*عبدالإله بلقزيز
تعرّف النهضويون والإصلاحيون العرب على الاستشراق في لحظة ازدهاره واندفاعته الكبرى، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتفاعلوا معه أشكالاً مختلفةً من التفاعل؛ وتأثروا به واستلهموا مناهجه وطرائقَه في الدرس، وأسئلته وإشكالياته؛ وناظروهُ، مدافعةً عن تراثهم انطلاقًا من مسلّماته، أو انتقدوه ووقفوا من كثيرٍ من أطروحاته موقف الاعتراض الصريح. وأيًّا تكون ظروفُ ذلك التفاعل، وكيفياتُه، ومستوياتُه العلمية، فإنّ الذي لا مِرْية فيه أن الاستشراق مثَّل، لهم، تحدّيًا فكريًا امتحن قدرةَ ثقافتهم على مجابهة أسئلته، بمثل ما كان الاستعمار، أو التهديدُ به، تحدِّيًا سياسيًا امتحن مجتمعاتهم وقدرتَها على ردّه.
كما أن الأفكار الحديثة، الوافدة من المدنية الأوروبية في ركاب الاحتلال الأجنبي، داهمتْ مجالهم الثقافي المغلَق على يقينياته التقليدية، وحرَّكت آسِنَ مياهه، وقذفت بمعارف جديدة في فضاءات التفكير والتأليف عندهم…، كذلك داهمهم الاستشراق، بما هو جزء من تلك المعرفة الحديثة، وأحدث الهزّةَ في عقولهم ونفوسهم، ونبَّههم لما كانوا عنه غافلين.
الفارقُ أن الأفكار الوافدة الحديثة أنتجت سؤال الحداثة والآخر في وعيهم، فيما أنتج الاستشراق سؤال الأنا والهوية؛ وهُمَا معًا (الأنا والآخر) وجهان لإشكاليةٍ واحدة أسستِ الوعي النهضوي، ورسمت له ميادين حركته واشتغاله طوال أجيال ستة من كُتّابه ومفكّريه.
ما الذي عناهُ الاستشراق بالنسبة إلى النهضويين؟
عَنَى، ابتداءً، ظاهرةً تَحْمل على المفاجأة. مَوْطنُ المفاجأة والاستغراب في أنّ الأوروبيين يعرفون عن ثقافة العرب والمسلمين، وعن حضارتهم وتاريخهم، ما لا يعرفه العرب والمسلمون أنفسُهم عن تلك الثقافة والحضارة والتاريخ! القرائن على ذلك، عند النهضويين، لا حصْر لها؛ حيازةُ الأوروبيين أولاً مخطوطات عربية من الأدب والفلسفة والعلوم العقلية والعلوم الشرعية، مما ليس في حوزة أبناء هذه الحضارة وأحفادها؛ امتلاكُهم لسان الضّاد وألسنة أخرى شرقية كُتبت بها علوم الإسلام ومعارفُه، كالفارسية والتركية مثلاً؛ ثم التأليف الغزير في أغراض كثيرة تتعلق بذينك التاريخ والثقافة.
وعَنَى، ثانيًا، الاقتدار الفائق في فحص النصوص، عن طريق التدقيق في نسبتها إلى مَن نُسِبت إليهم، أو إثبات نسبتها إلى مؤلفين أسقط النُّسَّاخُ أسماءهم من المخطوطات المنسوخة أو أحجم مؤلفوها عن ذكر أسمائهم؛ وإتقان تصحيح أخطائها اللغوية (الناجمة من سوء النَّسْخ وجَهْل الناسخ) لتحسين قراءتها وتيسيرها؛ وإضاءة مضمونها بمعلومات ضافية عن الأحداث التي يشير إليها، أو لا يشير، مؤلفوها، وعن الفترة التي كُتبت فيها، والغاية من تأليفها، فضلاً عن معلومات عن مؤلِّف النصّ، وعصره، ومذهبه، وتآليفه، واستخدام عشرات المصادر التاريخية قصد التدقيق في أيّ جزئيةٍ صغيرة (من قبيل حدثٍ عامٍ أو لفظة…)، ممّا تستقيم بها شروط قراءةٍ صحيحة وسلسة للنصّ المخطوط.
وعنى، ثالثًا، الدراسة الرصينة والمحيطة بجوانب متعدّدة من تراث الإسلام، والمناهج الحديثة، المستخدمة في تلك الدراسة، وطرائق التحليل والاستنتاج واستخدام مادة البحث، والتاريخ المقارِن للظاهرة المدروسة، ممّا بَدا كلُّه حديثًا غيرَ مألوف عندهم.
ولقد أقامت لهم دراساتُ المستشرقين دليلاً على امتلاك الآخرين أدواتٍ علميةً ناجعةً في البحث، من جهة، وعلى حسن إتقانهم استعمالَها، من جهة أخرى، من دون أن يكونوا موافقين، دائمًا، على أطروحاتهم أو على الاستنتاجات التي يبلُغونها في عملية البحث، ومن دون أن يأخذهم الانبهار بفتوحات المستشرقين العلمية.. وبالجملة، ألفى النهضويون أنفسهم أمام قطاعٍ حيّ من المعرفة الأوروبية انتزع اعترافهم أكثر من غيره؛ لسببٍ معلوم هو شدّة اتّصاله بتاريخهم، الماضي والحاضر، وثقافتهم.
وعَنى، رابعًا وأخيرًا، مبعث شعورٍ واعتزاز بالذات الحضارية والثقافية العربية؛ فها هُم الدارسون الغربيون لتراث الإسلام يُثبِتون، لمجرّد دراستهم تاريخ الإسلام وثقافته، أنّ التراث مازال حيًّا، بل أكثر من ذلك، يكشفون عن كنوز فيه لم يكن أكثرُها معلومًا لدى العرب والمسلمين؛ من نصوصٍ نفيسة، ونظرياتٍ في العلم والفلسفة، ما أدرك قيمتها الدارسون المسلمون قبلاً، بل وحتى من إفادات عن تراثٍ إسلامي مكتوب بلغاتِ أممٍ أخرى (مسلمة) وغيرٍ معروف لدى أهل العربية… إلخ.
وبقدر ما أشعرهم عملُ المستشرقين أولاء بتواضُع معارفهم لتراثهم كعرب ومسلمين أشعرهم بمقدارٍ من الزّهو كبير، ونمّى في نفوسهم الشعور بفكرة الاستمرارية التاريخية التي عليها أن تردم الفجوة بين الماضي المرجعي الذهبي لحضارتهم وحاضرهم المتهالك، من طريقِ ردم الفجوة مع المدنية الأوروبية؛ منظوراً إليها بوصفها وريثة مكتسبات الحضارة العربية الإسلامية.
هذه بعضٌ من المعاني التي عناها الاستشراق في الوعي النهضوي العربي، إنْ رُمْنا تلخيصَها نقول: إنها، جميعَها، قرينةٌ على التفوُّق المعرفي والعلمي الأوروبي، والتسليمِ النهضوي بذلك التفوّق: جملةً، أو بإطلاق، وتخصيصاً في ميدان دراسات الإسلام. ولقد كان للتسليم بذلك التفوّق، أو قُل الاعتراف الموضوعي به، أن أقنع النهضويين بوجودِ، ووجوبِ، الحاجة إلى الإفادة من العمل العلمي للمستشرقين، والنَّهل من مكتسباته. وكان أن أفصح تأثيرُ الاستشراق في النهضويين عن نفسه في صورتين متلازمتين: مباشِرة وغير مباشرة. لنبدأ بالثانية.
سجلنا في كتابنا نقد التراث، أن سؤال التراث، في الوعي العربي المعاصر، تولَّد من عوامل متعدّدة ذكرنا في جملتها التأثير الذي كان لدراسات المستشرقين في أوساط النهضويين، وخاصةً لمناهجهم في البحث والدراسة؛ تلك التي أغرت كثيرين بالاقتداء أو المضاهاة أو الإفادة من الخِبْرات. على أن ميلاد اهتمامٍ فكريّ عربي بالبحث في التراث، منذ نهايات القرن التاسع عشر، لا يجد أسبابه في مجرّد التأثُّر بمناهج المستشرقين وطرائقهم في قراءة النصوص وتحليلها، فحسب، وإنما يفسّرُه، أيضًا، أن الاستشراق وفَّر لجمهور الدارسين العرب، آنئذ، المادة التي يمكن أن يُشْتَغَل عليها؛ فلقد حقق المستشرقون ونشروا حتى ذلك الحين، نعني في نهاية القرن التاسع عشر، عشرات النصوص والمخطوطات القديمة، من أمهات المصادر: في التاريخ، والسيرة، والتفسير، وعلم الكلام، والفقه وأصول الفقه، والتصوّف، والفلسفة، والعلوم، واللغة والنحو، ناهيك بالأدب من شعرٍ ونثر فني.. والمحقَّق والمنشور من هذه النصوص كان مجهولاً أو في حكم المجهول، ومَن يعرفُ عنه من الكُتّاب النهضويين، يعرف عنه نُتَفًا، لا أكثر، مما يَرِد في بطون كتب تاريخ الفكر من معلومات عنه. هكذا وَجدتِ النخبةُ الثقافية النهضوية نفسَها أمام كمٍّ من المادة التاريخية والثقافية وفيرٍ، مُغْرٍ بالقراءة والدرس. وهذا هو المعنى المقصود بالقول إنَّ أثر الاستشراق في النهضويين أتى، في بعض وجوهه، في صورةٍ غير مباشرة، عن طريق توفيره خِدمةً علميةً لمن يبتغون البحث في تراثهم من النهضويين.
أما الأخيرون فما جحدوا سبْقَ المستشرقين، ولا أنكروا فضلهم في تعريفهم بتراثهم، فَعَلَ ذلك إصلاحيوهُم مثلما فعله ليبراليوهم بدرجات متفاوتة في الاعتراف.
أمّا التأثير المباشر للمستشرقين في النهضويين فتَحقَّق عن طريقين: عن طريق اطّلاع كثيرين منهم على بحوث المستشرقين في التراث العربي الإسلامي (رفاعة رافع الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، محمد رشيد رضا، من التيار الإصلاحي وأحمد فارس الشدياق، بطرس البستاني، سليم البستاني، فرح أنْطُون، جرجي زيدان، من التيار الليبرالي)، وما كان لذلك الاطّلاع من كبيرِ أثرٍ في النهضويين أولاء؛ ثم عن طريق التلمذة المباشرة للمستشرقين، خاصة بعد تأسيس الجامعة المصرية، والتحاق عدد هائل من الباحثين المستشرقين بها للتدريس فيها، (في أقسام التاريخ والفلسفة والأدب خاصة)، وتعرُّف الجِيلين النهضويين الخامس والسادس (طه حسين، أحمد أمين، مصطفى عبدالرازق، إبراهيم مذكور، عثمان أمين، توفيق الطويل، عبدالرحمن بدوي، عبدالهادي أبوريدة، زكي نجيب محمود، شوقي ضيف…) على أعمالهم العلمية. ولقد تعزّز تأثُّر هؤلاء بأولائك حين استفاد بعضٌ منهم في استكمال دراساته في بعْثات علمية إلى أوروبا (فرنسا وبريطانيا خاصة).
هكذا أصبح الاستشراق رافدًا من روافد فكرة النهضة في الوعي العربي، ومثالاً علميًا مرجعيًا في دراسات التراث عند النهضويين، حتى في الحالات التي لم يكن فيها الأخيرون يوافقون أساتذتهم المستشرقين في ما يذهبون إليه من استنتاجات وأحكام.
______
*الخليج الثقافي