*عاصم الشيدي
«الرجل الذي يستطيع قيادة السيارة بأمان
وهو يقبل فتاة جميلة فإنه ببساطة لا يعطي
القبلة الاهتمام الذي تستحقه»
ألبرت آنشتاين
في كتابه المترجم «اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة» يضعنا المترجم محمد الضبع أمام أسباب تبدو «منطقية» على الورق للخروج في موعد مع فتاة تحب الكتابة.. فتاة «لم يسبق لك أن رأيتها في ملابس نظيفة بسبب قهوتها التي تحملها معها في كل مكان، وبسبب بقع حبر قلمها»، مع فتاة «تضحك بشدّة حين تخبرك أنها نسيت تنظيف غرفتها، وملابسها مبعثرة حول أغلفة الكتب وتعتذر منك وتخبرك أنها ستحتاج وقتا أطول لتنزل إليك. وأن حذاءها مخبّأ أسفل جبل من الأقلام المكسورة التي كانت تحتفظ بها منذ أن كان عمرها 12سنة». ينصح الكاتب المجهول قارئه ليخرج مع فتاة تحب الكتابة ويطلب منك أن تـ«قبّلها أسفل عمود الإنارة عندما تمطر السماء، وتخبرها عن تعريفك للحب» في تلك اللحظة الملتبسة من الحنين والتحليق في السماء ستغير رأيك فيها، لن تنتبه أبدا إلى ملابسها المتسخة بالقهوة ولا إلى رائحة عطرها الرديء ولا إلى يديها المليئة ببقايا الحبر!!.
رغم أن عنوان الكتاب هو عنوان مقال واحد فقط في كتاب ضم الكثير من الاختيارات المترجمة عن اللغة الإنجليزية بأقلام كتاب عمالقة في العالم إلا أن هذه المقالة هي الأبرز، وهي التي يبحث عنها القارئ منذ اللحظة التي يمسك بها الكتاب ليتأمل في التفاصيل التي تدعو للخروج مع هذه الفتاة.. يجعلك هذا المقال تترك ترجمات لمقالات ومقولات وحوارات ورسائل نادرة لكتاب من أمثال ماركيز وسارتر وموراكامي وسيمون دي بوفوار وتولستوي وغيرهم ولا ينتبه إلا لمقالة لكاتب غير معروف لم يرد حتى اسمه مع المقالة.
سيكتشف القارئ أن تلك الفتاة لديها حس فكاهي عال، وأنها متعاطفة وحنونة، وأن بإمكانها أن تبتكر عوالم كاملة من أجلك.. «هي التي ينحني الظل أسفل عينيها، هي الفتاة ذات رائحة القهوة والكوكاكولا وشاي الياسمين الأخضر. هل رأيت تلك الفتاة، ظهرها متقوّس باتجاه مفكرتها الصغيرة؟ تلك هي الفتاة الكاتبة. أصابعها ملطخة أحيانا بالجرافيت والرصاص، وبالحبر الذي سيسافر إلى يدك عندما تتشابك مع يدها. هي لن تتوقف أبدًا عن تذكّر المغامرات، مغامرات الخونة والأبطال. مغامرات الضوء والظلام.
الخوف والحب. تلك هي الفتاة الكاتبة. لا تستطيع أبدا مقاومة ملء صفحة فارغة بالكلمات، مهما كان لون الصفحة هي الفتاة التي تقرأ بينما تنتظر قهوتها أو شايها. هي الفتاة الهادئة بموسيقى صاخبة في أذنها. وإذا اختلست النظر إلى كوبها ستجد أنه أصبح باردا، لقد نسيته تماما كما تفعل دائما وإذا رفعت رأسها وتذكرت أخيرا، اعرض عليها أن تطلب لها كوبا آخر. سوف ترد لك جميلك هذا بقصصها التي تكتبها لك». ص58
لكن هل هذا المشهد جميل في الواقع بعيدا عن الواقع الورقي الحالم؟ أن تخرج مع فتاة ملابسها ملطخة ببقايا القهوة، وترتدي نظارة بعدسات مزدوجة من أجل رؤية أوضح لحروف الكتاب الذي تحمله، فتاة تضح سماعات موصولة بهاتفها من أجل الاستماع إلى موزارت بينما تحملق أنت في عينيها وتشعر بخيبة أمل جراء ضياع حوار العمر الذي كنت تمني به نفسك.
كيف يمكن أن تحتمل أن تتعامل معك كأحد أبطال رواياتها، تنتظر منك نفس ردات الفعل، وتتوقع منك نفس الفلسفة التي ألصقتها بشخصياتها، تبحث في كلماتك عن دلالة أخرى وظلال لم تقصدها ولم تعنيها فيما كنت تحاول أن تقول نكتة «سمجة» من أجل نقل الحديث إلى سياق ومكان آخر.
من الصعب أن تخرج في موعد مع فتاة كاتبة أو قارئة لأنها ستخلط بين الواقع والخيال، بينك وبين أبطالها الذين تخلقهم أو تقرأهم فتشعر بأنهم يسيرون إلى جوارها.. ستناديك باسم أحدهم، ستقول لك لماذا لم ترد على مكالمتي أمس فيما هي لم تتصل بك أبدا، ولكن كان اتصال أحد أبطال مسودة قصتها.
لن تستطيع أن تكذب عليها، أن تبني لها سياقات لغوية وشاعرية، أن تخدعها وتقرأ لها مقاطع من قصيدة لمحمود درويش، أو نزار قباني، أو تستعيد لها مقاطع من حوارات رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي.. ستضحك بسخرية وتصحح لك أخطاءك وتقول لك لقد أبدع محمود درويش، أو تقول إن هذا أضعف حوار في «ذاكرة الجسد» وأن عليك أن تعيد قراءة قصيدة نزار قباني.. بل ستقول لك لم أتوقع أنك تحفظ قصائد درويش أو نزار..!
هل «ستتفهم بأن لديك أخطاء؟» هل ستقدّسها؟ هل ستغفر لك كذبك لأنها تفهم معنى الحبكة؟. وتفهم أن النهايات يجب أن تحدث، مهما كانت سعيدة أو حزينة» باعتبار أن الفتاة التي تحب الكتابة «لا تتوقع منك الكمال» بل ستبحث فيك عن التحولات وستتقبل الرموز؟!!.
فهل ستتبع نصيحة صاحب المقال الذي ترجمه محمد الضبع وتبقي هذه الفتاة إلى جوارك رغم كل شيء، وتعيد الخروج في موعد معها مرة ثانية وثالثة، وتصنع لها كما يقترح كوبا من الشاي وتجلس إلى جوارها حتى لو لم تنتبه لوجوده؟؟
هل هذا كل ما في الكتاب.. بالطبع لا. فالكتاب الذي ضم حصاد ترجمات كان قد نشرها محمد الضبع في مدونته «معطف فوق سرير العالم» يحوي حوارات نادرة مع ماركيز ومع كيرت فونيغت ورسائل غرامية نادرة بين الكتاب ومقولات تحاول أن تشرح ما هو الحب بالنسبة للكثير من الكتاب. وتشرح لك كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه ولماذا لا تستطيع أن تقرأ كافكا في الصباح.
في هذا الكتاب سيكون متاحا لك أن تتصور آنشتاين رقيقا إلى الدرجة التي يتحدث فيها عن القُبلة، وعن الرجفة المصاحبة لها والتوتر الذي قد تحدثه إلى درجة أنها تمنعك من قيادة السيارة بأمان في الوقت نفسه.. تجد هذا في الكتاب، كما تجد نابليون بونابرت يجد وقتا كافيا لكتابة رسالة غرام لمحبوبته جوزافين ربما أرسلها من إحدى جبهات القتال، وإرنست همنجواي عاشقا في السابعة عشرة من عمره، وسط دخان الحرب العالمية الثانية فيما كان يعمل سائقا لعربة إسعاف تحمل المصابين والموتى والجرحى الملطخين بالدماء، لكن كل ذلك لا يمنع أن يقع في حب ممرضة تكبره بخمس سنوات تعمل معه في عربة إسعاف، وتركب في الخلف مع المصابين الملطخين بالحرب والدماء ويحملون تفاصيل الدمار والانكسار في عيونهم، هي تراه طفلا مراهقا وهو يراها حبيبة تستحق أن يخرج معها في موعد ولو لم تكن تحب الكتابة.
لا تستطيع تصنيف الكتاب إلى نوع من أنواع الأدب، هو مدونة وكفى، مدونة موادها مترجمة، ولكنها ترجمة محترفة لمترجم يملك لغة عذبة، وقدرة خارقة على الاختيار.
يتساءل محمد الضبع في عنوان أولي في الفصل الأول من كتابه حول «ما هو الحب؟» من خلال ترجمة مجموعة من الرسائل التي يبدأوها برسالة من جان بول سارتر إلى سيمون دي بوفوار ويجد القارئ ترجمة لرسالة من فلاديمر نابوكوف موجهة إلى حبيبته فيرا يعبر فيها عن عشقه لطريقة نطقها لحروف العلة.. ويقول لها في ختام رسالته «أحبك بطريقة جيدة.. أحب أسنانك»!!
وفي مكان آخر من الكتاب وتحت المحور نفسه «ما هو الحب» نقرأ لهنري ميلر وهو يحاول تعريف الحب: «هو الشيء الوحيد الذي لن نأخذ منه ما يكفي. والحب هو الشيء الذي لن نبذل منه ما يكفي».. و«الحب لا ينتفي، لا يرفض ولا يطالب. بل يحترق ويتجدد، لأنه يعرف المعنى الحقيقي للتضحية. لأنه يعرف المعنى الحقيقي للحياة المضيئة». أما هاروكي موراكامي فيرى أن «كل الذين وقعوا في الحب كانوا يبحثون عن الأجزاء الناقصة من أنفسهم. لذلك كل من يحب يصبح حزينا عندما يفكر في محبوبه. الأمر يشبه العودة بعد زمن طويل إلى غرفة تحمل كل الذكريات».
يورد الكتاب أيضا نماذج من رسائل انفصال الكتّاب عن بعضهم البعض فنجد في رسالة من أناييس نن موجهة إلى لاني بالدوين تقول له وهي تتحدث عن الغيرة: «المرأة تشعر بالغيرة فقط حين لا تملك شيئا. وأنا أكثر النساء حصولا على الحب، فممَ أغار؟».
الكتاب يكشف أن ثمة ما هو جميل للقراءة غير الروايات وغير الكتب السياسية، وثمة أشخاص يستحقون أن نبحث عما يكتبون غير ماركيز وهمنجواي وموراكامي، وربما كانوا مجهولين.. وأن ثمة أنواعا من الأدب تستحق أن نلتفت لها ونبحث عن مدوناتها وعن كتّابها.
______
*جريدة عُمان
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
عن الوقــوع في حبّ الأدبترجمة: محمد الضبع«عندما أنظر للوراء، أشعر أنني مندهشة من الحياة الكاملة التي منحتني إياها قراءة…