المفارقات الرمزية في دلالة الصورة السينمائية


معتز بن حميد*


خاص ( ثقافات )
يظل أولئك الذين يرغبون في زحزحة وصاية الفكرة على الصورة السينمائية – كونها المحرك الأساس للقالب الفيلمي – مشدودين بانحياز إلى اللغة السمعية على حساب اللغة البصرية؛ يظل أولئك ضحايا الجهل بمسألة تكوين المعنى الرمزي والخلط بين أنماطه الثلاثة: (الرمز التشكيلي، الرمز الدرامي، والرمز الأيديولوجي). تماما كما علل مارسيل مارتن عدم معرفتهم هذه بقوله: “الواقع أن عددا من الأفلام النادرة حقاً، تُظهر قالباً عجيباً للقيّم، وجهلا بجوهر السينما”.
السينما التي قدّر لأجزائها الفلمية بعدما يسجلها المصور أن تكون ظلالا ونماذجا من الضوء دائمة التغيير لا يمكن الإمساك بها عندما يتم إسقاطها على الشاشات؛ هي ليست تلك الخيالات العابرة؛ هي تعابير إنسانية متناغمة لا تترجمها الكلمات بقدر ما يُبسّط محتواها التركيب والتوتر الرمزيين لها. واستخدام الرمز للسينما أساسا يقوم على اللجوء إلى صورة قادرة على الإيحاء للمتفرج لتسع الإدراك البسيط للمضمون الظاهر والمقدم له.

يقول ريجيس دوبري عن التواتر الرمزي للصورة: “إننا نتكلم في عالم ونبصر في عالم آخر. فالصورة رمزية غير أنها لا تملك الخصائص الدلالية للغة؛ إنها طفولة العلامة. ولا يخفى أن هذه الأصالة تمنحها قدرة على الإيصال لا مثيل لها. فالصورة ذات فضل لأنها أداة ربط”. 
ولأهمية الصورة برمزيتها فلا أعتقد أن عرض ذاك التواتر المرمي إليه بشكل مباشر سيكون له ميزة لمساعدة المتفرج، بيد أن ترتيبها وتشفيرها بشكل غير معقد سيعطي الفيلم أهمية توازي أهمية الصورة بتاريخها ومنشأها وفلسفتها المعقدة. وسنعرض بعضا من الأمثلة المأخوذة من أفلام ذات قيمة فنية عالية تفسر وصفي لدلالة الصورة خلال السينما، فهي – الصورة – لن تكون مجرد شكل جمالي بعيد عن الرمز في كامل تفاصيلها…
نماذج لعبقرية مفارقات ترمز
لها الصور السينمائية:
1. عندما ننظر إلى البداية العبقرية للصورة المشهدية في السينما خلال فيلم (لوسي lucy). كأنموذج، سنلاحظ أن المخرج الفرنسي “لوك بيسون” قدم لنا مفارقة جميلة ساحرة، قد لا ينتبه إليها إلا المتفرج الناقد. لقد بدأ لوك الفيلم بمشاهد تورط “سكارليت جوهانسون” لوسي في عملية توصيل المادة المخدرة مع عصابة شرسة، وأدخل مقاطع سريعة خارجية لنمر وهو يفترس غزالا، أثناء عملية الإمساك بلوسي لتعكس لنا اللقطات المتداخلة والسريعة أن لوسي هي الفريسة الضعيفة التي تمثل الغزال، بينما يكون زعيم العصابة الذي أمسك بها هو النمر الشرس..( هذا ما سيفكر فيه المشاهد العادي) لكننا لو تأملنا قليلا من أول اللقطة سنرى أن لوسي ترتدي رداء برسم جلد “نمر”.. وهذه المفارقة التي تكون إسقاطا للمرأة القوية التي ستتحول إليها فيما بعد لوسي الضعيفة (بعد انتشار المادة الكيميائية في جسمها وتنشيط دماغها بالكامل)، وتمثل هي النمر الشرس.

2. في فيلم (عيون كبيرة big eyes) الذي يتناول سيرة الرسامة مارجريت كين “إيمي آدامز” ويحكي قصة نجاحها المذهل في فترة الخمسينيات، حيث كانت مارجريت تعيش حياة سعيدة بصحبة زوجها الفنان والتر كين “كريستوف فالتز” ثم تتعقد الأمور فيما بعد ويفترق الزوجان لأن الأخير رغب في سلب فنها؛ في هذا الفيلم يؤثث مخرج العمل “تيم برتون” كوادر لقطات عديدة فيه بشكل احترافي، ويضع المتفرج في تساؤلات بطريقته هذه، ويزيّن صوره ببراعة فائقة. على سبيل الذكر فقط، نضع مثال  لصورة مشهدية في الفيلم: 
في المشهد الذي تكتشف مارجريت بالمصادفة، عندما تزور البار الذي تعرض فيه لوحاتها لتزويد زوجها بلوحة أخرى أنتهت من رسمها؛ تكتشف أنه في المدة السابقة يختلق الكذب ويخبر الناس والصحافة بأنه هو من رسم اللوحات. في هذه اللقطة – لحظة سماعها كذباته – يكون وقوفها خلف جزء من معرضها وفي عمق الكادر لوحتان كل منهما تحتوي على صورة لفتاة تختبئ خلف جدار كأنها تتجس على شيء ما!.. وللتمعن بدقة سنلاحظ أن مضمون اللوحة هنا نقيض تماما للموقف.. وهذه مفارقة يختلقها المخرج دلالة على ما سنكشفه لاحقا؛ لأن مارجريت سوف تخضع لمؤامرة زوجها وتقتنع بطريقته فترة طويلة من أجل بيع اللوحات بمبالغ باهظة، فيصيبها إحباط في آخر المطاف لأنها تخلت عن اسمها في لحظة اكتشافها لأجل المال، لهذا السبب وضع تيم اللوحتين اللتين تعكسان هذا الانكسار. 
3. لنتأمل الصورة المتحركة التي أبتدعها المخرج (ألفونسو كوارون) في فيلمه “gravity” “الجاذبية” الحائز على 7 جوائز أوسكار عام 2014. 
حيث تظهر في الصورة بطلة الفيلم (د. رايان) “ساندرا بولك” كأنها جنين داخل رحم أمه، وهذا الجنين ينعم براحة لا مثيل لها وهو ينتظر الخروج لحياته الجديدة، بحيث تكون المركبة الفضائية هي بمثابة أم تحوي جنينا يشع بالحياة ويستعد للخروج، وتجسد خيوط الضغط والأكسجين للمركبة الحبل السري الذي يصل الجنين بأمه، كل هذا يظهر وهي تسبح وسط انعدام الجاذبية في الداخل، وقد جعل ألفونسو بحرفيه واضحة (على حد فهمي للقطة) هذا المشهد إسقاط لـ “الفرصة الحياة الجديدة ومواجهة الخطر بعده” التي تحصلت عليها د.رايان عندما دخلت مركبة المحطة الفضائية الدولية، بعد مصارعة طويلة مع أهوال الفضاء وشظايا الأقمار الاصطناعية المتحطمة وانقطاع الأكسجين بالكامل، وما أن دخلت المركبة حتى بدأت بانتزاع رداء الفضاء وأخذت تستنشق من الأكسجين الموجود بالمركبة بشغف الجنين الموجود برحم أمه؛ ثم تتعرض في دقائق بعدها لأخطار عظيمة أخرى. لكن في نهاية الفيلم نرى من اللقطة المذكورة سالفا واللقطة الثانية مفارقة تنفي المعنى المباشر، وذلك بإظهار صورة متحركة أخرى مشابهة للأولى بعيد عن مسار الفضاء الخارجي، وهذه المرة في أعماق البحر على كوكب الأرض حيث تكون الحياة الحقيقية. صورة مشهدية تمثل (د. رايان) وهي تنتزع نفس رداء الفضاء لكن تحت الماء وهي تسبح بحركة شبيهة للسابقة، لكنها ستحرم من الأوكسجين خلاف المرة السابقة، وهنا ستُمنح الحياة بعدها بلحظات عندما تخرج لفسحة الأرض وتقاوم غرقها… ليكون الإسقاط هنا لــ “فرصة تحدي الموت والنجاة منه”. هنا عدم وجود الأوكجسين الذي منعها من الحياة لحظات؛ كان هو نفسه سبب في نجاتها لاحقا، كما يتضح لنا أن حصولها على الأوكسجين داخل المركبة – في الصورة الأولى – مجرد وهم ستتعرض بعده بلحظات لأوهوال كادت أن تودي بحياتها بعد خروجها لفسحة المحطة. في الصورتين أراد ألفونسو أن يعطي معنى لفرصتي التعرض للولادة والموت في مفارقة رائعة.
في استعراضي لبعض الأمثلة السابقة وما لها من نقاط مختلفة حول تأثيث الكادر بكل الأشياء الموجودة داخله، من ملابس ومكونات جامدة ومتحركة وأكسسوارات وألوان وغيرها؛ في استعراضي غرض مفاده أن كل شيء يضفي أهمية في تكوين المادة الفلمية النهائية التي نراها في شكل لقطات لصور متحركة.. فبالرغم من أن القوانين لتكوين الصورة بشكل عام تظل من ناحية علمية قريبة جدا من تلك الموضوعة للوحة الفنية، لكننا هنا – في السينما – نحترس من الجمود، وأهم وسائل كسر هذا الجمود باستثناء الحركة هو استخدام العمق، بالإضافة إلى الاهتمام بالتواتر الرمزي وإبراز دلالات غير مباشرة تحوّل الصورة من شيء مرئي جامد – دون النظر إلى الحركة الطبيعية – إلى شيء محسوس مختلف. وهذا ما يميز الصورة في علاقتها بالكلمة؛ فالكلمة بمفهومها المعروف هي فكرة عامة ونوعية، بينما الصورة لها دلالات دقيقة ومحددة، ففي السينما لا نعرض مطلقا (حديقة) أو (منزل)؛ بل نعرض (تلك الحديقة) و(ذلك المنزل) المحددان تماما.

ويكفيني أن أردد ختاما قول أبشتين: “لما كانت الصورة تظل دائما ملموسة على نحو دقيق وغني، فإنها رديئة الطواعية للتخطيط الذي يسمح بالقيام بتصفيف دقيق ولازم لإقامة بناء منطقي قليل التعقيد”.
المصادر والمراجع:
– كتاب اللغة السينمائية والكتابة بالصورة.. تأليف: “مارسيل مارتان” ترجمة: فريد المزاوي.
– كتاب حياة الصورة وموتها.. تأليف: “ريجيس دوبري” ترجمة: فريد الزاهي.
– كتاب قواعد اللغة السينمائية.. تأليف: “دانييل أريجون” ترجمة: أحمد الحضري.
____
* كاتب وناقد من ليبيا/ عن مجلة الفجيرة الثقافية. 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *