إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق: الخطاب. الآخر. الصورة. للدكتور وليد الشرفا

عمر شبانة *

خاص ثقافات

كان إدوارد سعيد (1 تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1935 القدس 25 أيلول/ سبتمبر 2003) ، وسوف يظل مستقبلا، حقلا خصبا للدراسات والبحوث التي تتناول نتاجه النقديّ المتميّز، بوصفه واحدا من كبار نقاد الثقافة والفكر الاستراتيجيين في العالم. ومنذ رحيله قبل اثني عشر عاما، لم تتوقّف هذه الدراسات عن اختيار حقل من الحقول التي اشتغل فيها سعيد، خصوصا في حقل الاستشراق. آخر هذه الدراسات وأحدثُها ما نعرض له هنا، ولو بقدر من الاختزال الذي يتيح تقديم أبرز محاور الدراسة، وأشدّها خطورة، وهو حضور الاستشراق في عالم الإعلام، وتأثيراته البارزة في هذا العالم المعقّد، ضمن رؤية لما يسمّى «تناسخ» الاستشراق، أي قدرته على التنقّل والتحوّل بين حقول متعددة، يتغير بتغير الزمان والمكان.

من خلال بحثه ومعاينته لعمل إدوارد سعيد في حقل «الاستشراق» عموما، و«نقد تناسخ الاستشراق» خصوصا، وحقل الاستشراق والنظرية الأدبية وانعكاسها على الإعلام، على نحو أشدّ خصوصية، يقوم الدكتور وليد الشرفا (أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت)، بجولة وإطلالة على عالم المفكر العربي إدوارد سعيد النقدي والفكري، في حقل «الاستشراق» منذ نشأته وتحوّلاته، والنظرية الأدبية وانعكاسها على الإعلام.

يخلص الشرفا في كتابه الموسوم بـ«إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق: الخطاب، الآخر، الصورة»، (الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، بشراكة مع مكتبة كل شيء في حيفا، 2016)، مكوّن من خمسة فصول، إلى خلاصات أساسية تطاول عالَم صاحب كتاب «الاستشراق» من جوانب متعددة، بعضها يتعلق بالمنهج الذي سلكه سعيد في دراساته، وبعضها الآخر مرتبط بالحقول التي اشتغل فيها، والبعض الثالث يرتبط بالخلاصات التي توصّل إليها سعيد، ووسمت عمله كلّه، في حقل يُعتبر هو أحد أبرز روّاده الأوائل، أعني حقل «نقد تناسخ الاستشراق» تحديدا.

الخلاصات الواردة في نهاية هذا البحث/ الكتاب، يمكن أن نلخّصها في «حزمة» مترابطة، تنهض في الأساس على البحث في «منهج» سعيد، ليخلص الباحث إلى أن «سعيد لم يكن لديه منهج إيديولوجيّ شموليّ يرى العالم ويفسّره من خلاله». كما أن «معظم النقد الموجّه ضد إدوارد سعيد (كان نقدا) أيديولوجيّا حادّا، ولم يكن هناك نقد معرفيّ أو أدبيّ، وكان التيّار الماركسيّ في العالم العربي هو الأبرز في هذه الانتقادات».

وفي ما يتعلق بمحور «استنساخ بنية الاستشراق وتفاصيله في الإعلام الغربيّ»، كان «من أوائل الباحثين الذين كشفوا عنه». وتبرز خصوصية مؤلف «الاستشراق» وحضوره في المشهد الثقافيّ في العالم في أنه «حاول إيجاد خطّ جامع بين معظم الفلسفات والإيديولوجيات والمدارس النقدية، وبين الخطاب المرتكز إلى الحرية والسلطة. من هنا تبرز الإشكالية في تصنيفه مفكرين مختلفين إيديولجيّا ضمن رؤية متشابهة لقضايا العالم مثل الربط بين غرامشي وفيكو وفوكو». وأن «الهاجس السياسيّ» ظلّ «همّ إدوارد سعيد الأكبر، سواء أكان ذلك في النظريّة النقدية المحضة، أم في الاستشراق كنتيجة لهذه العلاقات والرؤى، وحتى في الإعلام، ويمكن تبرير ذلك بكونه فلسطينيا يعيش حالة اغتراب ونفي».

خطّ منهجيّ

ولأنه يعالج مفاهيم حول الوعي وتمثيلات المثقف والسلطة والاستشراق والثقافة وعلاقتها بالإمبريالية، وآخذا بالاعتبار الربط المنهجي النقديّ بين النظريات الفلسفية والسياسية المعقدة على المستوى المعرفي، وبين أحداث تاريخية وقعت فعلا، وما زالت تفاعلاتها ماثلة حتى الآن، ولأن ذلك كلّه يتقاطع ويتكرر في نتاج سعيد، كان لا بدّ للشرفا من وضع خطّ منهجيّ (نسبيّا) لإضاءة هذه المفاهيم، والكشف عنها وربطها بالمدارات الفكرية الكبرى التي شغلت سعيد وأرّقتْه.

وعليه، فإن المنهج الذي قامت عليه دراسة الشرفا هذه، وهي دراسة ذات نهج يكاد يكون أكاديميّا، إن لم يكن كذلك حقّا، هو «قراءة أسس الخطاب كما وضحها سعيد، وهي التماسك والتأثير والاختفاء، وهي جزئية مرتبطة بجهود فوكو التي نوقشت بقدر يسمح بحضورها داخل هذه الاطروحة، وداخل النماذج الاستشراقية والإعلامية، وحضورها في خطاب سعيد في مواجهة منتقديه»؛ وهي قراءة لا يلتزم الباحث فيها «آلية حادة»، متفقا عليها بشكل رياضي، وذلك انسجاما مع رؤية سعيد التي لم تكن مقولبة بحدّة داخل أيّة رؤى. من دون أن يعني ذلك هربا نحو الانطباعية والتفسير بالمعنى الأولي.

في نظرة إجمالية إلى الجهد البحثيّ المبذول هنا، يمكن القيام بعرض أوّليّ لمجمل المقولات التي يعرض لها، في فصول كتابه الخمسة، ثم نتوقف بصورة أوسع أعمق عند الفصل الخامس الذي جاء هذا البحث ليفصّل فيه على نحو خاص، موضوع «الاستشراق إعلاميّا: الإعلام وإعادة تشكيل الواقع، عودة إلى الموروث، الثورة الإسلامية وأدلجة الإعلام، الإعلام.. التضليل وأيديولوجيا الاستعمار، العقلانية.. الديمقراطية وإعادة التمثيل الإعلامي..الخ.

عناوين مألوفة

يعالج د. الشرفا في الفصل الأول من كتابه، عناوين مألوفة في عالم إدوارد سعيد، مثل «العالم، النص، المفهوم والعلاقة، إشكالية المنهج! الخطاب، السلطة، والمعرفة»، ومنذ البداية نراه يقرر أن القراءة لن تفلح في حصر مفاهيم نظرية وتطبيقية تختزل رحلة الوعي الإنساني عبر التاريخ – الحديث والمعاصر خصوصا – لأن «إدوارد» ليس ناقدا مقولبا ومتخصصا بشكل أدبي، كما أنه ليس منظِّرا لمنهج نقدي محدد ومتكامل بالشكل التقليدي للمنهج، وكان دوره دور الباحث الدائم عن المعرفة الواعية المقارنة، فهو يعرض المقولات وينقدها بنظرة غير مقولبة وجاهزة إيديولوجيّا.

وهنا تجدر الإشارة إلى الجهد الأساسيّ في بحث كيفية «تناسخ الاستشراق»، إذ يبدأ نقد الاستشراق بتوضيح معالم تأسيس واختراع الأنا «الغربي» بصفته معيارا يعود مخترقا وفاحصا لجوهر ذلك الكيان المرعب، الذي وصل أوروبا واقتحمها. ومنهج ادوارد سعيد في نقد هذا التناسخ حيث مفاهيم البنية والأمة والطبقة والخطاب والموقف من ماركس، بصفته إشكالا منهجيا أثار كثيرا من الجدل مع كثير من النقاد العرب، مثل صادق جلال العظم ومهدي عامل وهشام شرابي ومحمد أركون وغيرهم.

وتبدأ هذه المرحلة من تراكم أرشيف معرفي تسلّطي في قراءة الشرق ومن ثم كتابته، ومن ثم حملة نابليون على مصر بصفتها تجسيدا لتلاحم المعرفي بالتسلطي بالسياسي، ولاحقا عودة «التنوير» معيارا أوروبيا في مواجهة ما يُدعى «الظلاميّة» الشرقية، ورصد التناسخ الذي حدث مع رينان؛ حيث تمت إعادة إنتاج فقه اللغة معيارا غربيّا، يعيد التعارض بصيغة لغوية: لغة عربية، لغة غربية، وهنا ترث اللغة الجغرافيا والتاريخ والعرق. ويتم الانتقال إلى «الاستشراق المعاصر» بصفته محطة تناسخ مفصلية، حيث تحول الامتياز المعياري من العقل الأوروبي إلى العقل الأمريكي، إذ تمّت إعادة استنساخ المعيار بالحقل الاجتماعي بديلا عن فقه اللغة، في محاكمة الإسلام هذه المرة، وسيكون برنارد لويس مؤسسها الأبرز؛ اذ تعطي المعرفة تسويغا للتدخل السياسي في عالم الإسلام بين ثقافتين: الأولى يمثّلها العرب، والثانية تتمثل في إسرائيل، وهنا كان التناسخ المزدوج في نقل المعيارية والدونية والتسلط والإلغاء في أن معا.

الاستشراق إعلاميّا.. أدلجة الإعلام

المحور الأساس للفصل الخامس، هو الاستشراق بتشكيلاته الإعلامية، بصفته الشكل التكنولوجي للعقلانية، والديمقراطية الغربية، ربما لأنه جزء مهم في فهم العلاقة بين الإسلام والغرب، باعتراف إدوارد سعيد نفسه، ويركز على الجذور الاستشراقية التي أعيد استنتاجها إعلاميا في قراءة الشرق والإسلام، وتمثل التغطية الإعلامية للثورة الإيرانية والقضية الفلسطينية الشاهد على هذه المركزية والانتقائية واستمرار الخطاب في فعاليته باختلاف الأدوات التي كانت سمعية وبصرية وجماهيرية- الصحف- هذه المرة.

لقد ساعد التطور الهائل في وسائل الاتصال، على مستوى التقنيات والخدمات، وكون وسيلة الإعلام تمثل حالة تواصل بنيوية مرتبطة بشكل ثقافي بحكم بنية المجتمع الذي يتحرك فيه، ساعد على أن يتنازل الإعلام المعاصر عن براءته وحياديّته، بوصفه ناقلا ومصوّرا للأحداث والوقائع إلى طرف حيويّ، ظاهر أم خفيّ، تكمن مثل هذه الحيوية في عناصر مثل ترتيب الأولويّات وعمليات التمويه، وصولا إلى الإيهام بـ«الواقعية» التي تحمل واقعا مختلفا يرمز إلى الواقع الحقيقي ويتقاطع معه، من دون أن يكون هو نفسه بالفعل.

جاء ذلك في إطار اعتبار أن الوعي الاجتماعي هو «نتاج لعملية صياغة مستمرة تتم بواسطة آليات مختلفة ومتنوعة..»، وكلمة السرّ في التأثير على الواقع عبر الصورة والمعلومة، هي «عمليات الانتقائية، التأخير، الترتيب، الحجب، والتمويه»، وما يعنيه ذلك من «قدرة في التأثير على الاهتمام الشعبي بالقضايا، والتأثير في ما يفكر الناس فيه، والظروف التي يكون الجمهور عليها عند تلقي أية رسالة».

ويجري تناول الإعلام هنا، بصفته شكلا تكنولوجيّا ينتج معرفة أو ينقلها، أو الحالتين معا، في دائرة البنية الفوقية التي تصارع لإثبات ذاتها، وتمارس حالة من التماهي مع الواقع الذي تنقله، لذا فهي تنقل «واقعا وسائطيا من خلال نقل الأحداث والتطورات التي ليس في مقدورنا الوصول إليها شخصيا، فما نراه على شاشات التلفزة وعلى صفحات الصحف، ليس إلا تصورات للواقع كما يصوغها ويتصورها أصحاب هذه الوسائل الإعلامية، وبالتالي فإن الواقع الوسائطي هو انعكاس للرؤية التي يمتلكها أصحاب رؤوس الأموال المهيمنون على النتاج الثقافي والاجتماعي».

وعليه، فإن ضرورة «استنساخ» صورة ما من صور الاستشراق، بما يلائم المرحلة، دفعت إلى البحث عن «آخر/ عدو» تضعه الآلة الإعلامية في صورة «الشرّ» الذي يهدّد الحضارة. وهنا يلتقي خطاب إدوارد سعيد مع خطاب نعومي تشومسكي، في ما يتعلق بطبيعة الإعلام، وتصنيعه وتوجيهه لما يدعى «الرأي العام»، وتحالف الإعلام و«المؤسسة ذات النفوذ»، ثم التعامل مع «الإعلام» بوصفه «مؤسسة أيديولوجيّة»، وسيطرة «الأجهزة الرمزية والإعلامية» وتحالفاتها، حتى أن «الدولة لم تعد سيدة وسائل الإعلام»، بل على العكس فإن «وسائل الإعلام هي سيدة الدولة».

ويتناول الباحث هنا ما قدّمه إدوارد سعيد في كتابه «تغطية الإسلام» من صور «شيطنة» العرب والإسلام، في الإعلام الغربي عموما، والأمريكي على نحو خاص، سواء تعلق الأمر بمرحلة الأزمة النفطية، أم بالمقاومة الفلسطينية ومحاولات وسْمها بسِمة «الإرهاب»، أو بما يعرف بـ«الثورة الإسلامية» في إيران، وحتى في ما يتعلق بالحالة الأفغانية، وما أنتجته من «إرهاب» كان صناعة استخباراتية أمريكية بامتياز، في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

شواهد كثيرة يسوقها مؤلف هذا الكتاب، وهي من صميم عمل إدوارد سعيد، تؤشر على الكيفية التي يجري بها «تصنيع» صورة وترويجها، عبر الإعلام، من دون أن تجد هذه الصورة أي جهد للتفكير في صحّتها، وذلك بتمويل وتحالف بين السلطات الحاكمة وبين «سلطة الإعلام». بل إن بعض الصور التي تشيعها وسائل الإعلام، عبر كتّابها المعروفين في كثير من الأحيان، هي صور شديدة الهشاشة في نمطيتها (كليشيهات). ويكفي أن أختم بمثال يُظهر الخطاب التضليلي الانتقائي المركزي وتغليف المصالح بغطاء حضاري بلا قيم، مظاهر الاحتقار والتضليل، والشمولية في الرؤية. يتجسد هذا المثال في حملات قادها وخطط لها برنارد لويس، ومنها أربع مقالات للكاتبة فلورا لويس، نشرتها في «التايمز، نقرأ فيها أن «الشعر العربي خطابيّ متكلف، غير ذاتيّ وغير حميم»، وأن «العقلية الإسلامية غير قادرة على التفكير المتسلسل»، وأن «اللغة الفارسية مراوغة..»، والغريب أن آراء كهذه تمرّد في الإعلام بلا أيّ مساءلة.

_________________

– يقع الكتاب في 240 صفحة من القطع المتوسط. صدر في يناير 2016.

– يذكر أن الدكتور وليد الشرفا هو أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، صدر له عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر رواية «القادم من القيامة»، التي رشحت لجائزة البوكر في العام 2013، وكذلك كتاب «الجزيرة والإخوان»، و«من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة. وتتركز اهتماماته على دراسة الاستشراق والسرد وثقافة الصورة.

__________

* شاعر وناقد من الأردن/ عن مجلة الفجيرة الثقافية.

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *