أين النّجمةُ التي سترمي بسهمِها كبدَ الليل؟

*أدونيس

ـ 1 ـ

في حاضرٍ يمدّ نفسَه سريراً للموت،

حدَثَ أنّ الهواءَ وضع رأسَه

على الحجَرِ لكي يقدرَ أن يتنفّس.

حدَثَ أنّ هذا الحجرَ كان قد انشطرَ

بفعل قذيفةٍ حربيّةٍ قاتِلة،

حدثَ أنّ هذه القذيفة

كانت تختبئُ في صدر طفلٍ عربيّ.

ـ 2 ـ

الــشّارعُ أشجــارٌ قُصــِفَتْ، وبيـوتٌ أُحرِقَتْ:

الأشجارُ تاريخُ سهولٍ تتصحَّر،

والبيوتُ تاريخٌ من الفراغِ والرّماد.

ـ 3 ـ

نامي، أيّتها الثّياب التي تركها القَتْلى وراءهم

توسّدي غبارَ الذين تدفّأوا بك.

اللغةُ نفسُها لم تعُدْ تعرف

كيف تمدّ نحوكِ يديها.

ـ 4 ـ

البيت؟

لم يَعُد إلا فاصِلةً

بين شارعٍ يتهدّم وأجسامٍ تحترق.

ـ 5 ـ

الإنسانُ؟

يصرخُ. يكرِّر صراخَه:

هل يشكُّ في حنجرته؟ في لسانِه؟ في شفَتَيْه؟

هل يُعيدُ قراءةَ اليوم الذي وُلِد فيه؟

ـ 6 ـ

لا يعرف الفنّانُ، أو المفكِّر، أو الشّاعرُ أن يبكي:

ألهذا يجهلُ كيف يقرأ هذا الوقتَ العربيّ؟

ـ 7 ـ

ليس للفجيعة حبرٌ

للفجيعة صوتٌ مخنوقٌ.

ـ 8 ـ

مدُنٌ كمثل كتبٍ ملأها القرّاءُ بكلماتٍ

«لم تخطُرْ لنا أبداً»: يقول مؤلِّفوها.

لكلِّ كتابٍ فضاءان:

فضاءُ الخارج الذي «يدخل» إليه،

وفضاء الدّاخل الذي «يخرج» منه.

ـ 9 ـ

لا شَيْء يتطابق مع أيّ شَيْء:

أهي «الرّاحةُ الكُبرى»؟

أم هو الخوفُ الأكبر؟

ـ 10 ـ

أعْطِني يدَكَ أيُّها العكّازُ

الذي يجلس على كرسيّ الذّاكرة.

ـ 11 ـ

هل تَشيخُ الطُّرُق هي أيضاً؟ وكيف؟

هل تكتب النّوافِذُ مذكّراتها، هي أيضاً، وكيف؟

ـ 12 ـ

نسِيَ الشّيخُ، هذا الشّيخُ، كلّ شيءٍ

إلا كلمةً واحدة: الطّفولة.

ـ 13 ـ

خِلْسَةً:

وضَعَتِ الرّيحُ رأسَها على كتف وردةٍ

كانت تضع رأسَها على عُنقِ النّافذة.

ـ 14 ـ

الأملُ يعرُجُ، ولا منفذَ لطريقه:

لا يعرف أن يسيرَ إلا إلى الوراء.

ـ 15 ـ

اكتُبْ:

أحبُّ أن أنسى الكلمات التي سَهِرَتْ معي البارحة.

اقرَأْ: لا أحبّ أن أذكرَ، الآن، إلا الكلمات

التي سهرَتْ معي البارحة.

ـ 16 ـ

بين الطّبيعة وأوراق الشّجَر صداقةٌ لا نهايةَ لها:

تلك هي صداقةُ الهواء.

ـ 17 ـ

أتريدُ، في هذا الوقت العربيّ،

أن تسيرَ حقّاً على الطّريقِ القَويم،

إذاً، اقــرأْ كــتاباً مــتــعرِّجاً. أو الأفــضَل:

اقرأْ قصيدةً مُلْتَوِيَة.

ـ 18 ـ

الحرب؟

كيف يمكن أن تكون هذه الكلمة مكوّنة من الحروف نفسها

التي تتكوّن منها هذه الكلمات:

حبّ، بحر، حِبر؟

ـ 19 ـ

فجأةً،

شَهَرَ الرَبيعُ أسلحتَه الفتّاكة المتنوِّعة الكثيرة،

وأخذَتْ جيوشُه

تُهاجِم الفصولَ وتقطعُ الدّروب.

ـ 20 ـ

الفراغُ في الرّأْسِ، أيُّها العابِرُ

والمِلْءُ في القدَمَين والمَعِدة.

ـ 21 ـ

«خصلةُ شَعْرٍ» أم «ذَيْلُ غزالة»؟:

سمعْتُ الليلَ يطرح هذا السّؤال على النّهار.

سؤالٌ حول شيءٍ لا يعرفُه أحَدٌ

وإذا عرفَه لا يبوحُ به.

ـ 22 ـ

ليس الخطأُ هو وحده الذي علَّمَني

غيرَ أنّه كان المعلِّمَ الأوّل.

ـ 23 ـ

من يعرف متى يكون الماءُ أكثرَ التذاذاً وبهجة:

عندما يُلامِس صخرةً خشِنةً،

أو عندما يلامِس العشب؟

ـ 24 ـ

ما بالُ هذه النّافذة الوحيدة في غرفة عملي،

تحــسبُ نفســَها أختــاً لجــميع النــّوافذ؟

ومن أين لها هذه الثِّقة وهذه القُدرة؟

ـ 25 ـ

لا تُحاوِلْ أن تقدِّم لقارئكَ جواباً، أو معنى.

حاوِلْ، على العَكْس،

أن تُغريَه باكتشاف معنى،

وبِطَرْح الأسئلة.

ـ 26 ـ

كثيراً، في طفولتي،

تمنّيْتُ لو تتجرّأ نجمةٌ واحدةٌ

أن ترمِيَ بسَهْمِها كبِدَ اللّيل.

ـ 27 ـ

إنّها بحيراتٌ غير زرقاء

تلك التي تمتدُّ بين شطْآنِ الحروب.

ـ 28 ـ

ورقَةُ الغار تقبِّل جبهةَ المُحارِب:

أهِي، حقّاً أختُه في الرِّضاعة؟

ـ 29 ـ

مُريبٌ وجهُكَ، أيُّها البرعمُ الغريبُ الرّائحةِ،

متى خرَجْتَ من ثَدْيِ أمِّكَ، وأين؟

ـ 30 ـ

قاتِلٌ جريحٌ

يئنُّ، ويزحفُ مُتَجرْجِراً وراءَ قدَمَيْه.

ـ 31 ـ

قلّما أرافِقُ حتّى نفسي،

كيف أطمئـــِنّ، إذاً، إلى رفــقةِ «نفسٍ» أخرى؟

ـ 32 ـ

قال الشارعُ باكياً:

اذهَبْ، اذهَبْ

لم أعُدْ أستطيع أن أحتضِنَ

حتّى عصفوراً.

ـ 33 ـ

الصّحراءُ تطوِّق المدينة:

وما من غزالةٍ تمرّ.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *