*لانا المجالي
قد يبدأ الأمر بتلعثمكِ أمام سؤال عابر عن عدد سنوات عمرك، أو شعوركِ بالارتياح لأنّ موظف البنك أعاد إليكِ بطاقة الأحوال الشخصيّة، دون أن يلفت انتباهه، على ما يبدو، تاريخ ميلادكِ المُثبت عليها.
في مجتعاتنا الشرقيّة، قد يبدأ الأمر قبل هذا بكثير؛ عندما تحملين لقب (عانس) وأنتِ في نهاية العشرينات فقط، أو عندما تدخلين-أنتِ الأربعينيّة- متجرا للملابس النسائيّة الراقية بعد أن وقعتِ في غرام ـفستان يفيض بهجةً بلونه البرتقالي، وتعرضه (المانيكان) داخل الواجهة الزجاجيّة، فيرافقكِ البائع-دون أن يتخلى عن ابتسامته وتهذيبه- إلى زاوية تحتلّ مساحة ضيّقة من متجره مترامي الأطراف، تقتصر ألوان الثياب فيها على الأسود والكحلي والبني الغامق.
لن يتوقف الأمر هنا، فمساحة هذه الزاوية ستبدأ بالتناقص كلّما زاد الرقم الذي يحدد عمركِ بالسنوات، حتى تتلاشى تدريجيا، تماما كابتسامة البائع. كابتسامتكَ عزيزي القارئ، وأنت تردد في سرّك: “برتقالي!. المتصابية”، رغم إنني لا أفهم سرّ العلاقة التي تربط الألوان التي يرتديها الإنسان بعمره أو جنسه، أو حتى السبب وراء توجيه تهمه “الغواية” إلى ألوان بعينها مثل: الأحمر، والأصفر والبنفسجي.
هل يعني هذا أنّ مواجهة مشكلة التقدم في العمر مشكلة تتعلق بالنساء فقط؟ كلّ النساء على اختلاف خلفياتهن…الخ؟ هل (المجتمع/ الآخر) هو المسؤول عن “أزمتها” تلك/ وهل هي مجرد “أزمة”؟/الخوف من الموت أو الخوف من موت “الأنوثة”؟ هل المرأة (موجودة) دون أنوثتها/بأيّ صفة؟ هل عليها أن تقبل بالأمر الواقع/ ترفض/هل هناك خيار آخر؟.
الحقيقة، أنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والبيولوجيّة ..الخ، أجابت عن معظم الأسئلة، لكن مجال حديثنا هنا سيتخذ منحىً آخر، إذ نخوض –أولا-هذه المسألة بوصفها (جدار سارتر) المرأة، ونرصد-ثانيا- وجهة نظر المرأة نفسها من خلال نساء كاتبات تحدثن عن أنفسهن أو عن بطلات أعمالهن الأدبيّة، وقد نظفر-ثالثا- من داخل هذه النصوص بإجابات لم تكن تخطر لنا على بال.
أولا: (الجدار) /سارتر/ المرأة
بداية، دعونا نتفق أن المرأة والرجل يعبران هذ النفق الضيّق، بمخاطر متفاوتة، لا بل أنّ النفق نفسه الذي يضيّق الخناق على المرأة ينفتح ليأخذ الرجل إلى عوالم رحبةّ، لأسباب كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها، يعنيني منها، الطبيعة الهرمونيّة لجسد المرأة، أو-بتعبير أكثر دقة- الطبيعة الهرمونيّة لـلمرأة”!، دون أن نغفل حقيقة ازدواجيّة المجتمع في التعامل وإطلاق الأحكام (مع/على) الجنسين، مع التنويه –وحتى لا نظلم الرجل-على أن المرأة هي أكثر من تمارس أفعال الإقصاء والتقييد ضدّ المرأة الأخرى.
