*خليل قنديل
لم يدر سيد الرواية الكلاسيكية «سيرفانتيس» وهو يرسم الخطوط الأولى لروايته «دون كيخوته» أنه وهو يقبل على السرد الروائي بهذه الروح التي لا تخلو من رشاقة الخفة، منذ السطر الأول في الرواية، قد بدأ يؤسس للرواية العالمية الجديدة بنكهة جديدة كانت قادرة على تهشيم فكرة الفرسان التي كانت مقدسة في زمانه، وأنه قد بدأ ايضاً بخلع الخرافات الساذجة عن الفن الروائي، ومنحه هذه المعقولية المدهشة.
هذه العبقرية التي تحلى بها «سيرفانتيس» جعلت هذا العمل يتأبد في الحب، مثلما جعلته أيضاً يمتلك خاصية التشكل الجديد الجاذب والممغنط عند كل قراءة للعمل، ولعل هذا هو التأبيد الجميل لكل عمل فني خارق.
وقد بدت رواية «دون كيخوته» كعمل يكاد يكون اسطورياً، بسبب العفوية المتدفقة للسرد، وتخلي سيرفانتيس عن نصه الروائي، وهو يعمل على ان يكون سارد النص هو أحد كهول العرب.
ان هذا الطرح يجعلنا نقترب من ما يمكن تسميته بكيمياء الكتابة واسرارها الغريبة والعميقة، فالأدب لا يكشف عن أهواره العميقة إلا اذا امتلكنا تلك السكين القادرة على خدش جلد الكتابة والدخول في تفاصيلها.
والسؤال هو كيف يمكن جعل الكتابة الإبداعية وكل الفنون من رسم ومسرح وموسيقى ان تظل بمنأى عن الوصل والاتصال معها، وربما محاولة إعادة إنتاجها من جديد تحت فكاهة مصطلح «التناص»، لكن مع هذا يبدو ان فعل «التناص» هو الضريبة التي يسددها العمل الابداعي الذي لا يخلو من العبقرية.
وفي مجال القصائد والنشيد تحولت عربياً بعض الاغاني الوطنية وبعض الأناشيد إلى مكان إقامة صالح لكل الحناجر. ان نشيداً مثل الذي كتبه سيد درويش وهو «بلادي بلادي» تحول ايقونة وطنية يمكن ان تنشدها أي دولة عربية وتبدو متخلصة من خصوصيتها القطرية، فمن يسمع هذا النشيد باعتباره النشيد الوطني لفلسطين لا يتبادر إلى ذهنه ان هذا النشيد يتجدد في كل حنجرة مصرية.
ما أود ان أصل إليه ان بعض الأغاني والقصائد كلما زاد عمقها التأثيري تتحول تلقائياً إلى ملكية عامة، ملكية ربما تكون قادرة على طمس مؤلفها الأول.
إن ملكية درويش في المؤلف الموسيقي تبدو متاحة للعديد من الاصوات الغنائية العربية، فحين غنت الفنانة «فيروز» بعض أغاني سيد درويش استطاعت ان تعطي بعض هذه الأغاني نهوضها الزماني المتألق، ونحن نستمع إلى تلك الاغنيات، ليس على اعتبار انها كتبت قبل ما يزيد على قرن بل هي ابنة واقعنا الآني.
وهكذا فإننا ونحن نشاهد بعض الاعمال المسرحية الخاصة بشكسبير نجد انفسنا وقد عبرنا أكثر من قرن دون أن نشعر بالفارق الزمني.
إن هذا هو ديدن الأعمال العظيمة التي ما إن تتحرش بها وتستحضرها حتى تأتيك يانعة ومتألقة وكأنها ابنة زمانك المضارع هذا الذي تقيم فيه.
وهنا بالضبط تكمن وتقيم تلك العبقرية الساحرة التي تجدد تكوينها عند كل استدعاء أو نداء.
________
*(الإمارات اليوم)