أحد يشهر سلاحه في وجهك… لا يهمّ من قال هذا؟ ومن قال ذاك؟”.
في آخر مقال نشر لـ «لورين ساندلر» نصحت فيه الكاتبات ألا ينجبن أكثر من طفل واحد، إذا ما أردن أن يحققن أي إنجاز مهني، الأمر الذي أثار حفيظة أتوود:” يستطعن أن يفعلن ما يشأن. دعيهنّ وشأنهنّ. كان لـ «أليس مونرو» ثلاثة أطفال، وأنا شخصياً كنت أودّ أن يكون لديّ المزيد”. (لأتوود بنت واحدة تعيش في بروكلين).”هذا القرار يرجع تماماً لكِ، افعلي ما تشائين، فإن لم ترغبي في الإنجاب ليس عليك أن تنجبي الأطفال، أما إذا رغبت في ذلك فأنجبي كما تودّين. إذ ثمة عواقب في الحالتين”. فكّرت لبعض الوقت، ثم قالت:”مسكينة شارلوت برونتي، لم يكن عليها أن تنجب الأطفال لأن هذا ما أودى بحياتها، لكن شقيقتها إيملي لم يكن لديها أولاد، وقد ماتت على أية حال. أكره أن أبثّ ذلك لك، ولكن عاجلاً أم آجلاً ستموت، والمسافة الفاصلة ملكك وحدك. انتهز هذه المسافة”.
تحكي أتوود عن خبرة قاسية عاشتها:”أنا من الجيل الذي تربّى على اعتقاد أن النساء مجبرات أن يكرِّسن أنفسهن لمهنتهن… ليس بإمكانهنّ لعب أكثر من دور… لذا صممت على المجازفة..”. لقد عاشت أتوود في مزرعة عندما كانت ابنتها لا تزال طفلة، وكان زوجها كثير المشاغل،”وظّفنا من يساعدنا في العناية بالأغنام والأبقار وقيادة الجرارات والمراسلات. أحياناً قصّرنا في رعاية طفلتنا، ولكن كان هناك من يساعدنا في ذلك يومين في الأسبوع، وبالطبع لا نلوم أنفسنا كثيراً على ذلك”. 
حتى في تلك الفترة من حياتها، ظلّت قادرة على التوفيق بين الكتابة وأعمالها اليومية، كانت تترك الكتابة لساعات راحتها:” إذا كان لديك عمل في النهار، فأمامك الليل لتكتب، فالأمر يرجع إلى مدى رغبتك في القيام به. فإن لم تودّ التورُّط فيه، أرمِه من الشباك، اختر ما تشاء من دون أن تنتحب. أعتذر على كلامي البراغماتي، ولكن الغبار المتراكم تحت سريرك أمر يعنيك، ولا يخصّ أحداً أخر”.
وكيف كان صدى هذا الموقف على المجتمع؟ “هل تعني أنه كان قاسياً، مريراً، عدوانياً، وحشياً؟ نعم لقد كان كذلك”.
تتقدَّم سيدة تجلس على بعد عدة طاولاتٍ منا، وتقاطعنا:” هل يمكنني تقديم كأس شامبانيا، سيدة أتوود، لقاء كل متعة القراءة التي منحتيني إياها على مدار أعوام؟” أجابت أتوود:”آه، حقاً إني أقدِّر ذلك، لكن ليس في هذا الوقت من النهار”.
سألتها: هل تستطعين تخيُّل نفسك متقاعدة، كما فعلت مونرو مؤخراً حين أعلنت اعتزالها الكتابة؟ وفجأة بدت أتوود شديدة الغضب:” لا تصدِّق ذلك… الناس يقولون ذلك فقط، ولكن المعنى الحقيقي لهذا هو أنها قد سئمت منهم، وكأنها تقول لهم توقفوا عن الاتِّصال بي وإزعاجي، لقد اعتزلت، والآن أصبح بمقدوري الكتابة أكثر! إن الكتابة ولع شديد، ما إن تشعر بالتحرُّر حتى تأتي إلى رأسك فكرة جديدة تدفعك للكتابة، وكل ما تريده مونرو هو أن لا تكون مجبرة”.
والنهاية الوحيدة هي أن يفرض شيء عليك سواء أكان كبيراً أم صغيراً، كما ورد على لسان أحد شخصيات «مادآدم». سألتها:ما المتعة في توقع نهاية العالم؟ ” تكمن المتعة في أن نعيشه سلفاً، ومع وعي لا يزال بشرياً تماماً. فمن المستحيل أن ينتهي الجنس البشري، ومن ثم تكتب قصة عن النهاية، فعلى الأقل أنت بحاجة لشخص حيّ تروي له القصة. هذه كأحجية: أين سأذهب بعد أن أموت؟ أنت لا تزال تتخيل ومثلك أنا”.
“فكِّر للحظة، وستدرك ما أتكلَّم عنه”. هذا ما تقوله أتوود، توقَّف عن تضييع الوقت في اختلاق المبرِّرات، وانتقلْ إلى النقطة التالية،”وكأن القصة قد انتهت وأنت عالق تسأل: ثم ماذا سيحدث؟ حسناً سيتحرَّر التنّين، وسيكون هناك قدس جديدة، وسيخلق الله عالماً جديداً. لا يمكنك السؤال بسذاجة: أهذه هي نهاية القصة؟ لكن يمكنك السؤال: ما القصة التالية؟..”
عن الغارديان 
____________________
**نصائح مارجريت أتوود:
– خذ قلم رصاص لتكتب به في رحلات الطيران. أقلام الحبر تطفح. لكن إذا انكسر قلم الرصاص فلا يمكنك أن تبريه وأنت في الطائرة، لأن الأشياء الحادة غير مسموحة على متنها. وبالتالي: خذ قلمين من أقلام الرصاص.
-إذا انكسر القلمان، يمكنك أن تقوم بعملية شحذ فظّة باستخدام شريط تثبيت الملفات من النوع المعدني أو الزجاجي. 
– خذ شيئاً لتكتب عليه. الورق جيد. وكبديل ستفي بالغرض قطع من الخشب أو ذراعك عند الضرورة. 
– إذا كنتَ تستخدم كمبيوتر، فلتحرص دائماً على حفظ النص الجديد على أداة تخزين خارجية. 
– قم بتمرينات للظهر. الألم يشتِّت.
-احتفظ باهتمام القارئ. (الأرجح أن هذا سيكون أفضل إذا استطعت الاحتفاظ باهتمامك أنت) ولكنك لا تعرف من هو القارئ، لذا فإن الأمر أشبه بمحاولة اصطياد سمكة بنبلة في الظلام. الشيء الذي سوف يسحر (فلان) هو نفسه الذي سوف يضجر (علّان) ضجراً لا زيادة فوقه. 
– أغلب الاحتمالات أنك بحاجة إلى معجم، وكتاب نحو أوّلي، وإحساس بمتطلَّبات الواقع. وهذه النقطة الأخيرة تعني: لا يوجد غداء مجاني. الكتابة عمل، وهي مقامرة أيضاً. لا توفِّر لك معاش تقاعد. يمكن للآخرين أن يساعدوك قليلاً، ولكن في الأساس أنت وحدك تماماً. لم يدفعك أحد للقيام بهذا: أنت اخترته، فلا تبك، ولا تَنُحْ.
– لا يمكن لك مُطلقاً أن تقرأ كتابتك بالتوقُّع البريء نفسه الذي ينتابنا مع قراءة الصفحات الأولى الممتعة من كتابٍ جديد، لأنك من كتبت هذا الشيء. أنت كنت في الكواليس، ورأيتَ كيف يخفي الساحر الأرنب في القبعة. ومن ثَمَّ فلتطلب من صديق قارئ أو من اثنين أن يلقوا نظرة عليه قبل أن تدفع به إلى أي شخص في عالم النشر. يجب ألا تربطك بهذا الصديق علاقة عاطفية، إلّا إذا كنت تنوي فسخ العلاقة.
– لا تجلس مستسلماً في قلب الغابة. إذا فقدت طريقك وسط الحبكة أو أعجزتك الكتابة، فلترجع بخطواتك إلى حيث بدأ الخطأ. ثم خذ الطريق الآخر، و/أو غيّر الشخصية. غيّر زمن الجمل. غيّر الصفحة الافتتاحية.
– الصلاة والدعاء قد ينفعانك. أو قراءة شيءٍ آخر. أو أن تتخيّل صورة واضحة للكأس المقدَّسة باستمرار، والكأس هنا هو النسخة المنتيهة والمطبوعة من كتابك البديع.
** ترجمة – محمد عبدالنبي
________
* مجلة الدوحة 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *