كيمياء العمر


خليل قنديل

من قال إننا بدأنا نعتذر عن التواصل مع أدق تفاصيل الحياة، وإننا لم نعد نتشبث بقشة العمر؟ ومن قال لكم إن هذه الانحناءة في القامة هي اعتذار مفاجئ عن التواصل مع الحياة، وليست استعداداً فطرياً للانقضاض على الحياة؟

إننا مازلنا، ورغم ثقل المهمّة، نواصل فعل التشبث بالحياة، ونحرس صباحاتنا بتلك الدهشة العصفورية ورغبة مباغتة الحياة بالشهيق وبالزفير، ومحاولة اقتحام تلك الدائرة التي تكتظ بها العصافير كي نثير في ازدحامها ذاك الشغب الطفولي المحبب! ونجعلها تحلق مذعورة من تلك المباغتة الطفولية.

إننا مازلنا نقدر على الاختباء في فراشنا الطفولي بانتظار تلك اليقظة التي تفك رموشنا وتجعلنا نحدق بجرأة طفولية بالضوء الصباحي، وزلزلة العتمة الفجرية كي نقبض على تلك اليقظة التي كانت تكشف لنا عن عري الحياة مرة واحدة، ونبدأ بصياغة برنامجنا اليومي في اليقظة، واقتحام يومنا الطفولي المقترح بهمة طفولية هي أقرب إلى رجولة الطفولة المبكرة من أي يقظة مقترحة.

ومن قال لكم إن اعتذارنا لحبيبات العمر ما هو إلا فسحة استراحة من تغوّل العشق علينا وحرماننا أخذ الشهيق وإطلاق الزفير؟

ومن قال لكم إننا لم نعد نحرس صباحاتنا ونحن نشد ثياب الفجر المبكر على رؤوسنا الصغيرة التي نهبها العشق؟ ومن قال لكم إننا اعتذرنا عن الحياة في هذا الوقت المبكر من العمر، أو عن ممارسة كل الحماقات التي وعدنا بها مخيالنا الطفولي الصغير؟ أو أننا تركنا ضجة الحارة وصباحاتها المغطاة بزبدة التجربة المبكرة هكذا لشياطين العمر كي يعبثوا بها على هذا النحو.

نحن مازلنا نتلذذ بطعم المشهد الأول للحياة، نتلذذ بمشهد الفجر بانتظار بوابة بيتنا الهرم كي يفك أضلاعها آخر العنقود، كي يأذن لنا بالانطلاق إلى الشارع الترابي، وبقية الأزقة الترابية، والانعتاق نحو الأحياء ذات النكهة الطازجة، كي نكشف الغطاء عن النوافذ التي كانت تمنحنا إياها صبية الحارة بتلك الأنفة المحرضة على العناق. أو على تلك الأبواب المغلقة نصف إغلاقة، أو أن نذهب إلى سقيفة الجدة وذاك الفراش الدافئ الهرم الذي مازال فيه طعم الآيات وقصار السور، أو «نتعربش» تلك السيارات التي أخذت منّا قامة معيل العائلة حيث الأب الذاهب في وقت مبكر كي يفك أضلاع الرزق.

من قال لكم إن سعالنا الثقيل هذا قد أقنعنا بأن حبل الحياة صغير، وأن الأم التي غافلتنا وغابت على نحو مفاجئ لن تعود، وأن الارتعاشة التي تسكن أصابعنا باتت تؤكد هرمنا المبكر.

من قال لكم إننا ضيعنا في زحمة الغباء العمري كنز طفولتنا هذا الذي كان ينقض على كل شيء كي يعيده إلينا بهياً كأنه في خلقه الأول، أو أننا في هجمتنا المبكرة على الحياة فقدنا تلذذنا المبكر بها؟

نحن – وإن عبرنا من أمامكم بتلك القامة المتهالكة – عليكم أن تحدقوا بنا جيداً كي تتأكدوا من لهفتنا على الحياة، وأن هذا الارتعاش في القامة والأطراف ما هو إلا حالة من التشبث بالحياة حد قتلها وخنقها. فنحن مازلنا نعيد المشهد الأول للبقال، والمشهد الأول لفرّان الحي، ومشاهد أخرى عصية على الإمحاء!

إننا مازلنا نتلذذ بتوقيف الصور في الذاكرة كيلا تهرب منّا بقية الصور التي أسست لأرواحنا ووضعتنا في هذه الطلاقة.

إنها كمياء العمر.


* الامارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *