محمود درويش في الخامسة والسبعين

*منصف المزغني

1-
حدث ذات يوم قائظ من صيف 2008 ، كان الخبر يطير من غرفة عمليات القلب في مستشفى ….. الى وكالات الأنباء العربية وهذا الأمر لم يحدث الا مع نزار قباني، وكان الطبيب الجراح عراقياً، من هو؟ لقد خَمٰل ذِكْرٰه بعد أن توقف قلب الشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش، وفشل في إنقاذه.

2-
أتذكرك يا محمود في التاسع من الشهر الثامن، من كل عام، كان الفراق مبكّراً جداً، لقد لاحظت أن الشعراء يموتون في الخامسة والسبعين، كما فعل اللذان من قبلك، نزار قباني (1923-1998) و عبد الوهاب البيّاتي (1926- 1999)، وكما فعل من بعدك شقيق حياتك سميح القاسم الذي مات وهو في الخامسة والسبعين ( 1939-2015) وصديقك المصري عبد الرحمان الأبنودي ( 1938-2015) وهكذا ترى يا محمود أنك غادرتها باكراً قبل 8 سنوات، في اليوم التاسع من الشهر الثامن من السنة الثامنة من الألفية الثالثة بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام.

3-
السلام عليك يا محمود
ان سنة 2008 هي السنة الثالثة قبل ما سوف يسمى سنة الربيع العربي ( 2011) الذي بدأ بتونس، انطلاقا من مدينة سيدي بوزيد القريبة من مدينة قفصة في وسط البلاد التونسية. آتذكر قفصة التي كرَّمتك واحتفى النقاد والشعراء والجمهور بشعرك.

من مدينة سيدي بوزيد، انطلقت الشرارة من شاب اسمه محمد البوعزيزي، أحرق نفسه، فلم يبقِ ولم يذرْ رئيس جمهورية عربية واحداً مرتاح البال حتى انقلبت الأحوال في تونس وهرب الرئيس زين العابدين بن علي الذي استقبلك ذات يوم في قصره الرئاسي، هرب الى الشقيقة السعودية، ولم يسمعه التونسيون منذ اكثر من خمس سنوات، مما أغرى الممثلين بتقليد نبرة صوته، واستعادته مثل أي حنين.

بعد تونس، يا محمود، طارت شرارة البوعزيزي الى مصر ثم الى ليبيا والبحرين واليمن وسوريا، حتى نسي الناس فلسطين، أو لعلك العرب صاروا يعرفون ما معنى فلسطين بعد أن جاء هذا الربيع، وشبع الناس بالحرية، والديموقراطية، وتنعموا بتعدد الأحزاب، وجاعوا إلى الشغل والتشغيل، وارتفعت أصوات الديموقراطية، وارتفعت الأسعار التي لم يعد احد قادرًا على هزمها أو اللحاق بها، والتحكم فيها حتى أصيبت أغلب الشعوب العربية التي أصابها الربيع بمرض اسمه “الحنين إلى الدكتاتور”، واكتشف الناس أن الربيع العربي كان عبرياً في الصميم، ولا هدف له غير تثبيت الإسلامجيين في السلطة .

هكذا صارت الشعوب العربية تدرك ما معنى فلسطين لأن بلادك التي كانت تسكن وجدان العرب صارت معنى من معاني فقدان الوطن، بل إن بعض بلدان العرب صارت تؤسس غربة مواطنيها، فيها، وصارت فلسطين مفهومة عملياً بعد أن كانت متخيلة نظرياً، وبات من الممكن أن يحيا العربي فلسطينه الخاصة به وهو في موطنه .

تعددت فلسطين، واشتد الحنين إليها. من جراء هذا الربيع الأخرق الذي بات لا يعني الثورة أكثر من أنه برنامج غريب ودكان عجيب لبيع الوهم بالثورة.

محمود ،
إنّ ما أفرزه الربيع هو عودة الإخوان المسلمين من المنافي، لا لاسترجاع فلسطين، ولكن لاستعادة الأمل في الخلافة، والتبشير بالخليفة الجديد الذي أسس في الظلام دولة التنظيم الاسلامي التي تضرب في كل مكان في الأرض، وفي كل دول الدنيا، إلا في فلسطين المحتلة، دولة الكيان الصهيوني إسرائيل.

4-
محمود ،
سنة 1986 ، كتبت،”على هذه الارض ما يستحق الحياة ” ولعلك قلت العبارة إثر نشوة ما أصابتك بباريس، هذه المدينة التي تبيع شعرك بالفرنسية أكثرمما تبيع من الشعراء الفرنسيين.

لقد أحببت هذه العاصمة العالمية، ومطاعمها، ومقاهيها، وكانت لغة رامبو بعيدة عن لسانك إلا من بعض العبارات الودودة. لقد كانت هذه المدينة مدينة سارتر وكامو وأندريه مالرو واراغون وهنري ميشو.

وهذه المدينة التي أجرى لك فيها الطبيب الفرنسي عملية خطيرة ناجحة على القلب، وفاز عشاق شعرك بجداريتك الشعرية. هذه المدينة العالمية والإنسانية شهدت عمليات شماتة في ثقافتها. وانتقام من جمالها، لا لشيء إلا لأنها مفتوحة للجميع، وتتطلع إلى أن تكون منارة حرية، ومن هذه المنارة، تطلع جماعة من المسلمين يسمون داعش لزرع الرعب والبارود في مدينة الورود.

وثمة من يحسدك يا محمود لا لأنك عشت سنوات في باريس، ولكن لأنك لم تعرف ولم تقرأ ولم تشهد ما فعلته داعش من شنائع في باريس، وفي أوروبا.

أعرف أنك لا تعرف داعش، ولكن القارئ يعرفها، فأنت لن تقرأ رسالتي هذه إليك.

يا محمود،
باريس هي التي فازت بالنصيب الأوفر من انتقامات داعش، فقد هجموا على مجلة ساخرة وقتلوا فريقها وأسرة تحريرها، وكبار رساميها. وقتلوا الناس في الملعب الرياضي، وأنت تحب متابعة كبريات الفرق الرياضية، وقتلوا ناساً أبرياء يشربون الشاي أو الخمرة في هدوء وسلام.

5-
مجلة “الكرمل” التي أسستها أنت وأنهيتَ مهمتها أنت، وكأنك تقول “انتهت المهمة”،
وها نحن يا محمود نشهد سقوطاً حراً للمجلات الثقافية العربية، واحتفاظها البطيء وكأنّ الثقافة العربية تقول عبر وزارات الثقافة:
ليس الآن وقت ثقافة، ولا وقت لمجالاتها، خاصة بعد أن حل الربيع العربي عاري الرأس وبلا ثقافة أو صحافة ثقافية ، فلا وقت لها في زمن الهواتف الذكية.

وَيَا محمود
انت لا تعرف الفيس بوك إلا قليلا، فهذا موقع للتواصل الاجتماعي يتكاثر فيه أهل الشعر والتشاعر، وفيه ينسبون لك أقوالاً تعجبهم، ولا يحيلون على المصدر الذي أخذوا منه أقوالاً ليست لك، ولكن هناك قراء يحبونك وينسبون لك ما طاب لهم من أقوال لم تقلها أبداً، ولكن ألفوها، وزفّوها للقراء مشفوعة بصورتك.

المطربون والمطربات الذين كانوا يغنون شعرك، تَرَكُوا شعرك بعد أن تركت الحياة، والنقاد الذين كانوا يتابعونكم شعراً ونثراً أهملوا مدونتك، وانخرطوا في البحث عن رواية جديدة وصاحب جديد فلا وقت للشعر في زمن الرواية .

وأما مؤلفاتك، فإن الناشر لم يعد يجني منها شيئاً كثيراً لأن أعمالك باتت منشورة بالمجان على الإنترنت، ولا عزاء للناشرين الذين يريدون أن يرثوك ميتاً، وأنت لم تترك أولاداً حتى يفهموا في حقوق التأليف العربية المنهوبة مثل فلسطين.

6-
ماذا أخبرك ؟
لقد نشروا لك كتاباً جمعوه من مجلة اليوم السابع وهو بعنوان “خطب الديكتاتور الموزونة”، وأنت نشرته في المجلة الفلسطينية التي كان يديرها بلال الحسن من باريس، نشروا لك هذا الكتاب غصباً عنك.

هكذا الشاعر يمكن أن يتحكم في حياته، ويمكن له أن يختار ما يشاء من دواوينه ضمن أعماله الكاملة، ويقصي ما يشاء كما فعلت مع ديوانك الأول: عصافير بلا أجنحة الذي اجتهدتُ طويلاً حتى حصلت على نسخة منه، بعد إقصائك له من المجموعة الكاملة
ولكنك لم تستطع أن تتحكم من وراء الموت في ما يرغب فيه الناشرون الذين لا يعنيهم غير الربح، وحدث ما حدث من أخطاء في كتابك الاخير الذي لم تره عيناك، ( لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، وعملوا عنك مسلسلاً مرتجلاً سريعاً في ثلاثين حلقة، وتكلمت زوجتك الأولى كما أرادت دون اعتراض منك، وروت روايتها كما اشتهت، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر .

جنازتك كانت رسمية جداً، وشعبية جداً، وجثمانك وصل على طائرة من دولة الإمارات العربية المتحدة.

سنوات مرت، وأنت تكبر رغم الغياب وتصل إلى سن الخامسة والسبعين، فسلاماً على روحك، وإلى رسالة أخرى، بلا رد في ذكرى أخرى .

ختاماً،
ضريحك في رآك الله تحفة ثقافية، وقد صار مزاراً، ومكتبة، وأنت مغبوط عليه ومحسود يا محمود.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *