*تحسين الخطيب
يُعدّ الشاعر النيجيريّ أوشي ندوكا (Uche Nduka)، المولود سنة1963، واحدًا من أبرز الأصوات في المدونة الشعرية الجديدة في أفريقيا. فاز ديوانه «الجلاء والعتمة” (1997) بجائزة الشعر التي يمنحها اتحاد الكتاب النيجيريّين. حصل على بكالوريوس اللغة الإنكليزية من جامعة نيجيريا في العام 1985. غادر نيجيريا في العام 1994 إلى ألمانيا، حين فاز بمنحة الفنون التي يمنحها معهد غوته، ومنحة هاينريش بول. قام بتدريس الأدب الأفريقي المعاصر والكتابة الإبداعية في جامعة بريمن الألمانية من العام 1995 وحتى العام 2007. عاش في ألمانيا وهولندا لاثنتي عشرة سنة، قبل أن يهاجر في العام 2007 إلى الولايات المتحدة، حيث تعيش عائلته ووالده. من أعماله الشعريّة «طفل الزهرة” (1998)، و”فعل ثان” (1994)، و”قصائد بريمن” (1995)، و”لو الليل وحده” (2002)، و”حقل القلب” (2005)، و”ثعبان ماء على شعبة مرجانيّة” (2007)، و”قصّاصو الأثر” (2010)، و”إيجيلي” (2012)، [والعنوان يشير، في لغة الإغبو، إلى الرقصات التنكريّة التقليديّة التي تدور حول السعي بين العالم الروحاني والمادي]، و”التاسعة شرقًا” (2013). هو عضو في اتحاد الكتاب النيجيريّين وفي رابطة القلم الأميركية. يقيم الآن في مدينة نيويورك مع شريكته الفنانة والمصورة الفوتوغرافية فيونا غاردنر وابنتيهما سولا.
بين لسانين
ولدت ثنائيّ اللغة، محاطًا بلغتين مختلفتين؛ الإنكليزية والإغبو. كيف أثّر هذا «اللسان المزدوج”، أو هذا الصوت ثنائيّ البعد -إن جاز لي القول- في القصائد التي تكتبها؟
ندوكا: عتقد بأنّ ثراء مدونتين لغويتين وثقافتيهما يتسرب إلى القصائد التي أكتبها عبر الثيمات والأساليب والنحو والموسقة. إنني أواظب على ترجمة تجاربي وتوشيتها، جيئة وذهابًا، بين الإغبو والإنكليزية. كما أنّ التجارب الألفية لآداب كلا الثقافتين تضيف إلى احتماليّات صنعتي كشاعر وكاتب معاصر. تفرض القصائد التي أكتبها، في بعض الأحيان، أسئلة لا تحتاج إلى أجوبة. لديّ فسحة كثيرة لأعمّر بنى جديدة لقصائدي بسبب كوني مزدوج اللسان. ومثلما تعرف أنت، فإن اللغة هي الوسيلة الرئيسة بالنسبة إلى الشاعر؛ وإنّ الطريقة التي يسلكها كل شاعر في استخدامها ليست ثابتة أو شكلانيّة تخضع لقواعد معيّنة. تغمرني المسرّة حين أخلخل أيّ لغة أستخدمها في الكتابة، وحتى في الكلام. إنّ الشعر، في بعض الأحايين، تاريخ معتم للمحيط الإطار الذي يعيش فيه. وتلك الحقيقة تمنحني الثقة للتجريب في الشكل والموضوع.
شرنقة التاريخ
أوليست الترجمة والتوشية المتواصلتين بين اللغتين إلّا ذلك التحوّل العميق لـ”تطهير” محيط القصيدة، أو إطارها، من «تاريخه المعتم”؟ انتهاك يسعى إلى تحرير ذاكرة الشعر من ذاكرة اللغة نفسها؟
ندوكا: إنها أشبه بأنْ تشيّد القصائد معابدها داخل اللغة ثم تهدّمها على نحو متواصل. لا أعتقد بأنّ الذاكرة يمكن لها أن تطرد من اللغة. أعتقد بأننا، ككائنات بشرية، أوعية للغة والذاكرة والأحلام والرؤى على حدّ سواء. ولكنني لا أحاول، في ممارستي الشعرية، تطهير أيّ شيء. إنني، في الحقيقة، أزاول الشعر غير الطاهر النقي الصافي. فكثير من النقاء يقود إلى فاشيات أستاطيقيّة وسياسية. صار «الانتهاك”، في هذه الأيام، مقدّسًا في الفنّ على نحو أعمى، وهي مسألة باتت تصيبني بالضجر. أفضّل السلاسة في تأليف القصائد. ألتذ بالجيشان الذي يحدث حين أعمل على القصيدة. لم أعُد أرى تورّطي في لغتين عائقًا. لا تغويني التوقعات السائدة في الشعر. إنني مهتم بتجاوز الأُطر والأنساق والأمم والأيديولوجيّات. فحين أكتب القصيدة، أتبع حدسي. يتوجب على التاريخ في القصيدة أن يكون حيًّا يتنفّس؛ تاريخًا يمور ويجيش؛ ليس مُطهّرًا أو محبوسًا في شرنقة.
الشعر المدنس
كأنّك أقرب إلى فكرة بابلو نيرودا عن «شعرٍ مُدنّس/ غير طاهر كالثياب التي نرتديها، أو أجسادنا، وهي مبقّعةً بالحساء، متّسخة بسلوكنا الفاضح، بتجاعيدنا ويقظاتنا الساهرة وأحلامنا، بملحوظاتنا ونبوءاتنا، بتصريحاتنا عن الكراهية والحبّ، بالأناشيد الرعويّة والوحوش، بانشداهات اللقاء، بالولاءات السياسية، بالنّكران والشكوك” أكثر من فكرة مالارمي عن الشعر «الصافي/ النقيّ”؟
ندوكا: نعم. تناسب مزاجي أفكار نيرودا عن الشعر المدنّس أكثر من فكرة مالارميه عن الشعر الصافي. الشعر المدنّس رحب بما يكفي للسماح بكل تناقضاتي: الهدوء والصخب، السكينة والتنافر، الروحانيّة والشهوانيّة، الإيمان والشكّ، الحب والغضب، النظام والفوضى، العزلة والجماعة، المنفى والوطن. يبدو الشعر «الصافي” نخبويّا جدًا؛ إنّه يشيع جوًّا من اللامبالاة. لا أكترث بأدب القفّازات. يغريني الشعر الغريزي أكثر. ولكنني لا أزيل الأفكار التجريديّة من القصائد التي أكتبها إن كانت القصائد تحتاجها. أتبع القصيدة إلى أيّ مكان تأخذني إليه. يتوجب على المرء، في إخلاصه للقصيدة، أن يكون مستعدًا لأن «يخفق” في بعض الأحيان. كما أنني أسمح للسياسيّ وغير السياسيّ أن يرقصا الفالس داخل قصائدي. وأفسح المجال للحسيّ/الإيروتيكي والصوفيّ أيضًا.
أناشيد السوريالي
كل شيء في قصائدك متجذّر في السّوريالي عميقًا، حتى السياسي أيضًا.. كأنّ الكلمات «عصافير تطير داخل صفحة مليئة بالنّبال”؟
ندوكا: أتفق معك. فالسورياليّ حيث يشرب الواقعيّ منه. السوريالي منعش شعريًّا. ولكنّ ذلك لا يعني بأنني أتقصّد فرض تأثيرات سورياليّة على كتاباتي؛ يحدث في كثير من الأحيان أن أرى العالم على نحو سورياليّ. الرؤية، الجسد، الكلمة، الفكر، النشيد، إنها تتجسد سورياليًّا في كتابتي وحياتي. كما أنني أشعر بالسياسيّ على نحو شديد حتى يتجسد بطرائق سوريالية في قصائدي ونثري.
الاحتفاء بالجسد
يُحتفى بالحسيّ/الإيروتيكي في قصائدك بوصفه استعارة، وليس الجسد، في لحظات كشف أسراره وحجبها، إلّا «تناصًّا” باذخًا يتحوّل ويشرق؟
ندوكا: الإيروتيكيّ مبثوث، واقعيًّا، في كل شيء أكتبه. إنّ الإيروتيكيّ، بالنسبة إليّ، فيزيقيّ وصوفيّ على حدّ سواء. يساعد الإيروتيكيّ أرواحنا على الارتقاء. أشعر، شخصيًّا، بأنّ حياتي اليومية تصبح متعاظمة ومشحونة بطاقة إيجابيّة حين ألج مدار الإيروتيكيّ. عناق الرجل والمرأة؛ تبادل الطاقة والهواء مع الأشجار؛ الاشتباك العميق مع التصاوير والمنحوتات والموسيقى والأفلام، يتشكل الإيروتيكيّ من كل هذه الأشياء مجتمعة. لا يستطيع المرء تمامًا أن يكشف أسرار الجنس ومطارحة الغرام، على سبيل المثال، فالمطارحة تجريبيّة وأسطوريّة على حدّ سواء. إنّ فعل الحُبّ يضيء الكثير من قصائدي. ثمة قصائد حب وقصائد إيروتيكيّة كثيرة في دواويني، كـ”قصائد بريمن”، و”حقل القلب”، و”ثعبان ماء على شعبة مرجانيّة”، و”قصّاصو الأثر”، و”إيجيلي”، و”التاسعة شرقًا”. نعم، إنّني أحتفي بالجسد في لحظات النشوة الحسيّة التي تنتابه. الجسد يدخل في الكلمات؛ الكلمات تنزلق في الجسد؛ الجسد يدخل في جسد آخر. يجرى التحوّل، يدًا بيد، وساقًا بساق.
المخيّلة الشعريّة
دفعتني أفكارك حول الإيروتيكيّ والسوريالي والغريزي إلى التفكير فيما قاله لوركا، في «جمال كلّ الأشياء الذي لا يُقاوَم”، حول المخيّلة الشعريّة وكيف أنّها «مرادفة للاكتشاف”— «أن نتخيّل: أن نكتشف، أن نحمل كسرة الضياء إلى شِبْه الظلّ الحي، حيث توجد كلّ الاحتمالات المطلقة والأشكال والأعداد.. المخيّلة وسيلة روحية، مستكشفة ملهمة للعالم الذي تستكشفه. تهيّئ المخيلة وتمنح حياة مشرقة لشظايا الحقيقة المحجوبة حيث يضجّ الإنسان.. نادرًا ما تكتشف المخيّلة أشياء خلقت للتوّ، إنها لا تلفّق، وكلّما فعلت ذلك يهزمها جمال الحقيقة”. فهل تعتقد بأنّ القصيدة طريقة للاكتشاف (وبأنّ الشاعر «يهيمن على مخيّلته ثم يطلقها حيث يشاء”) أم ترى القصيدة مجرّد إبداع؛ خلق «مخيّلة صافية”؟
ندوكا: أحب، أيضًا، تبصّرات لوركا حول الدّوينده. إنّ معتقداته وتصريحاته حول النص الشعريّ. وبالحديث عن نفسي، فإنني أعتقد بأنّ الشاعر وعاء تدخل من خلاله الرسائل والنبوءات والرؤى والحقائق إلى العالم. عمل الشاعر هو عمل روحاني وفكريّ وماديّ. الشاعر مكتشف وحافظ للأشياء على حدّ سواء. يختار كل شاعر بعض مظاهر من التقليد الأدبي التي تخدمه ويرفض أخرى. كما أنّه يضيف إلى التقليد حين يكون مبتكرًا على نحو متفرّد. إنّني، كشاعر، أدوّن أحلامي الفريدة وفلسفاتي وآمالي واحتجاجاتي وصلواتي واكتشافاتي الوجودية، إضافة إلى الحقيقة/الجغرافيا الواقعيّة المقبولة عمومًا. نعم، القصيدة وسيلة للاكتشافات الفيزيقية والروحانية والسياسية. ولست أرى القصيدة مجرّد بدعة «تخيليّة صرفة”. إنني أزاول الشعر المدنّس. أكتب بمساعدة كل شيء حولي، الاحتجاجات السياسية في الشارع، الكتب، والأفلام، والمنحوتات، واللوحات التشكيليّة، والأمم، والمانترات [التعاويذ الصوتية السنسكريتيّة]، والعلاقات الإنسانيّة، والحُبّ، والعوالم الرقميّة، والجنس، والمساجد، والكنائس، والمعابد، والمزارات، والرحلات، والخيبة، والفرح، والآمال، والمنفى، والنوستالجيا، والغضب، والإيروتيكيّة، والأمثولات، والأناشيد، والكتب السماوية، والجمال.