ومن الواضح، أيضا، أنّ المرأة لا تستطيع تفادي الوقوع تحت التأثير السلبي لمسألة التقدّم في العمر، لأنّ طبيعتها الهرمونيّة تتحكم في مشاعرها تجاه الأشياء، مع ضرورة الإشارة إلى التفاوت بين ردود الأفعال التي تبديها امرأة مقارنة بأخرى، حسب العوامل الثقافيّة أو البيئيّة أو الاجتماعيّة أو النفسيّة أو الصحيّة التي جعلت منها ما هي عليه.
الأمر يبدو كأنّه” الجدار”؛ و”الجدار” -لمن لا يعلم- هي إحدى القصص الخمس التي تضمّها مجموعة (1939م)، وتحمل الاسم نفسه للفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر.
والقصة تتعلق بثلاثة أشخاص (بابلو وتوم وجوان الفتى)، ينتظرون ساعة إعدامهم رميا بالرصاص صباح اليوم التالي، بعد أن أدخلوا إلى أحد السجون الإسبانية خلال الثورة التي أعلنها الجمهوريون ضدّ الحكم الفاشستي، بتهمة “الإرهاب” والمشاركة في الثورة.
وفيها يحلل الفيلسوف والأديب الفرنسي مشاعرهم، ومظاهر تلك المشاعر كما تتمثل في طبيعة سلوكهم المتباينة؛ إذ أن “المصير المشترك” لا يعني “انعدام ذاتيّة” كلّ منهم وتبنيه لردود أفعال خاصة في مواجهة الخطر، كلّ شخصية بحسب الخلفية التي بلورت كيانها.
أمّا “الجدار” نفسه؛ البطل الوحيد في هذه القصة- حيث سيسقطون عليه مضرّجين بدمائهم- فهو لم يرد بشكل صريح خلال السرد إلّا في مخيّلة شخصيات القصة، وفي هذه المقاطع فقط:
(يقول بابلو: “ربّما عشت عشرين مرّة متتالية مشهد إعدامي: كانوا يجرّونني نحو الجدار وأنا أتخبّط”/- يقول توم وهو يحاول أن يفهم / أو يهجس به: “البنادق مصوّبة نحوي. وأحسب أنّي سأودّ لو أدخل الجدار، سأدفع الجدار بظهري، بكلّ قوّتي، لكنّ الجدار سيصمد كما يحصل في الكوابيس”)، حيث يمثِّل الجدار مصيرهم المُنتظر/ الكابوس/ الخوف/ الألم/ الجسر الذي سيعبرون من خلال مواجهته إلى (لا وجودهم).
اللافت أيضا، أنّ الشخصيّات الثلاث لم تعبّر عن خوفها من “الموت” نفسه، واقتصر قلقها على لحظة مواجهة الجدار فقط!…
إذن؛
هل نخشى “الموت” أو أننا نخشى ” مجابهة/مواجهة الموت/الخوض فيه”؛ تلك اللحظة الفاصلة بين القلق واللا-قلق؟.
هل نخشى “الشيخوخة” أو نخشى “مواجهة الشيخوخة/الخوض فيها”؛ تلك الفترة الفاصلة بين المقاومة والاستسلام بكل ما تحمل من شحنات قلق واضطراب؟.
لكن، الواقع يكشف أنّ المرأة تشعر بالاتزان بمجرد دخولها فعليّا مرحلة “الشيخوخة/ التقدّم في العمر”، ما يضعنا أمام إشكاليّة كبرى تتعلق بطبيعة الأزمة التي خاضتها قبل أن تستسلم راضية إلى هذا (المُتكَأ/الشيخوخة)، هل كانت تُحارب في سبيل الحياة؟ أم في سبيل الأنوثة؟.
ورغم أنني أميل إلى التفسير الذي يتعلق بتعظيم قيمة الأنوثة في حياة المرأة، لأنّ حالة (الاتزان/القبول) التي تعيشها المرأة بعد دخولها-رسميّا- سنّ الشيخوخة تنفي قلقها من الموت، إلا أنّ الطبيعة البشريّة يصعب قياسها وإطلاق الأحكام العموميّة عليها، وهو ما ستظهره الأمثلة التي سنوردها فيما يلي.
ثانيا: أثقلُ مِنْ رضوى/ .. . في سبيل الحياة
” .. لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي.. ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك الباب امرأة صغيرة الحجم نسبيّا ترتدي ملابس بسيطة..، شعرها صبيانيّ قصير، وإن كان أبيضه يغلب أسوده، يكاد يُغيّبه.. ليس لهذه الأسباب فحسب، بل لأنَّ هذه المرأة وأعني رضوى، ما أن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة. تفعل كأي صبي بقَّال في العاشرة من عمره يُعَوِّضُهُ ركل الحجر الصغير عن ملل رحلاته التي لا تنتهي لتسليم الطلبات إلى المنازل، وعن رغبته في اللعب غير المتاح لأنه يعمل طول اليوم… تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف إلا حين تنتبه إلى أن أحد المارة يُحدَّق فيها باندهاش”.
أن تختار الروائيّة والناقدة المصريّة رضوى عاشور، هذا المقطع لتزيين الغلاف الخلفي من كتاب لها، قد لا يثير دهشتك، لكن لو عرفت أن الكتاب هو مقاطع من سيرتها الذاتيّة (أثقلُ مِنْ رضوى /2013)- الذي تجمع فيه مشاهد من ثورة يناير المصريّة 2011، وتستعرض فيه بإسهاب، تجربتها المؤلمة مع سرطان الدماغ طوال السنوات الثلاث الأخيرة، وتضمّنه حكايات الطغيان والفساد والظلم والتحرير والشهداء -، فالأمر هنا يحتاج إلى وقفة تأمّل.
ماذا لو قرأت الكتاب(السِّيرة) وعلمت إنَّ الخوف من انسراب الزمن وانفلاته كان دافعًا محفزًا إلى الإسراع في إنجازه، بعد مرض أخيها طارق ورحيله ثم وفاة والدتها بعده بخمسة أسابيع فقط، ثمّ ظهور النتائج المخبريّة التي تثبت إصابتها بمرض السرطان؟
الكتاب يجمع بين كتابة السيرة الذاتيّة واليوميات، وأطلقت عليه وصف “مقاطع من سيرة ذاتيّة”، وتفادت – بذكاءٍ شديد- مأزق الوقوع في فخ سرد مقاطع (أخرى) لا ترغب بالإفصاح عنها؛ أقصد ذاك الجانب الذي يتعلق بـ”رضوى الأنثى” التي نجحت الكاتبة بالإبقاء عليها مجهولة الهويّة، لولا تلك الهفوة-إن اعتبرناها كذلك- وهي تلمح وجهها في المرآة، للمرة الأولى، بعد إحدى عملياتها الجراحيّة المتعددة.
ولأنّ الكتابة عمليّة معقدة، فأنا لا أستطيع الجزم إن كانت (المرآة) هي التي أوقعت الكاتبة-التي انتبهت مبكرًا أن مشروع الدُّمية لا يروق لها؛ كما تقول- في تلك (الهفوة) دون قصد، أو إن كانت “الأنثى” هي التي سرقت قلم الكاتبة لتصف مشاعرها المخفيّة:”في يوم خروجي من المستشفى تمكنت من دخول الحمّام لأغسل وجهي. لا بد أن السيدة ميّة ابنة الدكتور عبد الوهاب كانت تتقلب في قبرها في تلك اللحظة. وربما لم تملك مقاومة البكاء فسمع صوت نحيبها عابر سبيل تصادف مروره فبسمل وأسرع الخطو…” وتقول في مكانٍ آخر: “ستفهم يا سيدي القارئ تخيُّلي لبكائها وقد أعمل الجراحون مشارطهم في رأس ابنتها وساعِدها وفخذها، بعد أن أعملوه سابقا في أماكن أخرى من بدنها، بما يُشوِّه المُنتَج الأصلي ويُغيِّر من ملامحه. وأزيدك علمًا أنّ أمي لم تكن تتمثل الزمن فيما يخصّ أولادها؛ حتى رحيلها كانت تندهش وبصدق، إن كررتُ عليها ما تعرفه: ماما لقد تجاوزتُ الستين”.
هل السيدة (ميّة ابنة الدكتور عبد الوهاب/والدة الكاتبة) هي التي كانت تنتحب في قبرها على ابنتها (الحلوة) أم كانت “رضوى الأنثى” المتوارية دائما خلف شخصيّة أخرى ما؟!.
وحتى لا نخرج عن سياق موضوعنا، اسمحوا لي أن أشير إلى أن الرواية (السيرة/اليوميات) – لمن لم يطّلع عليها- مليئة بتفاصيل مؤلمة جدا تصف معاناة الكاتبة وهي تجابه بمنتهى القوّة (السرطان)، ما يدفعني إلى القول إنّها كانت تشعر بأنّها ولدت من جديد في كلّ جولة تنتصر فيها على المرض وتخرج من غرفة العمليّات سالمة، الأمر الذي يفسّر عدم وقوعها في مصيدة الخوف من (التقدم بالعمر/الشيخوخة/ خسارة الأنوثة)، لا بل إنّها في عقلها الباطن كانت تستشعر ولادتها هذه وتعيش تجليات الطفولة!، ويكفي أن أمثّل على صحة اعتقادي، بمشهد عودة الوعي إلى بطلتنا بعد إحدى العمليات الجراحيّة التي خضعت لها-وهي هنا تتحدث عن ممرضة غرفة العناية المركزة-: “….. طلبت منها أن تسمح لي أن أضع الإسفنجة في فمي. لم أتوقع أن تسمح لي لأنني أعرف أنهم لا يسمحون بشرب أي قدر من الماء بعد الجراحة مباشرة. سمحت. ساعتها سألتها إن كانت تعرف تلك الأغنية الشعبيّة الجماعيّة السوداء:
Sometimes I feel like a motherless child
A long ways from home
Sometimes I feel like I’m almost gone
A long ways from home
( أحيانًا أشعر كطفل لا أمّ له، بعيدًا جدّا عن بيتي/ أحيانا أشعر كأنني ذهبت، بعيدًا جدّا عن بيتي).
اللافت في الأمر، أنّ الطفلة رضوى؛ المولودة كلّ يوم / الشجاعة/ الصابرة/ التي ما أن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى/،…كانت ترفض فكرة الشيخوخة في أعماقها وتعتبر أن معاملتها كمسّنة إهانة بالغة لا تُغتفر، إلى درجة إعلانها التمرد على ممرضتين حاولتا حقنها أو سحب دم للتحليل منها : “… أعرف الآن أن السخط لا الخوف هو الذي حكم استجابتي لأنني لمحت في عيونهما ما اعتقدت أنه نظرة تهكّم لا ترى فيّ إلا مريضة مُسنّة مذعورة أو امرأة خرفة لا بد من التعامل معها بصرامة. بدأتُ أصيح وأقاومهما وأطالب بحضور زوجي وابني”.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أنني عندما استعرضت تجربة “أثقل من رضوى”، قصدت دراسة شريحة واسعة من النساء؛ أي اللواتي يعشن تحت الخطر، وإن كان المرض يهدد حياة رضوى فالحرب تهدد حياة النساء في أماكن أخرى، ولا أخفيكم إنني حاولت البحث عن تجارب واقعية تتحدث صراحة عن مشاعر المرأة تجاه التقدم في العمر/ أو الخشية من فقدان الأنوثة تحت ظرف الحرب في غزة أو سوريا أو العراق أو ..الخ، لكنني لم أوفق، باستثناء عبارة قصيرة كتبتها الشاعرة الفلسطينيّة الشابة نجوى شمعون على صفحتها عبر موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) وهي تحت القصف أثناء حرب غزة الأخيرة، قالت فيها: ” قصصتُ شعري وتعطرت؛ في الحرب تصير الحياة أقرب بكثير ممّا تخيّلون”.
عبارة “شمعون” العابرة هذه، تبرر حجر رضوى عاشور وطفولتها، وتكشف ببساطةٍ متناهية سرّ الياسمين الذي ينمو دون ماء في قلوب نساء العالم المدهشات.
ثالثا: جدّتي والحكّامة في (بابنوس) سميحة خريس
على نقيض الشخصيّة التي عرفناها في مثالنا السابق، تقول الروائيّة الأردنيّة سميحة خريس على لسان (الحكّامة/الرسالة)؛ إحدى بطلات روايتها الأخيرة بابنوس (منشورات ضفاف/الاختلاف 2014): ” .. كما لو أني ولدت هكذا منذ البدء؛ بشرية كهلة ضربت التجاعيد وجهها. شعر أبيض خشن أكرت مكوم فوق الرأس كما العمامة، وجسد نحيل بعصب شديد، لم تذهب أعباء الحياة ولا الوقت الذي يسرق العمر بقوته وبأسه”.
و”الحكّامة” التي نتناولها هنا، هي شخصيّة مؤثرة وفاعلة – إذ تمثّل سلطة معنويّة بإسباغها أمومتها على محيطها (سكان الخربقة) – في الرواية التي سلطت سميحة خريس من خلالها الضوء على قضية دارفور السياسي والإنساني وصولا إلى آفة الرّق، كاشفة عن تكاتف الظروف الاجتماعية والبيئية والسياسية على ظلم إنسان المنطقة الضعيف والمسحوق والمهمّش.
والحكّامة التي وصلت إلى مكانتها تلك، تحاول تعويض الفراغ الأنثوي الذي يتعاظم داخلها بإقناع نفسها قبل القارئ بـأن : “لا التباس في كوني امرأة، ولست في عداد الإناث، فأنا حكّامة؛ والحكّامة عادة مخلوق مغاير، فوق البشري، أعلى من المرأة قليلا، تصطف قريبا من موقع الذكورة ولكنها تتجاوزه، وهي بعد تلك المواصفات، ليست ملاكا ولا خنثى، تجمع في كفيها فراشات ملونة، وتفيض على محيطها أمومة لا حدود لها”.
إذن، هل الحكمة تتسامى بصاحبها فوق الضعف البشريّ؟ وبصاحبتها فوق الأنوثة؟ أيّ حكمة هذه التي ترعى الآخرين وتتجاهل وضع يدها على كتف روحها الوحيدة؟.
ولأنني لا استطيع وصف شخصيتها بالحكيمة ضمن السياق الذي نناقشه–أي خارج معنى الحكّامة الذي أوردته الكاتبة في روايتها-، دعونا نعتبرها زاهدة، أو قد أغيّر رأيي عندما أقرأ: “..عندما كنت شبيهة بغزلان البر النفورة، جميلة وعصيّة، وكان أبي قد قرأ فاتحتي لأصير زوجة (ود الأمين) الذي ابتاع لي هدية العرس؛ عيش ودرة وبصل وقروش ودخان، لكنه لم يحرك وجداني، كنت أتلفت حائرة بحثا عن رجل..”. أو مثلا عندما تعترف -وهي التي أعلنت منذ البداية بأنها ولدت كهلة-: “أرى صباي المندثر في بريق وشقاوة عيني “باسالم”. وحده يقدّر أني ما زلت صبيّة”.
وحتى نحسم الأمر وبشكل نهائي، دعونا نقرأ هذا الاعتراف الخطير الذي ورد على لسانها وهي تشرح سبب رفضها الزواج من (ود الأين) : ” لكني لو سمحت حينها للرجل أن يلوي مسار طبيعتي، لما صرت الحكّامة التي أنا عليها، لهذا رددت عليه مهره من دخان وبصل وذرة وقروش، وأعلنت أني لن أتزوج”.
عزيزي القارئ:
أتصور أنك تتساءل الآن، لماذا نخوض في حكاية “الحكّامة” ونحاول كشف زيف منطقها، أو –بمعنى آخر- ننزع قناعها الذي أوهمتنا أنه حقيقتها؟
في البداية، اخترت “الحكّامة” لدراسة امرأة مختلفة، لا نعرفها الآن، امرأة تشبه جدّتي وجدّتك؛ الأمومة الخالصة التي توزّع حبّها مجانا وتقتلع شوك الكراهية وتضع القوانين التي تنظّم المجتمع الذي تقوم عليه، لكنني صدمت عندما وجدتها متصالحة مع شيخوختها الأزليّة أولا، ومنكرة لأنوثتها ثانيا، وكأنّ الحكمة تتعارض مع الأنوثة الخالصة، رغم أنّ الحكمة أنثى وحياة، لا بل –ولا أجد نفسي متطرفة- لو استعنت برؤية الشاعرة اللبنانيّة ليلى عيد وهي تجزم أنّها-الأنثى- من تدير الكون:
يظنون إنني نائمة… يظنون
أنا التي لم تفتح عينيها منذ آخر قبلة
أغمضتهما على فمك
وأطفأت الكون…
عموما، تستحق “الحكّامة” البقاء في مكانها؛ بطلة رواية لا أكثر، ولنذهب إلى بطلاتنا الحقيقيّات اللواتي نثرن الفرح واستحققن أدوارهن على أرض الواقع عن جدارة.
حدث هذا منذ أعوام؛ كنتُ أسنِد جدّتي ونحن ندخل صالة مليئة بالنساء جئن لتعزيتها بوفاة جدّي رحمه الله، وقبل أن نخطو أولى خطواتنا في الصالة شاسعة المساحة نسبيّا، نظرت إليّ نظرة أعرف مغزاها جيدا، ثم دفعت بيديّ بعيدا عنها؛ بوصفهما تهمة تنال من سمعةِ كبريائها، لتعبر الصالة برشاقة لا تناسب امرأة تسعينيّة تعاني آلام المفاصل وفاجعة موت الزوج والرفيق.
ويبدو أنّ جدّتي – التي لا أستطيع وصفها بـ”البسيطة” و”الطيّبة” كما يحلو لجيلنا “الغائب والمغيّب” أن يذكر محاسن جدّاته!، وأفضل استبدالها بالقويّة/ الحكيمة/ الواعية/ المدبّرة/ السياسيّة/ الجميلة/ الذكيّة..الخ- ، لفتت انتباهي إلى أنّ الخوف من التقدّم بالعمر لا يمكن أن يكون قد مرّ بشكل عابر على حياة جدّاتنا (مرهفات الحسّ/عظيمات الكبرياء)، خصوصا لو عدنا إلى تراثنا الشعبي الذي يتضمن – على سبيل المثال لا الحصر- “ابنك وأنتِ غنيّة وزوجكِ وأنتِ قويّة”؛ في إشارة واضحة إلى أهميّة احتفاظ المرأة بقوتها البدنيّة وشبابها.
إن كان الأمر كذلك؛ ما الفرق بيننا وبين جدّاتنا؟ لماذا نشعر أنّ الظاهرة تخصّنا وحدنا وأنّ وتيرتها تزداد كلّما ازدادت البشريّة تقدما وحضارة ورفاهية؟
لا يوجد فرق على الإطلاق، لولا أنّ الحياة صارت أكثر تعقيدا؛إذ ظلّت الأسرة الممتدة تجدد طاقة المرأة باستمرار، وتمنحها أدوارا متعددة تستكمل من خلالها مسيرتها الحياتية والإبداعيّة والوجدانيّة وتمنع عنها شبح الوحدة وتجنبها كآبة الزوايا التي تستوطنها بيوت العناكب والبرودة القاتلة.
رابعا: أزمة منتصف العمر الرائعة/ إيدا لوشان
بعيدا عن التفاؤل المفرط والتجاهل المَرَضي دعونا نتعرف على الكاتبة الأمريكية إيدا لوشان في كتابها ( أزمة منتصف العمر الرائعة/ ترجمة سهير صبري /دار شرقيات 1997).
تقول المؤلفة: ” أبدأ هذا الكتاب وأنا في الـ48 من عمري. وأنا في هذه السنّ لا يمكنني احتساء القهوة بعد الثالثة إن كنت أريد أن أنام ليلا، ولم يعد في وسعي تناول البصل أو الفلفل الأخضر منذ خمس سنوات وإلا شعرت بآلام القولون، هذا إلى جانب بداية ترهل خطوط الذقن، والشعر الأبيض الذي يظهر قبل كل صبغة، ناهيك عن صوت المفاصل عند الاستيقاظ من النوم”.
لكن، عزيزي القارئ، قبل أن تتشاءم من خريفها التدريجي الذي تحدثت عنه وتتأكد مرة ثانية من عنوان كتابها دعنا نكمل الحقائق التي أوردتها عن نفسها: ” نشر لي أول كتاب في الـ43، وهذا هو كتابي السابع، وبدأت أظهر بانتظام في برنامج تلفزيوني عندما بلغت الـ46، وفي الـ48 صار لي برنامجي التلفزيوني الخاص الذي أحرص على أن أضع فيه كل ما تعلمته عن ذاتي وعن أحوال البشر”.
ويبدو أن إنجازات إيدا لا تتعلق بالعمل فقط، فهي تتحدث عن تطور شامل : ” أصبحت الآن أفهم وأستمتع بأمومتي على نحو أفضل، وفي السنوات الخمس الأخيرة صار حبي لابنتي أعمق، وصرت أرى في دور الزوجة أبعادا أكثر جاذبية وتعقيدا عن ذي قبل، ومنذ بلغت الأربعين عرفت عن نفسي وعمّا أريده في الحياة أكثر مما عرفته في عمري السابق كله”.
كيف فعلت إيدا لوشان كل هذا؟
الحقيقة، إن الكاتبة في سيرتها الذاتيّة لم تشرح لنا كيف وصلت إلى هذه النتيجة، موضحة: “إن الخبير الذي يقدّم الحلول السهلة، إنّما يشجّع الإنسان على أن يتوقع أقل ما يمكن من ذاته”، لكنّها حددت معالم الطريق من خلال طرح أفكارها عن الحياة، وكم تمنيت لو كنت قادرة على استعراض كتابها الرائع وكل ما جاء فيه، لكنها مجرد مقالة وكل ما أستطيع تقديمه هو المرور سريعا على بعض النقاط.
الكاتبة ترفض إطلاق وصف “الولادة” على هذه المرحلة، لكنها في المقابل تعتبرها “نهضة”، لأننا ندرك أنّنا غير خالدين وأنّ الحياة لم تعد بلا حدود والوقت المتاح لدينا قصير نسبيّا، ما يرغمنا على حسن استغلاله.
وتشير إلى أننا نتوقف عن محاولة إرضاء الآخرين (المجتمع) والعيش حسب قناعاتهم، لافتة إلى الصفقات الوهميّة التي نبرمها منذ (” اجتهد في دراستك حتى تنال رضاي”/ “كن عاقلا وطيبا حتّى أحبك”) مؤكدة أنّ عبارة “كان ينبغي أن” جائرة وعلينا التمرد عليها ورفضها، وتجدها فرصة لاستكمال مسيرة أزمة الهويّة التي بدأت في المراهقة حتى “نتحول إلى ما نريد” ونعزف لحننا الخاص، حيث أننا- كما تقول- : “وفي معظم الأحيان نمر بتلك المشاعر التي نألفها في فترة المراهقة؛ الشعور بأنّ الحياة بلا معنى، والإحساس بالقنوط، وفي الواقع فإن ما يجب أن نتذكره هو الوجه الآخر من المراهقة؛ الوجه الثابت القوي: الشعور بالثورة والدهشة، والشّغف، والسعادة لكشف القوى الكامنة فينا، والابتهاج بالحياة”.
