هناك إلى حدّ ما عن محمود درويش

*خيري منصور

كم كنت أود أن تقترن الكتابة عن محمود درويش بيوم ميلاده وليس بيوم الرحيل، فهو شأن أنداده في تاريخ الإبداع ولد مرارا، ولم يمت تماما، لكن اليوم الثامن من الشهر الثامن من عام 2008 مكث في الذاكرة وكانت له ظلال وأصداء في القلب يصعب عليّ أن أتخطاها، فجرس الهاتف الذي أيقظني من النوم في القاهرة كان له رنين المعول الحجري، كما يقول بدر شاكر السياب، في تلك اللحظة كان الصديق نبيل عمرو سفير فلسطين في القاهرة على الطرف الآخر، وحين أبلغني بالنبأ طلبت منه أن يعيده ثلاث مرات، لأن الشك تسرب إليّ حول ذاكرتي وقدرتي على الاستيعاب، وعلى الرغم من ذلك لم أصدق لأنني والصديق نبيل كنّا على موعد معه في القاهرة، وكانت مجلة «الهلال» تهيئ عددا خاصا به، والأصدقاء من المثقفين يعدّون له أمسية احتفائية في دار الأوبرا، لكن كان عليّ أن أصدق ليس بسبب كثرة المصادر عن رحيله، بدءا من الفضائيات حتى الأرضيات وكل وسائل الإعلام، بل لأنني أدركت بأن ما توقعه قد حدث، وخيّب القدر ظنّه وظني معا، وأعترف بأن حفيدتي ابنة العام الواحد هي التي أعانتني على احتمال ما لا يُحتمل، فكانت هي جدتي مثلما كان محمود الأب الذي أنجب ذرية من القصائد، وإن كنت أشعر أحيانا حين أضع أعماله الكاملة بين يدي أن القصيدة يمكن لها أن تكون أيضا أرملة.

منذ تلك الظهيرة الأشبه بمقطع ليلي في عزّ النهار كُتب عن محمود ما لا يقوى على قراءته، ولو عاد إلى الحياة وقرأ معظم ما كُتِب لاغترب عن نفسه، لأن هناك محمودا آخر ساهمت في إعادة إنتاجه مخيلات مهجوسة بالتقمّص وإسقاطات ورغائب لا آخر لها، فمن صافحه على هامش أمسية روى حكايات عن علاقته به، ومن أعجب به حد التماهي تحول كخادمة جان جينيه إلى حالم بغيابه، وكان قبلنا جميعا هو الأدرى بما حدث وأعلن مرارا أنه مرغوب فيه ميّتا وإن كان للموت ما لا يحصى من الرذائل، فإن أقساها وأقصاها معا هي رذيلة العجز عن الدفاع عن النفس، وهذا ما قاله رامبو قبيل رحيله لأخته إيزابيل، ولا أدري كم من الخيال يحتاج المرء كي يتصور ما الذي كان سيقوله محمود عمّن تقاسموه وهو في التابوت ومن اختطفوه أيضا، ورغم وفرة ما كتب حوله وليس عنه إلا أن منجزه الشعري لم يظفر بما يليق به من استقراء، وهذا ما كان يشكو منه حيا، وهذه مناسبة لاستذكار مساء شجي تقاسمناه في عمان، وكان الكلام كله يدور حول كبرياء الصمت ورواقيته، أما المناسبة فهي عبارة وردت في كتاب «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف، وهي أنه تعلم الكلام في سنتين وتعلم الصمت في ستين عاما، وانتهينا إلى مأساة كورديليا في مسرحية «الملك لير» لشكسبير الابنة الصغرى التي لم تمسرح عواطفها واختصرت مأساتها بقولها: إن حبي أرجح وزنا من لساني!

وما حدث بالفعل عشية الرحيل هو أن من كان اللسان لديهم أرجح وزنا من الحب ثرثروا بلا حدود، ومنهم من صفى حسابا أو تداوى بتلفيق علاقة من طراز صداقة من طرف واحد، ورغم مرور تلك الأعوام إلا أن موعد الكتابة عن محمود وليس حوله لم تأزف بعد، وكأن الصلصال لم يبرد في الإناء بحيث أجازف بأن أدس أصابعي فيه.

ومن عرفوا محمود عن كثب يفاجئهم ما يقرأونه أحيانا عن شخص لا يشبهه على الإطلاق، إن لم يكن نقيضه، فالشهرة التي نعم بها منذ صباه الشعري كانت ذات أعراض جانبية تتخطى الصداع والغثيان، بحيث أصبح محمود الإنسان مقشورا من صفاته وبشريته لصالح ما هو شبه أسطوري، مما يتطلب فك اشتباك نقدي، يعيد إلى القصائد ما لها ويعيد لشاعرها ما له وما عليه، فقد تعرض محمود لاختزالات ظن من مارسوها أنها تضيف إليه وهي في الحقيقة تقترض منه، ومنها بل في مقدمتها اعتباره شاعرا فلسطينيا عليه أن لا يخرج عن النص، سواء كان جغرافيا أو تاريخيا مما أوقع البعض في قراءات تعسفية وبروكوستية لنصوصه، بحيث يجري تعذيبها كي تعترف بما لم تقترف، وقد تكون أهمية شاعر مثله أنه أنسن فلسطين وعولمها بالمعنى الكوني للعولمة، وله الفضل في اختراق ذلك الحاجز المزمن الذي حال دون المناداة بالمواطن العادي والوطن البسيط، وحاول بالفعل إعادة الاعتبار لما هو عاديّ، وإعادة البطولة إلى من يستحقونها من بشر تتدلى جدائل الثوم من سقوف بيوتهم الصغيرة، وقد يستغرب البعض ممن يميلون إلى أسطرة الشاعر، أن محمود درويش كان يشعر بالقلق كما شعر به في الكتابة الأولى حتى آخر نصوصه، وكان له فضيلة الإحساس الدائم بالنقصان، بحيث يحسد بإشفاق من ينتشون بالرضا عن كل ما يفرزون وليس فقط ما يكتبون.

إنه الآن هناك، لكن ليس تماما، فله هنا وفي تفاصيل ما يحيط بي أثناء كتابة هذه السطور ما يضاعف من سطوع الحضور في أقصى الغياب، وله ظلال وأصداء في مئات النصوص التي استلهمته أو حاولت السطو عليه، لكن بفجاجة فاضحة، وفوق ذلك كله فإنه مبثوث في أشواق من تقاسموا معه الحلم، حيث العودة يجب أن تكون إلى الذات أولا، فالغربة الأنكى والنزوح الأقسى ليس عن أرض بقدر ما هو اغتراب عن النفس، إنه الآن هناك، لكن إلى حد ما حيث ينام قُرب نفسه تماما.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *