الرابحة

*عزة رشاد

خاص ثقافات

وحدك لم تتغيري “أيتها الماكرة”، بينما أكلتنا الكهولة، سعاد سمنت وترهل جسمها بعد أن امتلأت بطنها وأفرغت حمولتها أربع مرات، نصفهم أولاد ونصفهم بنات، هذا بخلاف آلام الظهر والمفاصل التي اقتنصت ضحكتها القديمة المميزة، أما هند فعودها النحيل لم يتغير لكن الهموم والتجاعيد تجعل من يراها يعطيها عشر سنوات فوق عمرها، وأنا، والحمدلله على كل شيء، أخذت بعضاً من هند وبعضاً من سعاد، فالمرء على دين خليله كما تعلمين.

أنتِ الوحيدة التي ما زلتِ جميلة وشابة، بشعرك الأسود الطويل تعقدينه “ذيل الحصان” بشريط وردي، وعينيك الواسعتين المندهشتين، وساقيك الطويلتين المنفلتتين من تحت المريول الكاكي، كما شهدتك ساحة المدرسة، وأنتِ لم تبلغي بعد عامك السادس…

ستة أكف متشابكة في أغنية البنات الطفولية:

إحنا التلاتة………. سكر نباتة

تظهرين أمامنا وحيدة ومرتبكة، في أول يوم لك بالمدرسة، تدورين حول نفسك:

دوخيني يا لمونة دوخيني…

أفك تشابك يدي من يد سعاد وتلتقط كل منا إحدى كفيك الصغيرتين ونعدل غنوتنا:

إحنا الأربعة……….. أجمل أربعة

نقطع عود العسلية إلى أربع قطع متساوية، ونقسم حبات الحرنكش على أربعة، ونمرر الدومة المعسلة علينا، كل واحدة قضمة، ونفرش فوق حصى الحوش وشاح هند لنعمل غديوة في فسحة المدرسة بتشاركنا سندوتشات الجبن القريش والحلبة المحوجة والبطاطس المحمرة والحلاوة الطحينية.

لكننا، بعد فترة قصيرة، سنقذفك بنفس الحصى ونجرسك بالصياح

يا فاطرة رمضان يا خاسرة دينك

كلبتنا السودة هتقطع مصارينك

حدث هذا بعد أن ضبطتك هند تقضمين الرغيف الساخن وهو خارج من الفرن قبيل المغرب في أول يوم بحياتنا، نصومه كاملاً احتجاجا على اتهام الكبار لنا “أبناء أولى ابتدائي” بالضعف وقلة الاحتمال تجاه البأس الذي يحتاجه صوم الشهر الكريم.

تثورين على اتهامنا وتبررين فعلتك الجبارة بعبارة خرجت من فمك صادقة تماما، فأخمدت ثورتنا، لكنها جعلت أمي تنحني من الضحك والعجب حينما ذكرتها لها:

ـ أنا ذقته. بس مابلعتهوش

تثورين على سخريتنا وتتعاين على لعبتنا وغنوتنا وتفكين كفيك وتبتعدين. تدورين في خيلائك البعيد وفي الوسعاية الممتدة تحت البيت:

دوخيني يا لمونة دوخيني….

وتدارين تقصيرك في حفظ القرآن في كتّاب الشيخ إبراهيم بعبارة تفسطنا من الضحك وتكف يده عنك:

ـ الذنب مش ذنبي. ده ذنب مخي. هوة اللي مابيعرفش يحفظ.

نداري ضحكاتنا في ثنايا أكمامنا “كنا صغاراً وليغفر المولى لنا ولكِ”، بينما ينظر الشيخ إبراهيم لبراءة وجهكِ حائراً وعاجزا عن التصرف، وعصاه المرفوعة في وجهك ترتد إلى جانبه، ويده التي ضربتْ كل من أخطأتْ في كلمة أو حتى حرف واحد تحتالين وتنجحين في جعلها تقتصر عنك. الشيخ إبراهيم الذي تجهم وجهه ولم يستطع أن يأخذ منك حقاً ولا باطلاً لن يسعفه لسانه قبيل انتهاء الدرس سوى بالصياح بعبارة واحدة:

ـ اللي مخه ما بيعرفش يحفظ ما يورينيش وشه تاني.

ورحنا نكبر ويكبر معكِ عنادك، فتناكفين أبلة وداد مدرسة الفيزياء:

ـ ما بأحبش الفيزياء. غصب عني

تنظر لكِ مندهشة وهي تفكر بعبارتك عاجزة عن الرد إلا بعد برهة طويلة وتدهشنا بصوتها المنخفض وغير الحاسم:

ـ مفيش في المدرسة حاجة اسمها بأحب وما بأحبش.

تربحين هذه الجولة أيضاً بمفاجأة غرمائك وإرباكهم فيعجزون عن النيل منك.

تسألك سعاد:

ـ مابتحبيش الفيزيا! طب بتحبي إيه؟

كان حلم سعاد تصبح طبيبة تداوي المرضى فيمطرونها بالأدعية الطيبة، وكان حلم هند أن تصبح معلمة تربي النشء على السلوك القويم، وكان حلمي أن أصبح داعية لدين الحق، يصل صوتي إلى كل حدب وصوب.

ـ وأنتِ؟

ـ نفسي أبقى…..

ـ نفسي أبقى…..

ـ ها؟

بعد أن تُطلّعي روحنا تفاجئينا، وأنت تميلين فوق الجسر يمينًا ويسارًا، بتلك الإجابة العجيبة التي تميتنا من الضحك:

ـ نفسي أبقى عروسة النيل.

إجابة متعجلة أسعفتك بها رؤيتك للماء يجري تحت الجسر أم كان إلهاما من المولى عز وجل؟

ـ ومين قالك يا اختي إن النيل ناقصه عرايس!!

تغضبين من سخريتنا قليلاً ثم تتحينين الفرصة لمصالحتنا في اليوم التالي، لكن كله كوم وحكايتك مع أبلة رقية، مدرسة الثانوي، كوم:

ـ الجونلة دي لازم تطول شوية. حطي ف عينك حصوة ملح!

وفيما تلتف عيوننا حول ساقيك الممشوقتين تفاجئيننا بدوي حنجرتك المنفلت:

ـ الملح خلص من زمان. أعملك إيه؟

سعاد، التقية منذ طفولتها، عندما لاحظت نمو نهديها غطت جسدها كله بالعباءة الفضفاضة، وهند التي كان شعرها أجمل ما فيها غطته بخمار طويل، وأنا الغيورة على ديني راعيت أن أكون قدوة للأخريات فرفضت لبس البنطال والثياب القصيرة وحافظت على حجابي وهو لم يجب عليّ بعد، فيما أنتِ مستمتعة بهدهدة ذراعيكِ المكشوفتين :

ـ اللهم دمها نعمة واحفظها من الزوال.

..أتأمل ذراعيك المكتنزتين البديعتين ثم ألتفت مبتعدة بعينيّ عنهما وأستغفر الله عنكِ وعني.

وتحتملين، في ذلك اليوم، من عصا أبلة رقية عشر ضربات، خمس على كل كف، دون أن تنزل دمعة من عينك، ثم تلوميننا في المرواح لأننا لم نقف معكِ ضدها، هذا لأنكِ لن تلاحظي الغضب الذي منحته عبارتك المستخفة لعينيها، لم تلاحظي انتفاضة عضلات وجهها وكم التوتر الذي عانته بسببك، أنتِ، الشريك المخالف كما كان يحلو لها أن تصفك مفسرة سلوكك المدهش بالرغبة التافهة في لفت الأنظار ليس إلا.

حكاية العصيّ العشر كانت ستصبح الموضوع الأكثر ذيوعاً بالمدرسة لعدة أيام تالية لولا أن غطت عليها حكايتك الأخرى.. عندما ركلتِ شابًا، كان متزعمًا زميليه في معاكستنا في الطريق بسبب جونلتك القصيرة، ركلته ركلة أسفل بطنه جعلته يتلوى ويصرخ متألماً فيضطر زميليه لنقله للمستشفى ويغدو حديث البلدة كلها هو توبة الشبان عن معاكسة البنات بفضل البنت ذات الساقين الطويلتين وتربحين هذه المرة أيضاً، بفضل رب العباد الذي ينقذك كل مرة وبدلاً من أن تدركي خطورة بدعك ومغامراتك تسخرين من نصائحنا عن أمان البنت بالالتزام واجتناب الشبهات، وتتمادين في خرقك لكل مألوف فيزداد ترجيحي بصحة تصور أبلة رقية عن ولعك بلفت الأنظار الذي تؤكدينه بردك المستهتر عندما نحذرك من عاقبة سفورك وتبرجك:

ـ اللي يبان مني.. زكاة عني

عبارة لو قالتها غيرك لاستحقت في نظري القتل، غير أن الجيرة وصداقة الأهل وزمالة الفصل، وربما أسباباً أخرى، تجعلني أتمتم بالاستغفار لي ولكِ.

لكن الذنب هو ذنب الأبلة “شادية” موجهة الفنون التي حضرت معنا حفل المدرسة الثانوية..

أعددت نفسي لتلاوة آيات من الذكر الحكيم كافتتاحية للحفل، كما جمعت سعاد بعض الحكم والمواعظ ونبذة عن الإسعافات الأولية وتطوعت هند بعمل السندوتشات والكيك والشاي

ـ وأنتِ؟

ـ مش عاملة حاجة

ثم تفاجئينا قبل نهاية الحفل، عندما أخذ الولد تامر، أخو زميلتنا هالة، يعزف على الأوكورديون، تفاجئينا بتلك الخطوات البهلوانية التي سايرت إيقاع الأوكورديون بشكل أثار بهجة أبلة شادية فقفزت نحوك مصفقة ومهللة، وراحت تلوم مديرة المدرسة:

ـ معقول تهملوا المواهب الأصيلة دي!؟

ينشال أبوكِ وينهبد : فرقة فنون شعبية؟ عايزة تبقي رقاصة يا بنت الحاج علي؟

تلوي سعاد شفتيها بأسى: يخلق من ضهر العالم فاسد !

تقفين على أطراف أصابعك وتدورين بطول الصالة وعرضها، تحسبين والدتك الطيبة ستقتنع بموهبتك المزعومة وتدعم موقفك أمام أبيك الحاج علي:

ـ موهبة إيه! وزفت إيه! عايزة تفضحينا في البلد؟

ترقيكِ والدتك وتدور تبخر البيت من الفجر حتى الضحى كى يبتعد عنه الشيطان الرجيم؟

أتذكر عبارة أبلة رقية، فأهمس لأبيك ألا يضخم الأمر كي لا تتشبثي به أكثر، باعتبارك الشريك المخالف، لكن أباك يعود ويلومنا مؤكدا أن موقفه غير الحاسم زادك ولعاً وتمسكاً بمبتغاكِ اللعين.

لم يهدأ للحاج علي بال حتى ذهب بنفسه إلى المدرسة ووبخ المديرة على الفكرة المبتدعة كما سمعنا أنه ذهب في ذلك حد تهديدها بتحرير محضر شرطة ضدها إذا لم تسحب اسمك من فرقة الفنون.

أما أنتِ فقد رفضتِ نصحنا وسخرتِ من تحذيراتنا:

ـ عايزة تعرضي جسمك للناس؟

ـ البنات بفرق الفنون والرقص عمرهم ما يوردوا على جنة

تصيحين بغيظ:

ـ إيش عرفك؟ خطفتِ رجلك لغاية هناك وشفتي مين في الجنة؟ ومين في النار؟

نستغفر الله عنك ونتضرع له أن يغفر لكِ وأن يهديكي سواء السبيل.

لا أعرف كيف سارت الأمور بينك وبين الحاج علي، غير أن إذعانك للأمر الواقع كان جلياً في انكسارك واقتصارك عنا. نصلي وندعو لكِ بالهداية والغفران.

ـ خليكم في حالكم أحسن

كل ما قلتيه وما فعلتيه لم ينجح في جعلنا نتخلى عنكِ، ولم يزعزع إصرارنا على هدايتك قط.

احنا الأربعة….. أجمل أربعة

غير أنني كنت، وليغفر المولى لي ولكِ، راغبة في قتلك عندما وشت بك خادمة سعاد..

ما الذي في الولد تامر، الذي يلبس قمصانا مزركشة ولا يبين بصوته هيبة الرجال، ما الذي فيه أو في غيره، يغريكِ بارتكاب المعاصي!؟

ـ كنا بنتمشى ونتكلم عادي

ـ عادي!!! استغفري الله.

خِفنا عليكِ، على رأس الحاج علي الذي تُصرين على وضعه في الطين بدمٍ بارد، فاشتعلت عزائمنا على هدايتك… مهما كلفنا الأمر.

التقيناكِ قرب رأس الجسر….

كلمة من سعاد وصيحة من هند وتحذير مني، وأنت تتلقين سياطنا بوجه متجهم وتكتمين الكلمات داخلك، فقط، حسب ما تذكرت فيما بعد، كنتِ تسعين لانهاء الكلام بأسرع ما يمكن…

ـ غريق.. غريق

تلطم هند وجهها:

ـ احنا السبب. قسونا عليها

فضلنا نلومها ونؤنبها….

تبكي سعاد وهي تهدئها:

ـ قدّر الله وما شاء فعل.

في البداية تضرعت إلى الله ألا يعتبر فعلتكِ انتحاراً “من الكبائر” لأنها تعبر عن ندمك، والندم أول طريق التوبة كما يؤكد أنك لم تكوني في وعيك عندما قذفت بنفسك في النهر، ثم ظهر شاهد عيان… يروي أن سقوطك بالنهر لم يكن متعمداً بل حدث نتيجة ترنح وعدم اتزان، كما اعترف عم بسطاويسي مساعد الصيدلاني بأنه أعطاكِ مسكنا قوياً للآلام بسبب إصابة في ركبتك خفتِ أن تمنعك من حضور أول بروفات الفرقة الفنية ـ بكل إصرارٍ على استمراء المعصية ويا للعجب ـ في الصباح التالي، مؤكداً أنه أوصاكِ بسرعة العودة للبيت. لكننا التقيناكِ، واستوقفناكِ، حتى سرى بجسمك، فيما يبدو، فعل المخدر، فهويتِ، وأنتِ عند منتصف الجسر.

وسواء اخترتِ هذا المصير أم هو الذي اختاركِ فلن يمكنني إنكار أن شيئاً، لا أدري تحديداً ما هو، قد تغير بعد هذه الليلة…

المقاعد التي نجلس عليها منذ سنوات طويلة ناءت بحمولتها المرهقة، والمرايا صارت تخفي عنا لمعتها كأنها سئمت شحوبنا وتهفو لنضارة ملامح جديدة، ومن سيمتد بها العمر منا ستشهد ازدياد ثقل وجودها في أعين أبنائها. أنتِ وحدكِ ستبقين جميلة ومحبوبة إلى الأبد.

سعاد لم يؤهلها مجموعها بالثانوية لدخول كلية الطب، وهند صارت معلمة أبعد ما تكون عن تلك التي تمنت أن تكونها، وأنا لم أصبح داعية ولا أي شيء آخر، هذا أمر المولى عز وجل وله في ذلك حكم.

الجسر الذي هويتِ من فوقه أطلقوا عليه اسم: جسر الشهيدة ! والمزارعون الذين لاحظوا سخاء النهر بعد أن ابتلعك يقرأون لك الفاتحة في الذهاب والرواح ويطلقون عليكِ: عروس النيل.. تماماً كما تمنيتِ، أنت وحدك التي حققتِ كل ما حلمتي به !!

ألست أنتِ التي تقمصتِ يدي الآن وجعلتِني أوقع “توقعين” لابنتي الصغيرة على استمارة الالتحاق بفرقة الفنون بالمدرسة، رغم معارضة أبيها، و.. معارضتي… أيتها الماكرة.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *