تشومسكي وفوكو.. البحث عن الأفكار داخل جبل


*علاء الدين محمود


هذا الحوار الذي جمع بين الفيلسوفين الكبيرين نعوم تشومسكي، وميشيل فوكو مختلف، وقد يكون الأهم في القرن الماضي، والمناظرة التي ضمها كتاب بعنوان «عن الطبيعة الإنسانية» ليست مبارزة فكرية أراد فيها كل طرف أن ينتصر لموقفه، فكرته، فلسفته. بل هو نقاش من أجل الحقيقة، وهذا ما نلمحه من خلال العقل المفتوح الذي تعامل به كل فيلسوف في استماعه وتفاعله مع الآخر وهو ما أثرى الحوار كثيرا
أبان كثيرا من نقاط الالتقاء التي ربما ينظر إليها الكثيرون كعملية نادرة نسبة للاختلاف الذي ينطلق منه كل واحد منهما في موقفه ونظرته للحياة، ورغم اشتغالهما على حقل واحد في مجال اللغويات والإبداع، لكنهما اختارا ساحة السياسة لتشهد ذلك النزال المعرفي، وربما يلامس الحقيقة كثيراً ما ذهب إليه مقدم المناظرة ومدير الحوار الفيلسوف الهولندي فونس إلدرز من أن أفضل طريقة للمقارنة بين الفيلسوفين هي النظر إليهما كحافري أنفاق داخل جبل، وكل منهما يحفر من جهة مقابلة للآخر في الجبل نفسه، وبأدوات مختلفة غير عارفين أنهما يعملان في اتجاه بعضهما ولكن كل منهما يؤدي عمله بأفكار جديدة تماماً، فهما يحفران بعمق قدر الإمكان و«بالتزام متساو في الفلسفة السياسية». والعبارة الأخيرة للفيلسوف ديكارت اختطفها إلدرز من نعوم تشومسكي لحظة تبريره لكيفية الولوج إلى هذه العوالم والمجالات المختلفة بين اللغويات والإبداع والفلسفة والسياسة.
الكتاب صدر في مارس من العام الماضي، عن دار التنوير للنشر والتوزيع (فلسطين) وهو الكتاب الذي حرره جون راكمان وقام بترجمته أمير زكي.
يقع الكتاب في 246 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم خمسة فصول هي: «الطبيعة الإنسانية، العدالة في مواجهة السلطة» و«السياسة، نعوم تشومسكي» و«فلسفة اللغة، نعوم تشومسكي» و«الحقيقة والسلطة، ميشيل فوكو» و«نحو نقد للعقل السياسي ميشيل فوكو» إلى جانب مقالة لميشيل فوكو بعنوان «مواجهة الحكومات: حقوق الإنسان» بمناسبة الإعلان بجنيف عن تشكل لجنة دولية لمواجهة القرصنة، والمقال في الأصل تصريح لفوكو بصحيفة «ليبراسيون» في يونيو 1984.
والكتاب هو في الأصل مناظرة عُرِضَت في التلفزيون الهولندي عام 1971 في ذروة حرب فييتنام، وفي زمن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويتسابق فيه الفيلسوفان على الإجابة عن سؤال: هل هنالك شيء يدعى الطبيعة الإنسانية «الموروثة» المستقلة عن خبرتنا والتأثيرات الخارجية؟، النقاش الذي أثمر عن الحوار كان بالفعل ملهما، وأثار عصفاً ذهنياً لدى الفلاسفة المعاصرين، وربما ذلك ما دعا مقدم الكتاب جون راكمان إلى وصف الحوار بأنه يعتبر واحداً من أكثر المحاورات أصالة وتلقائية وإثارة للتفكير بين الفلاسفة المعاصرين، وعلاوة على ذلك يساعد على عرض مقدمة موجزة لنظريتهما الأساسية ويقول «إن الحوار الذي بدأ كنقاش فلسفي منطلقاً من اللغويات ونظرية المعرفة انتقل إلى نقاش أعم غطى مساحة كبيرة من الموضوعات امتدت من العلم والتاريخ وعلم النفس إلى الإبداع والحرية والنضال من أجل العدالة في مملكة السياسة» وربما يعتبر النقاش ناقصاً لأن موت ميشيل فوكو حرم القراء من متابعة تداعياته، وهذا ما دعا جون راكمان إلى القول إن موت فوكو جردنا من دوره المتواصل في النقاش. على الرغم من ذلك تعتبر المناظرة التي شارك فيها جمهور من المثقفين ملهمة جداً وبذلت فيها كثير من الأفكار للفيلسوفين، كما أنها شكلت آراء ومواقف ومفاهيم جديدة.
المناظرة في بدايتها اتخذت طابعاً تقنياً في الفصل الأول من الكتاب المعنون ب«الطبيعة الإنسانية، العدالة في مواجهة السلطة» ينطلق تشومسكي الذي التقط القفاز أولاً باعتباره مهتماً بمفهوم «الطبيعة الإنسانية» من زعم أن المعرفة الغريزية، هذه التخطيطية التي جعلت من الممكن استخلاص المعرفة المركبة والمعقدة من أساس البيانات الجزئية تماماً، هي واحدة من المكونات الأساسية للطبيعة الإنسانية، ويظن تشومسكي أنها مكون أساسي بسبب الدور الذي تلعبه اللغة، ويعتقد الرجل أن هذه المجموعة من التخطيطات أو المبادئ المنظمة الموروثة التي تقود السلوكيات الاجتماعية والإنسانية والفردية للبشر، هي التي يقصد الإشارة إليها بمفهوم الطبيعة الإنسانية. 
وعلى العكس من ذلك لا يجد فوكو في «الطبيعة الإنسانية» مفهوماً علمياً فهي لعبت دور المؤشر الإبستمولوجي لتحديد أنماط بعينها من الخطاب في علاقتها، أو في مواجهتها مع اللاهوت أو علم البيولوجيا أو التاريخ.
الانتقال إلى الأفكار السياسية لدى الفيلسوفين أراد منه مقدم الحوارية الهروب من هذا الطابع التقني الذي كاد أن يسيطر على المناظرة فكان أن دلف إلى عوالم السياسة والفلسفة في الجزء الثاني من النقاش بسؤال مباشر لميشيل فوكو حول اهتمامه بالسياسة وتفضيلها على الفلسفة؟ فوكو في إجابته نفى نسبة نفسه إلى الفلسفة بأي شكل ويرى أن عدم الاهتمام بالسياسة هو المشكلة ويقول فوكو: «أي عمى وأي صمم وأي ثقل للإيديولوجيا يمكنه أن يضغط علي ويمنعني من الاهتمام بما هو، من المرجح، أكثر الموضوعات أهمية لوجودنا، هذا الذي يعني المجتمع الذي نعيش فيه والعلاقات الاقتصادية التي تتوظف فيه ونسق السلطة الذي يعرف الأشكال المنتظمة والمسموحات والمحظورات المنتظمة في سلوكنا. فماهية حياتنا تتكون في النهاية من التوظيف السياسي للمجتمع الذي نجد فيه أنفسنا». إجابة فوكو ربما تضمنت استنكاراً حول طريقة طرح السؤال وهو ما دعا فوكو للقول: إن الأصح هو لماذا لا أهتم بالسياسة، ويرى فوكو أن السلطة السياسية تذهب أبعد وتتغلغل في عمق أكبر مما نفترض، فهي تتمتع بمراكز ونقاط إسناد غير مرئية، غير معروفة تماماً، فالمقاومة الحقيقية التي تبديها، وكذلك صلابتها الحقيقية قد تكون قائمة في المكان الذي لا نتوقعها قائمة فيه. ربما لا يكفي القول بأن وراء الحكومة، فيما وراء الدولة، هناك طبقة مهيمنة، لأن هذه الهيمنة ليست مجرد تعبير، ضمن مفردات السياسة، عن الاستغلال الاقتصادي، إنها أداتها، وبصورة أكبر الشرط الذي يجعلها ممكنة؛ فالتخلص من واحدة منها يتم تحققه بالتعرف الكامل على الأخرى. فإذا لم نتوصل لمعرفة نقاط الارتكاز التي تستند إليها سلطة الطبقة، نغامر بجعلها تواصل ممارستها وبالتالي إعادة بناء سلطة الطبقة هذه ضمن مسار ثوري في الظاهر. ويبدو أن فوكو لم يبارح فعلياً مملكة «كارل ماركس» الفكرية والفلسفية، بل بدأ أن الرجل يحفر في ذات المجرى، وربما هذا ما دفع مقدم الكتاب إلى الإشارة إلى الخيارات الضيقة والبحث عن أفق جديد عندما طرح سؤال: هل النماذج الماركسية القديمة نسبياً كافية؟ أم على المرء أن ينطلق من تقاليد تنويرية أخرى؟ ويبدو السؤال المركب وكأنه يقر بأن الجميع ما زالوا ماكثين في مجرى ماركس رغم الاختلافات، بل ويؤكد سطوة الفيلسوف الفكرية وهيمنته التي ما زالت راهنة.
وربما قريباً من الاتجاه مضى نعوم تشومسكي المهتم ب«الاشتراكية التحررية» والذي ينظر إلى السياسة مستصحباً طرحه حول الطبيعة الإنسانية فهو يرى أن أحد عناصر الطبيعة الإنسانية الأساسية هو الحاجة للعمل المبدع، والبحث المبدع وإلى الإبداع الحر دون تأثير متعسف ومضيق من قبل المؤسسات المتسلطة المستبدة، وما ينتج عن ذلك هو مجتمع سليم يضاعف الإمكانات لهذه الصفة الإنسانية الأساسية المؤكدة، ويهاجم تشومسكي كل أنواع التسلط والقمع وكل أشكال السيطرة الأوتوقراطية مثل الملكية الخاصة لرأس المال أو تحكم الدولة في بعض جوانب الحياة الإنسانية وأي نوع من أنواع القيد الأوتوقراطي على جانب ما من المحاولة الإنسانية يتم تبريره بمصطلحات الحاجة إلى الدعم والحاجة إلى العيش أو الحاجة إلى الدفاع في مواجهة قدر رهيب ما أو شيء من هذا النوع، ولا يمكن تبريره بشكل موروث يجب بالأحرى تجاوزه ومحوه، ويرى تشومسكي أن نظاماً متآلفاً، لا مركزياً لجمعيات حرة، تندمج فيها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، قد يؤسس لما يسميه بالفوضوية النقابية؛ ويرى تشومسكي أن هذا هو الشكل الاجتماعي المنظم بالنسبة لمجتمع متقدم تكنولوجياً، لا تتحول فيه الكائنات البشرية إلى مجرد أدوات في عجلات الميكانيك، ويقول إنه ليست هناك أية ضرورة اجتماعية تستوجب معاملة الكائنات الإنسانية باعتبارهم حلقات في سلسلة الإنتاج، لذا لا بد من التغلب على هذا الموقف وذلك بخلق مجتمع للحرية وللتآلف الحر، حيث سيكون بمقدور الدافع الإبداعي المغروز في الطبيعة الإنسانية تحقيق ذاته بالطريقة التي يقررها.
وبالمقابل ينفي ميشيل فوكو وصف المجتمع الغربي إجابة عن سؤال بالمجتمع الديمقراطي، ويقول: «إذا كان المرء يقصد بالديمقراطية الممارسة الفعلية للسلطة من قبل الجماهير الواحدة وغير المنظمة ترتيباً في طبقات، سيكون من الواضح تماماً بأننا ما زلنا بعيدين عن ذلك تماماً. كذلك من الواضح بأننا نعيش تحت نظام ديكتاتورية الطبقة، وسلطة الطبقة التي تفرض نفسها بالعنف، حتى عندما تكون أدوات هذا العنف مؤسساتية أو دستورية، وبدرجة لا تجعلنا نقول عن ذلك المجتمع بأنه ديمقراطي».
ويؤكد فوكو أن واحدة من المهام التي تبدو ملحة له مباشرة، وفوق أية مهمة أخرى، هي ضرورة إظهار جميع علائق السلطة السياسية، بما فيها الخفية، التي تتم بواسطتها حالياً مراقبة الجسد الاجتماعي، أي التي تقمعه أو تكبحه.
من ناحيته يتفق تشومسكي مع عدد من النقاط المطروحة ويشير إلى مهمتين ثقافيتين: تلك التي تكمن في محاولة خلق رؤية عن مجتمع عادل في المستقبل؛ وفي خلق نظرية اجتماعية إنسانية أيضاً تتأسس، إذا كان ذلك ممكناً، على مفهوم صلب لجوهر الطبيعة الإنسانية، والمهمة الثانية تكمن في الفهم الواضح لطبيعة السلطة، للقمع، للإرهاب والتدمير في المجتمعات الغربية. مشيرا إلى المؤسسات المركزية لكل مجتمع صناعي، أي الشركات الاقتصادية، المالية والتجارية، وفي المرحلة القادمة، الشركات متعددة الجنسيات فهذه هي مؤسسات القمع الأساسية، مؤسسات الاستبداد وقانون الاكتفاء الذاتي التي تبدو كأنها محايدة بالرغم عن كل ما تقوله عن نفسها: ويخلص تشومسكي بالقول:«نحن تابعون لديمقراطية السوق، وهذا ما ينبغي فهمه باعتباره بالدقة ما يتوافق مع سلطاتها الاستبدادية، بما فيها الشكل الخاص للمراقبة الذي يتولد من هيمنة قوى السوق في مجتمع غير متساوٍ».
لا شك في أن المناظرة تقدم طرائق جديدة في التفكير وتطرح حلولاً متقدمة إضافة إلى كونها متعة فكرية ومعرفية، لم ينس خلالها الفيلسوفان الكبيران الحديث في مجاليهما الأصل اللغويات والإبداع.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *