بليك موريسون / ترجمة: موفق ملكاوي*
تحطم الزواج، إدمان الابن للمخدرات والانتهاك الجنسي.. ما الذي يجعل بعض الكتّاب يعترفون بأكثر أسرارهم إيلاما؟ هل هي مجرد نرجسية، أم هو سعي نبيل نحو الحقيقة؟ المذكرات الاعترافية مزرية. النقاد يميلون إلى معادلتها بصورة السيلفي “الذاتية”، والنظرة من قرب على النفس في «سناب شات»، أو رحلة في «الأنا».
النرجسية، كما يقولون، منقوشة في كلمة «مذكرات» ذاتها: memoirs وme-moi. ولكن هذا النوع الأدبي يمتلك تاريخا طويلا: في «أموريس» لـ«أوفيد»، القديس أوغسطين، روسو ودي كوينسي؛ والشعراء الأميركيون: روبرت لويل، سيلفيا بلاث، آن سيكستون، دبليو دي سنودجراس، جون بيريمان الذين برزوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما أن الظاهرة لم تتوقف خلال العقدين الأخيرين.
الرفوف فوق مكتبي تقدم العينة العشوائية التالية: «القبلة» للكاتبة كاثرين هاريسون، تروي فيه علاقة شاذة، و«أعقاب» لراشيل كوزك، تستدعي فيه ذكريات تفكك الزواج. و«الطفل الضائع» لجولي ميرسون، حول مشاكل ابنها مع المخدرات ورفقاء السوء. «اعطني كل ما تملك» لجيمس لازدون، الذي يوثق فيه محنته مع طالب سابق مختل عقليا كان يتربص به. «الغريب القريب» لماري لودون، الذي تجمع فيه مقاطع من حياة اختها المقصاة عن العائلة، والتي عاشت بهوية جديدة كرجل. «نحن الثلاثة» لجوليا بلاكبيرن، ويروي كيف أنها أصبحت، عندما كانت مراهقة، صديقة لصديق والدتها الذي كان مستأجرا لديهم. ناهيك عن العناوين التي أخرجها كل من جانيت وينترسون، ديف إيغرز، لورنا سيج، أي إم هومز، جاكي كاي، توبياس وولف، والعميد الحالي لكتابة الحياة كارل أوفه نازغارد، وجميعهم ساهموا بشكل كبير في هذا النوع الأدب.
هذه الكتب تفعل أكثر من الكشف. ومع ذلك، فكما أنه يمكن إلصاق العديد من الاستعارات التحقيرية بها، إلا أنها في الغالب تعني، كشفا متوقعا من نوع ما، ربما نوع من الفوضى أو حتى الرداءة – مثل «خيمة» لتريسي إمن (مع لائحة بجميع أسماء عشاقها) أو «سرير» (مع الحطام من حياتها الخاصة الذي تفشيه عبرها).
ما يميز المذكرات الاعترافية هو حميميتها غير المتوقعة- يتم إعطاء القارئ امتياز الوصول إلى الحقائق التي يشعر المؤلف أنه يندفع لكشفها، رغم إمكانية كونه محرجا أو متألما حين يكتبها. الوفيات غالبا ما تكون في قلب ذلك: كتابة الحياة تنتهي إلى أن تصبح كتابة الموت. ولكن الانتهاك الجنسي والجنون والخداع والجريمة والإدمان وجميع أنواع الخطايا المميتة يتم تضمينها هي الأخرى.
لماذا الاندفاع إلى الكشف والاعتراف؟
في مقالته «لماذا أكتب» (1946)، قدم جورج أورويل أربعة أسباب للكتابة: الحماسة الجمالية، والدافع التاريخي، والغرض السياسي، فيما «الأنانية المطلقة» تتصدر القائمة، والتي يعرفها بأنها «الرغبة في أن تبدو ذكيا، من أجل أن يتم الحديث عنك، وأن تكون مذكورا بعد الموت، وللحصول على خلفيتك الخاصة في وجه الكبار الذين تجاهلوك في مرحلة الطفولة، وغيرها من الأسباب المشابهة».
مع المذكرات الاعترافية، يمكنك القول إن هناك سبعة دوافع محتملة. لنبدأ بالأقل إقناعا.
تجاوز تلقائي لمشاعر قوية «وردزورث» أو مساعدة مجانية «فرويد»
«لم يكن بإمكاني التوقف. خرج الأمر مني ببساطة ومن دون تنقيح، لأن التجارب التي مرت بي كانت هائلة، بحيث لم يكن هناك أي خيار آخر».
للأسف، هذه النظرية لا تتماشى مع عملية الكتابة. الانفعال على الورق هو تلفيق دائما: بأثر رجعي، اصطناعي، إعلان من قلب المؤلف ولكن مع تصاميم محسوبة على قلب القارئ. في المحادثة أو في عروض الدردشة، يخرج الناس بتصريحات مرتجلة. ولكن كل شيء نكتبه تتم فلترته، حتى إدخالات مفكراتنا اليومية، كما تتم فلترة الكلمات المعدة للنشر عدة مرات. نشر الاعترافات لا يمكن أن يكون لا إراديا.
عكس ذلك، هناك نظرية أكثر منطقية ولكنها مفرطة في السخرية، وهي:
اعتراف بمثابة اعتذار أو تبرير للذات، ودعوة استراتيجية للتعاطف والإعجاب
الاعتراف بالمشاكل والعيوب والآثام باعتبارها وسيلة لكسب الأصدقاء. إظهارك كعب أخيل الخاص بك، وبدلا من إطلاق القارئ السهم المسموم عليه، سوف يشعر بأنه محمي معك، وأنه إلى جانبك.
الأدب الاعترافي ينطوي دائما على استراتيجية – الحكم حول مدى الأثر على القارئ، حتى لو كان ذلك الحكم، في بعض الأحيان، يثبت أنه سوء تقدير.
عندما كتبت ميرسون مذكراتها عن ابنها، قالت إنها تأمل في أن يفهم الناس أنها محاولة لجعل مخاطر إدمان الحشيش في سن المراهقة أكثر وضوحا. لم تكن مذمومة لتأليفها هذا الكتاب. إنها دائما مسألة حسابية. الضعيف، الازدرائي أو الاستنكاري، هو، أحيانا، جزء من هذه الحسابات. الرواة الجيدون نادرا ما يفوزون بتعاطفنا: إنهم أكثر مثالية من أن يكونوا حقيقيين، أكثر كمالا ليكونوا محبوبين. الرواة الفارغون ليسوا محبوبين أيضا. الأفضل أن نقول «أنا سيئ»، ونأمل في أن يرد القارئ «لا، لست سيئا، أنت مجرد إنسان».
اعتراف كرغبة في الصدمة: مذكرات كصراخ في عناوين صحيفة فضائحية.
عندما كتب جيمس فري «مليون قطعة صغيرة»، ظن أن من شأنه أن يجعل منها قصة أكثر إثارة بالقول إنه أمضى 87 يوما في زنزانة السجن لتسببه في مشاجرة عنيفة خلال انتشائه من «الكراك»، والحقيقة أنه تم احتجازه في مركز للشرطة لبضع ساعات بسبب بعض الجنح الصغيرة. كما يظهر في قضيته، فإن الحقائق المروعة من الأفضل أن لا تكون قصصا مروعة، أو أنك تخاطر بالثرثرة.
أحيانا تكون الحقائق صادمة، من دون أي تطريز. مذكرات توماس بلاكبيرن «مقطع من الصلب»، تأخذ عنوانها من جهاز ميكانيكي حصل عليه أثناء دراسته في مدرسة داخلية هدية من أبيه، للحد من ممارساته السيئة. ويمضي بلاكبيرن بالكتابة عن أدق التفاصيل للجهاز، وطريقة عمله.
قيل، أحيانا، إن مذكرات اليوم تحافظ على تصعيد الموقف السابق ببؤس ينضاف إلى بؤس، ووضوح يصل إلى مستويات جديدة. لكن كتاب بلاكبيرن نشر منذ ما يقرب من النصف قرن، كما فعل جيه آر أكيرلي في كتابين من مذكراته «كلبي توليب» و«أبي وأنا»، وهي المذكرات التي لم تكن صريحة فحسب بالإعلان عن ميوله الجنسية، ولكن أيضا صريحة في وصف حبه للكلاب بتفاصيل حسية مثيرة للذهول.
اعتراف كرغبة في إعادة تعريف ما يصدم: تلميع النفاق وضحالة المجتمع المهذب
العديد من المذكرات يتم تأليفها من كتاب في جيل واحد ينطلقون لفضح الأكاذيب والأسرار للجيل السابق – عن عدم شرعيتها، مثلا، أو سقمها الفكري-، على أساس أن تلك الأكاذيب والأسرار لم تعد مصدرا للعار، بل «طبيعية»، ومقبولة، وتستحق الظهور بدلا من إخفائها بعيدا.
عندما أطلعت والدتي على مشروع مذكرات كنت قد كتبتها عن والدي، واحدة من الأشياء القليلة التي طلب مني إزالتها كانت إشارة إلى كونها كاثوليكية. فعلت كما طلبت مني، ولكنني قررت تأليف كتاب استكشف من خلاله عن خلفية طلبها ذلك. إخفاء كاثوليكيتها، التقليل من عدد أفراد أسرتها (كانت رقم 19 من 20 طفلا)، وإعطاء نفسها اسما جديدا وتأثير تخليها عن إيرلنديتها، كانت قرارات اتخذتها من أجل أن يتم استيعابها في المجتمع الإنجليزي. شعرتْ (أو أنهم جعلوها تشعر) بالحرج حول خلفيتها، في حين إنه بالنسبة لي لم يكن هناك أي ارتباط بالعار – بل على العكس تماما، في الواقع.
دراما الأنا: الاعتراف كأداء
منبري وحب للظهور
كاتب الاعترافات يطرح التحدي: «انظروا إلى ما فعلت، وما شعرت وفكرت، واحكموا علي إذا كنتم تجرؤون».
روسو يبدأ اعترافاته من خلال التأكيد على أمانته ونزاهته: نيته هي أن يرسم «صورة، بكل سبيل، للطبيعة الحقيقية»، صورة واحدة من شأنها أن «تعري روحي السرية». لكن الاستعارة تنقلنا سريعا من البورتريه الواقعي إلى المسرح: «اتركوا الحشد الذي لا يمكن عدّه لأتباعي ليتجمعوا حولي ويسمعوا اعترافاتي. دعوهم يتأوهون على انحرافاتي، ويستحوا على خطاياي. ولكن دعوا كل واحد منهم يكشف عن قلبه بصدق مماثل، وعندها هل من أحد يجرؤ على القول» كنت رجلا أفضل منه».
بإدراكه تماما لجمهوره، روسو عازم على تقديم عرض، بجميع ما يتطلبه العرض. يسرق، يروي أكاذيب، علاوة على ذكر انحرافاته والشاذية والسادية والمازوخية، وزيارة الأماكن المشبوهة، وكثير من الصور التي تعكس انحرافه. متع روسو تنفس عنه – وتتم مشاهدتها: «يجب أن تبقى باستمرار تحت بصر القارئ، لذلك فإنه قد يتبعني في كل تهور وإلى كل زاوية صغيرة من حياتي». إنها دراما ذاتية تتكامل مع هذا النوع الأدبي.
مذكرات اعترافية كجزء من قول الحقيقة: وضع الأمور في نصابها لحكم القارئ
قد تكون حقيقة الراوي غير موضوعية، ولكن القارئ يريد أن يرى أنه صادق، أو أنها صادقة. الصحافة الجيدة تفعل ذلك أيضا، تبث التقارير عن خط المواجهة أو تنقل مباشرة عن تجربة شخصية، لتبدو كما لو أنها تنقل من قلب الحدث؛ كنقلها عن مشاركين في الحرب، مثلا، أو سجناء، أو حين نقلت عن ناجين من المحرقة في معسكرات الاعتقال.
نحن لا نميل إلى إرفاق كلمة «اعترافات» بهذا النوع من المذكرات عندما يكون الموضوع هو تاريخ العالم، بدلا من التاريخ العائلي. ولكن العلاقة الحميمة في الشهادة، في كثير من الأحيان، هي اعترافات، وهذا ما يميزها.
هناك مثال رائع «معلَّق» على اتجاه الشهادة في مقالة أورويل، عن اختباره الشخصي لرؤية إعدام رجل في بورما. هناك تفاصيل قانونية عديدة فيها، يبدو كما لو أنها للتأكيد على صحتها: ولكن كلبا تقافز في الجوار وبال، ليدمّر هيبة المناسبة؛ الرجل المدان، وبحذر، قفز من فوق بول الكلب لتجنب القذارة رغم أنه يعلم أنه على وشك الموت. الارتياح لعدم تلوثه، والنكتة وحبل المشنقة، جميعها انتشرت بين جماعة الحرس المحيطين بالمشهد.
قليل منا شهد مثل تلك الأحداث المأساوية. ولكن حتى مع تجاربنا الأقل شأنا، فإن قول الحقيقة هو جزء من الاتفاق – في الواقع هو شرط رئيسي – ومحنة لأولئك (مثل فراي أو بنيامين ويلكوميرسكي في كتابه «ذكريات الطفولة زمن الحرب» التي خان فيها تلك الثقة.
وأخيرا، فإن المبدأ ما يزال الدافع الأكثر إثارة للجدل:
اعتراف كتنفيس وتنظيف وتطهير
حدوث أمر سيء وكتابته أو إخراجه إلى العلن، هو وسيلة للشعور بشكل أفضل حيال ذلك. قال شكسبير«امنح الحزن كلمات. الأسى الذي لا يتكلم / أو يفرغ الآه من القلب المشحون.. يتحطم». اجعله على الورق. ضعه في كلمات. الكتابة علاج.
آه، العلاج؛ إنها كلمة تظهر مشبوهة، عموماً، إذا ارتبطت بالأدب. قال الروائي روبنز «يجب عليك دائما أن تكتب بحياة الأمس»، ما يعزز أن ما هو علاجي لا يمكن أن يكون أدبا وإبداعا دائما، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار؛ فالدافع العلاجي لا يلزم أن يكون مدمرا وضارا دائما.
قال روسو إنه كتب لإراحة ضميره، ووصفت فرجينيا وولف كيف أن الكتابة يمكن أن «تقلل من قوة ضرب مطرقة ثقيلة» لصدمات الطفولة: «فقط من خلال كتابتها، وهو ما فعلته أنا. هذا كله يعني أنها فقدت قوتها التي تؤذيني».
يمكنك الكتابة لتطهير الجراح من أجل أن تتحرر. أكيرلي تحدث عن محاولة النظر إلى حياته كما لو أنها حياة شخص آخر «يطوف حولها». وهناك سطر في الصفحة الأولى من رواية «أمتعة الموت» لسوزان سونتاج، تعرب فيها عن شعور مماثل، تقول: «بعض الناس هم حياتهم، وبعضهم الآخر بالكاد تشبههم حياتهم». درجة اليقظة ضرورية: القدرة على الوقوف خارج الذات، أو الطفو فوقها.
الناس يقولون: «هذه معلومات كثيرة، ولا أريد معرفتها». وهذا صحيح، إن بعض الكشف يجعلنا نشعر بعدم الارتياح، كما لو أننا متلصصين أو متواطئين. الأدب الاعترافي يستند إلى فرضية الإقرار أو ما يعادلها، ولكن إذا لم يكن هناك شيء، إذا شعرنا بالقرف، والاستحالة، فقد فشلت المهمة. المؤلف يمد يده بالمصافحة، ولكن القارئ يرفضها.
عندما تتحول الأمور الخاصة إلى عامة، فسيكون هناك دائما احتجاجات. ولكن، أيضا سيكون هناك قراء يشعرون بالإقرار والعزاء، ويمتنّون للأشياء الخطرة التي تم تدوينها.
يمكن للشعر والسرد أن يحظيا بمزيد من الاحترام. ولكن إذا كان الأدب عدوا لحرية التصرف والارتجال، وكانت قيمته تكمن في كسر القواعد عن طريق قول الحقيقة، عندها تكون الاعترافات أصدق أنواع الأدب.
________
*شاعر وكاتب من الأردن
مجلة الفجيرة الثقافية / مترجم عن الغارديان.