*هيثم حسين
يختار الروائي التونسي نبيل قديش فترة أواخر الثمانينيات من القرن العشرين لتكون مرتكزا زمنيا لأحداث روايته “شارلي” التي تدور في الريف التونسي، حيث كانت محاولات نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لطي الصفحة الأخيرة من حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، وتشديد قبضته الأمنية على البلد وإبقاء الناس رازحين تحت أعباء الفقر والتجهيل.
يبقي قديش بطل روايته صالح شارلي الملاكم القديم الشهير مثالا للتونسي المخضرم الذي شهد حقبتي الاستعمار الفرنسي وحكم بورقيبة، ليدخل زمن بن علي بظلاله الثقيلة التي بدأ يفرضها على واقع البلاد والناس فيها.
يلتقي بضابط مركز الحرس الوطني الذي يتعامل بفوقية ويستغل سلطته أسوأ استغلال لتبدأ مشاكله التي تكون نسخة عن مشاكل أبناء بلده مع نظام الانقلاب الذي يبدأ بعسكرة البلاد وكم الأفواه وفرض هيبته على الناس.
واقع مشوه
يستهل قديش -الذي فازت روايته الأولى “زهرة عباد الشمس” بجائزة الكومار الذهبي في تونس 2015- عمله الجديد بمشهد أطفال صغار يتلصصون على حمام نساء، وهو يبرز بذلك كيف تكون طفولتهم معرضة للتلوث بفعل واقع الحال وكأنه إنذار بإفساد جيل المستقبل عن دراية تارة وعن جهل وإهمال تارة أخرى.
يتجدد صراع شارلي مع السلطة، مما يوقعه في خصومات متعاقبة ومشاكل مع الضابط الذي يكيد له ويسعى للإيقاع به وعزله عن محيطه الاجتماعي الغارق بالفقر والجهل والشعوذة والأوهام، تراه يقابل بالصد والرفض من قبل أولئك الذين يعتبرونه قادما من عالم غريب عنهم، مما يبقيه نزيل غربة متعاظمة في وجدانه.
الضابط الذي يسيء لشارلي يكون ضحية واقع مشوه بدوره، يتربى لقيطا، يعاني التحرش والوحشة والأسى، وحين يكبر يحاول تصدير مآسيه وتشوهاته إلى محيطه، يكون نتاج خطايا غيره وتكون له خطاياه الكثيرة.
تنفك الحبكة وتنجلي خيوط الغرابة حين تقصد عجوز غريبة البلدة تبحث عن ابنها الذي ألقت به حين ولادته، وكان يحمل وشما على جسده يمكن أن تتعرف من خلاله إليه، وما تلك العجوز إلا عشيقة شارلي القديمة التي تخلى عنها وتركها وهي حامل، ويكون الضابط فرعون ابنا غير شرعي لشارلي، كما يكون ابنا غير شرعي لسلطة الانقلاب غير الشرعية نفسها.
ينسج قديش حكايات كثيرة وفق صيغة الحبكة المتناثرة، بحيث يجعل المكان بذاته بطلا روائيا، وتراه أكثر قربا من عالم القصص القصيرة التي تتعاقب لتؤثث فضاء الرواية بعوالمها التي تدور في دوائر جغرافية وزمانية مشتركة.
أسباب الهشاشة
في تصريح خاص للجزيرة نت يذكر الروائي نبيل قديش أنه أنهى روايته بعد ست سنوات من المخاض وآلام الولادة، يصفها بأنها كانت مستعصية جدا وقد أرهقته أيما إرهاق حتى أنه كاد يتخلى عنها في منتصف الطريق، وفور الانتهاء منها انتابه شعور بعدم الرضا عنها فأعاد كتابتها بطريقة مختلفة ثلاث مرات متتالية لتصير إلى ما صارت عليه في شكلها النهائي المنشور.
يشير إلى أنه كانت هناك قرابة وطيدة بينه وبين شخصيات روايته ومناخاتها باعتباره أصيل جغرافيا الرواية ومعاصرا لتلك الحقبة التي وقعت فيها جل الأحداث، لذلك كان بحاجة إلى الابتعاد والجنوح إلى الحياد أثناء كتابتها لدرجة أنه استغنى عن شخصية مهمة من شخصياتها كانت تشبه شخصية الكاتب إلى حد كبير، وذلك حتى لا يسقط في شبهة السيرة الذاتية.
ويؤكد أنه كان يرغب في تصوير كل ذلك العالم من فوق من دون السقوط بمستنقعه، كما ينوه بأن الرواية اختارت إعادة إنتاج منظومة الحكم التونسية الهشة ضمن نطاق البلدة الصغيرة النائية لكي تسائل أسباب تلك الهشاشة، وتعميم المسؤولية والإدانة بغية البحث عن سبل لتدارك تلك الأزمات المستفحلة المتتالية.
يقول قديش إنه لا يخفي سرا حين يقول إنه فوجئ بذلك الكم الهائل من السواد حين قرأ الرواية كقارئ عادي، ويؤكد أنه لم يكن يريد لها تلك القتامة، وذلك الكم الهائل من الظلم والكبت والرذيلة والألم والوجع والذل.
ويعترف بأن الرواية خاتلته ومضت إلى قدرها، حتى لحظات الابتسامة فيها كانت تحركها كوميديا سوداء وذلك بشهادة القراء الذين أسروا له أن الرواية حركت فيهم مشاعر هجينة، حتى أن بعضهم لم يمسك نفسه عن البكاء في لحظات طافرة.
يؤكد قديش أن الهدف الأساسي من خلال كتابة عمله كان تحريك الآسن والراكد، وتعرية ورقة التوت عن فترة قبيحة من التاريخ الجمعي للتونسيين.
_____
المصدر : الجزيرة.نت