وتؤكد الكاتبة على أنّ القناعة التي أجبرنا العلم على تقبّلها، بأنّ (النمو مرحلة مؤقتة تنتهي بانتهاء الطفولة) هي قناعة خاطئة، فنحن نستمر بالنمو، لتقرر أخيرا أن: ” وبالجهد الواعي، سأسمح لنفسي برفاهية أن أتقدم في السّن وأن أبدو كبيرة دون أن أخشى من أنّ سنوات عمري تبدو علي”.
خامسا: أنا/ كأنّني ذهبتُ بعيدا عَنْ بَيْتي
كنت أستطيع التوقف عند آخر كلمة كتبتها قبل أن أبدأ بهذا العنوان الجديد ثمّ أرسلها للنشر وكلّي ثقة بأنّني كتبت مقالة جيّدة – نوعا ما- ومتوازنة وعقلانيّة. كان بإمكاني الوقوف على الحياد الآمن، ولكنني لا أثق بالكتابة التي لا تمارس الحقيقة (غير الآمنة).
حسنا؛ ماذا لو لم أكن بشجاعة رضوى عاشور وبسالتها في سبيل الحياة، أو سمو “الحكّامة” العجيب فوق أنوثتها، أو حكمة جدّتي وتناسل أدوارها، أو وعي “إيدا لوشان” وتقبلها للتغيّرات التي تطرأ عليها وقدرتها على تحويلها إلى “نهضة”؟ ماذا لو كنتُ مجرد (أنا فقط)؛ تلك التي تشعر بأنّها “ذهبت بعيدا عن بيتها” قبل أن يمنحها العمر بيتا (أكبر)، مع ( روشتة) تهديد تذكرها بإمكانيّة سقوطه في أيّة لحظة قادمة؟
ماذا لو كنتُ مجرد أنا أو أنتِ، نحن النساء العاديّات اللواتي اختبرن البكاء والضحك والحزن والفرح والقوّة والضعف. نحنُ النساء العاديّات اللواتي يعشقن البرتقالي ولا يفضلن ارتداء البني والكحلي والأسود؟
الحقيقة، لا أملك إجابة محددة، لكنني لا أثق بالنماذج البشريّة “الكاملة” و”الرائعة” ولا بقصص الحبّ التي تنتهي بالزواج السعيد ولا بالوجوه التي تخلو من العيوب والبثور والخطوط التعبيريّة؛ تلك التي يقدمها لنا المجتمع قبل أن تسرق أعمارنا ونحن نحاول تقليد خط سيرها.
كل ما أملكه الآن، هو ( لا-خطتي) الشخصيّة لمواجهة تجربة منتصف العمر؛ وتتضمن الدخول فيها دون أن أمنع نفسي من الشعور بالخوف أو الألم أو الغربة أو النضوج أو النمو أو الحيرة، ودون أن أدّعي بأنني لن أتحايل على الشّعر الأبيض بالصبغة، وعلى التجاعيد بالكريمات ومساحيق التجميل، والوحدة بالأصدقاء، والبرد بمعطف ثقيل، وآلام المفاصل بالأدوية المسكّنة، والكآبة بالضّحك، والصّمت بالغناء؛ الغناء بصوتٍ مرتفع وجميل.
_________
_________
*شاعرة من الأردن/ مديرة تحرير ثقافات
المقال نشر سابقا في الجسرة الثقافية الإلكترونية.