مقاربة تذوقية بلاغية تاريخية لديوان «عبد الـله» للشاعر خالد الكركي


*لؤي أحمد


(عبد الله) ديوان القصيدة الواحدة: يعد ديوان «عبد الله» للشاعر الدكتور خالد الكركي، والصادر حديثا عن دار «أزمنة» ودار «الآن ناشرون وموزعون»، والذي رسم لوحاته وحروفياته الفنان التشكيلي د. جهاد العامري، معتمدا على النص مكتوباً بخط الشاعر نفسه، من المجموعات الشعرية العربية القليلة التي اقتصرت على قصيدة واحدة مطولة بين دفتيها، على الرغم من أن الآداب الغربية عرفت هذا النوع من المجموعات الشعرية مبكرا وعلى نحو غير يسير، فمن هذه المطولات قصيدة الشاعر الأمريكي وولت ويتمان (1819-1892) (أغنية نفسي) أو (قصيدة ذاتي) الصادرة عام 1855 كنص ذاتي بلا عنوان قبل أن يحككها ويتمان ويضمنها ديوانه (أوراق العشب) لتشغل نصف مساحة الديوان. ومن دواوين القصيدة الواحدة أيضا العملان الاستثنائيان للأديب والشاعر الفرنسي لويس أراغون (1897-1982): (مجنون إلزا) و(عينا الزا)، وكذلك ديوان الألفباء (1981) للشاعرة الدنماركية إنغار كريستنسن (1935-2009). عربياً، ظل الديوان الشعري العربي الحديث يضم في طياته قصائد تتنوع في موضوعاتها ومعانيها بين الغزل والمدح والفخر والهجاء والرثاء والمناسباتية وباقي أغراض الشعر الأخرى. ولم تقع بين يدي الكثير من المجموعات الشعرية العربية ذات القصيدة الواحدة، مع أن التاريخ الشعري العربي الحديث يحدثنا عن الريادة المبكرة للشاعرين المهجريين اللبنانيين الشقيقين فوزي المعلوف (1899-1930) وشفيق المعلوف (1905-1976) لهذا النوع من الدواوين في عشرينيات القرن الماضي، فقد كتب فوزي المعلوف ملحمته الخالدة (على بساط الريح) والمؤلفة من (218) بيتا على البحر الخفيف بقواف متنوعة، ومع أنه مات قبل أن يتمها إلا أنها نشرت بعد وفاته وترجمت إلى لغات عدة، ويوم قرأها طه حسين قال فيها: «أي شعر جيد رائع جميل! فأي نفس حلوة وأي روح وأي فن، وأي موسيقى خليقة بالبقاء؟». الشاعر شفيق المعلوف أيضا كتب ديوانه (عبقر) ذي القصيدة الواحدة مستلهما تجربة أخيه فوزي، والديوان مطولة يطوف من خلالها الشاعر بوادي شعراء الجن، كما نصت الأسطورة العربية، وقد قال عنها ميخائيل نعيمة في (الغربال الجديد):»حسب الشاعر فخراً أن يدلل بمنظومته هذه عن مرونة شعرنا العربي في معالجة أي موضوع مهما تشعب واتسع، وأن يكون سبّاقاً إلى ارتياد آفاق شعرية ما خطرت لشعرائنا من قبله ببال». الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله كتب ديوان (نعمان يسترد لونه) عام 1984م وهو ديوان من قصيدة واحدة، وكذلك كتب محمود درويش جداريته الخالدة عام 1999م لتكون نموذجا مغايرا لهذا النوع من القصائد في الشعرية العربية. ربما، كان السبب الرئيس وراء قلة ذيوع هذا النوع من المجموعات الشعرية أنها تحتاج إلى شاعر اكتملت لديه ملامح مشروع شعري ذي بصمة صوتية منفردة، واختمار فني على مستوى الرؤية والمضمون ونضجٍ عالٍ على مستوى الأدوات، الأمر الذي لا يتأتى إلا في مراحل متأخرة من تجربة الشاعر العمرية والفنية، إضافة إلى ما تتطلبه القصيدة/الديوان أو الديوان/القصيدة من جهد إبداعي وعمل بنائي وتفرغ زمني غاية في الصعوبة والاستغراق، من هنا يمكن القول إن ديوان (عبد الله) ذا القصيدة الواحدة يعد علامة فارقة في التاريخ الشعري الأردني على مستوى الشكل والبناء والمضمون. العنوان وعتبات النص وهوامشه: بات جلياً أن عنوان النص ليس ملفوظاً لغويا أو اسماً يَسمُ العملَ الأدبي ويعلن انتماءَه لمؤلفه حسب، وإنما هو (نصٌ موازٍ) يضيء عمارة النص ومساحاته المخفية، ومفتاحٌ يضع القارىء على باب تلقيه وتحليله وتأويله وتداوله. ولما كان يستحب في العنوان أن يجيء موجزاً لغوياً، فقد حقق عنوان (عبد الله) بهذا التركيب المقتصِد شرط الإيجاز المناسب للبدايات، وجاء مولداً للدلالات التي خطط المعنوِن/المرسِل لتوليدها عند المعنوَن له/المرسَل إليه، مستثيرا، التفاعلَ بين معارف المتلقي ودوال العنوان. إن معاينة سيميائية متفحصة لعنوان (عبد الله) تؤشر إلى أن العنوان نجح في أداء الوظيفة الأولى من وظائفه وهي الوظيفة التعيينية (هي نفسها الوظيفة الاستدعائية عند «جريفل» أو الوظيفة التسموية عند «ميتران» أو الوظيفة التمييزية عند «غولدنشتاين»)، فقد عرّف العنوانُ الجمهورَ بالعمل الأدبي الذي يسِمه دون أدنى احتمالٍ للخلط أو الاشتباه بعناوين أخرى متطابقة أو متشابهة، وأقول (الجمهور) وليس (القارئ) لأن العنوانَ، بخلاف النص، يُرسَل على سبيل الإشهار إلى جمهور لم يقرأ النص بَعْد (التلقي العنواني)، أما النص فهو موجه بالضرورة للقارئ، وقولي بانتفاءِ الخلط أو اللبْس يعضده أنني لم أقع فيما قرأت من الشعر العربي وعناوين قصائده على قصيدة تحمل العنوان نفسه سوى قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب (عبد الله الإرهابي) وفي عنوانها تباينٌ ملحوظٌ عن عنوان مجموعتنا. والعنوان، إلى حد ما، أدى الوظيفة الثانية من وظائفه وهي الوظيفة الوصفية (هي نفسها الوظيفة التلخيصية عند «غولدنشتاين» ونفسها الوظيفة اللغوية الواصفة عند «كونتورويس»)، فعبر هذه الوظيفة يقدم العنوان، بالتعريض لا بالتصريح، شيئاً عن النص، فيكون الوصفُ محفزاً للاستدلال عند المتلقي، ويكون أيضاً على حد تعبير (أمبرتو إيكو): «مفتاحا تأويليا للعنوان… والعنوان قاعدة تخلخل الأفكار لدى المتلقي، حسب معرفته وثقافته، حيث يتباين أفق التوقع من إنسان لآخر». ويظل القبض على دلالة عنوان (عبد الله) مؤجلا ومرواغاً وحماّل أوجه لحين قراءة العمل الأدبي وهوامشه وأبعاده الفكرية والتاريخية والفنية والشخصية للنص والشاعر، ولعل هذا ما حققه العنوان عبر الوظيفة الثالثة من وظائفه وهي الوظيفة الإيحائية، إذ أنه أعطى إيحاءات مولدة للدلالات ومحفزة للتوقع عند المتلقين كلٌ حسب ثقافته ومعرفته، هذه الدلالات التي ستنبثق بضراوة لاحقا عند قراءة الإهداء الشخصي الذي مَهَرَ به الشاعر صدر مجموعته: «إلى أبنائي: عبد الله وزيد وجعفر»، كما أنها، أي الدلالات، تأخذ منحىً آخر عند الوصول بالقراءة إلى القسم الثالث من أقسام القصيدة الأربعة (عبد الله، صوت، إضاءة، ختام) حيث اقتبس الشاعر من (فتوح الشام للواقدي – ص 139) ما نصه: (أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لحق بالشام، ومعه ابن أنيس، وعند تبوك سأل عن موضع مقتل أبيه، وزاره وترامى عليه وبكى وترحم، ورأى في الحلم أن أباه قد سلمه سيفا أخضر مشهرا وقال: يا بني قاتل به أعداءك، ثم لحق عبد الله باليرموك)، لتسطع بعد ذلك من تضاعيف النص أقوى الدلالات حضورا عند قراءة المقطع الذي خاطب به الشاعر ابنه البكر عبد الله: «كان الفتى يترامى على قبر جعفر كان اسمه أنت، فاحمل أماناته حيث كان يريدْ فما أحدٌ سوف يعطيك سيفا، ولا أحدٌ سوف يصحو من القبر حتى يراك…) رابع الوظائف التي حققها العنوان (عبد الله) الوظيفة الإغرائية، فالواقف على العنوان، الغني بدلالاته الكامنة وموسيقاه الباذخة المتأتية من سلاسة التركيب وهيبة الهاء المفخمة في لفظ الجلالة، يظل متشوقا ومغرى به للولوج إلى النص وقراءته وتحصيل متعته أولا وأخيرا، فإن كان القارئ ما يزال على عتبة الديوان فإن العنوان، وبالإذن من (جيرارد جينيه)، كان سمسارا ذكيا ومميزا في التسويق لقراءة النص. تهيئة المسرح ورسم مشهديته واستدعاء شخوصه: إن قصيدة مطولة تمتد على مساحة بنائية واسعة، حتى وإن كانت غنائية (ذاتية) في موضوعها، تستوجب بالضرورة أن تبدأ القصيدة بتهيئة المسرح واستدعاءِ الشخوص الذين سيُرسلُ الشاعر تجربتَه الانفعالية إلى القارئ عبرهم، كل ذلك في مشهدية حسية وذهنية تحتفي بالواقعة التاريخية ومكانها وزمانها وتستعين على ذلك بالصورة الملونة والصوت العالي تارة والمنخفض تارة أخرى، فالشاعر، وبعد العنوان والإهداء، يفصح في مطلع قصيدته عن هُويّة (عبد الله) فيعلن للدنيا عن ولادة ابنه البكر ورؤيته أولَ مرة بجملة مكثفة في لفظة واحدة موحية: (أراكَ…) أراك: الكلمةُ/الصرخة، المتصلةُ بكاف المخاطب والعائدةُ على عنوان الديوان قبلها (عبد الله)، محملةٌ بالاشتياق المعنّي والانتظار الطويل وبالحبور الشجي الذي قد يصل بصاحبه حد عدم التصديق، إلى أن يأتي صوت الجد، ثاني الشخوص المستدعاة، مخاطبا الابن-الأب بصوت مبتهج يحمل البشرى بنهاية الانتظار: (قد أتاكَ الربيع…) وبعد هذه البشرى يتوارى صوت الجد ليعود صوت الأب واصفا لابنه، الذي يشبه نجماً حلوا خبأته سدرة المنتهى، فرحتَهُ بلقياه: (وألقاك، شوق الحبيب إلى جبلٍ كان توباده، ثم أُجهش…) هي فرحة باكية كفرحة مجنون بني عامر كلما مرَّ بجبل التوباد الذي كان يواعد عنده ليلاه وقال فيه: وأجهَشــتُ للتـَّوبـَادِ حيــنَ رأيْتـُهُ وهلـّـــلَ للـرَّحمــنِ حيـنَ رآني فَقُلـتُ لـه أين الَّذيـنَ عَهِدتُهـمْ حواليكَ في خصـبٍ وطيبِ زمانِ؟ وهي فرحةٌ ناقصةٌ أيضا، فالشاعر/الأب يراها متأخرة جاءت في زمان لم يكن معدا لمولد الابن، هو زمان الشيخوخة وزمان الموت المطوّف حول البيت/الوطن: (وقد جئتَ والخوفُ يذبحُني، والمنايا على باب بيتي تحوم…) لكن مَن يردُّ هدايا السماء المتأخرة وقد كانت في زمان آخر أمنياتٍ مُشتهاة؟ لا يتأخر الأب/الشيخ بالإجابة: (فيا ولدي، إنّ طرفي الذي لا يرى كلَّ صبحٍ ثلاثةَ أجنحة مدَّها اللهُ لي طرفُ أعمى، وكيفَ يكون، وأنتم مصابيحُ هذي النجوم…) إذا كان النقد العربي القديم يقف عند واحد من أبيات القصائد التي تُعرض عليه ليقول عنه (بيت القصيد)؛ فإنّ هذا المقطع المكثفَ الموحي من الديوان بمثابة بيت القصيد من القصيدة، وربما لهذا السبب أثبته الناشرُ بخطٍ عريض على الغلاف الخارجي للديوان، ففيه يقول النص/ الشاعر مقولَتهُ الكبرى، وتَبرزُ الفكرة التي ستتمركز حولها وتنبثق منها أفكار القصيدة الأخرى، فالحِرمان الذي كان الشاعر حبيسَهُ ليل نهار، بسبب انعدام عَقبه من الذكور، انتهى بعدَ أن مَنَّ الله عليه بثلاثة أبناء صاروا له أجنحة عوَّضتهُ عن ذراعيه الضامرتين، وحلقت به بعيدا عن قفص الحزن والأسى وفقدان الأمل، فبات ينظر إلى صاحب الفضل والمنّةِ بعين الشكر والرضا. هي فكرة العَقِب الذي سيحمل اسم الأب ويمنع القبيلة، فكرةٌ ظلّت تجثم على كتف العربي منذ: «أن نَذرَ عبد المطلب، فيما يزعمون، لئن وُلد له عشرة نفر من الذكور ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحنّ أحدهم لله عند الكعبة» (السيرة النبوية لابن كثير). لكن هذا البعد الإنساني يتجاوز هذه الدائرةَ الضيقةَ عند صاحب ديوان (عبد الله) ليخرج إلى دائرةٍ أكبرَ هي البحثُ عن خلودِ الشاعر الأبديّ المتحققِ عبرَ النّص لا عبر العَقِب وهذا ما سيتضح لاحقا عبر أقسام القصيدة المتبقية، فالأجنحةُ الثلاثةُ هي وسيلةُ التحليق الأبديةُ التي ستحمل النص/الشاعر لارتياد الآفاق، والمصابيحُ النجوم أداة السطوع الذاتي التي ستخلدهما معاً. هو أوانُ نهوض الشيخ إذن، متحرراً من تعبه الذي أثقل كاهليه بعد أن سَئم تكاليفَ عيشهِ وهو ينتظر ولدَهُ الذكر البكر، مرتقباً موته الذي لا يجيء، حياة توقفت وبُعثت من جديد على صوت (عبد الله) الذي سيملأ قبرَ أبيه أدعيةً ويقيم صلاةَ الحياة: (سأنهضُ يا ولدي، فالحياة على صوتك العذب، عادت حياة..). قبل مجيء (عبد الله) كان التيه عنوان المرحلة: (بدا النجم يا ولدي تائها في فضاء بهي يرود دروب هواك…) وظل الأب محكوما بالأمل: (وقلنا سيأتي سهيل اليماني …) سهيل اليماني (الجنوبي) سفينة العربي في الصحراء، وألمع النجوم التي لا تظهر في سماء بلاد العرب إلا أواخر القيظ، ليعلن عن التغير الفصلي وانتهاء ريح السموم، سيأتي (عبد الله) لامعا وسيما نبيلا ومجيدا كسهيل، وسيكون ظهوره بعد طول انتظار أشد وقعاً وأبعد أثرا، قرة عينٍ لأبيه الذي ظل إلى لحظة قدومه رهين محبسه، فعبد الله في نظر أبيه سهيلٌ الغائب الآيب، والأب/الشاعر يتمثل سهيلا/عبدالله كما تَمثّله بصير المعرة: (وسهيلٌ كوَجْنَةِ الحِبِّ في اللَّون وقلبِ المحبِّ في الخفقانِ) ومن باب الاحتراس، يكون الدرس الأول الذي يلقنه الشاعر/الأب لابنه/النجم: ( ما ضلّ صاحبنا يا بني بأرض مؤاب، وقد ظل رجع الصدى عاليا، كما أخبر العارفون…) مَن الصاحب المقصود هنا؟ مَن الذي لم يضلَّ بأرض مؤاب؟ هل هو مؤاب الابن البكر لابنة لوط وأبو المؤابيين وفق الرواية التوراتية؟ أم هو ابنه الملك ميشع هازم العبرانيين وصاحب المسلة المنقوش عليها خبر تخليصه لبلاده من أعدائها؟ هل هو جعفر بن أبي طالب أم ابنه عبد الله؟ ربما ليس واحدا من هؤلاء، إنه خالد نفسه الذي: (ظل ينادي على وطن مسه الضر والناس رغم عذاباتهم صابرون…) لقد بات المسرح الآن معدا لأن يخرج الشاعر بنصه من الذاتي إلى الموضوعي بتخلصٍ حَسَن وحرفة شعرية عالية لا تصنع فيها ولا تكلف، كما بات عبدالله مهيئا ليحمل شيخَهُ (عبر النص) لا إلى غياهب القبر، وإنما إلى سهل مؤتة حيث عشبة الخلود ولجة الفجر والزعفران، وهنا وفي اللحظة التي خصصت لهذا الانتقال تُستدعى الشخصية التي ذكرت مرتين في النص (سليمان)، شقيق الشاعر المتوفى واستدعاؤه الآن ليس إلا لقاءً مع الموت أو تمنياً له، مثلما كان لقاء (عبد الله) في مفتتح القصيدة لقاءً مع الحياة. الذاتي والموضوعي في الديوان إن واحدة من صور عبقرية نص (عبد الله) تتجلى في قدرة الشاعر على المزاوجة بين الذاتي والموضوعي بحرفية عالية وصنعة لا تكلف فيها ولا اجتلاب، لدرجة أن القارئ لا يكاد يحس بقسمة حادة بين المنحيين، فقد استطاع الشاعر أن ينقل القارئ من خانة المتلقي المحايد لتجربة الشاعر على الصعيد الإنساني ورؤاه الذاتية إلى المنتج للنص والمنفعل به انفعالا تاما عبر خطاب تعالقي مباشر، فإذا ما تخلى الشاعر عن خطابه المباشر للمتلقي، عبر تناول أحداث هي في الأصل خارج شخصيته والتقنع بشخصيات أخرى والتواري خلف مواقفها وحواراتها، نجده ينجح في إيصال تجربته الذاتية وتسخير الحادثة التاريخية والشخصية المستدعاة لتقول ما يريد الشاعر لها أن تقوله، دون أن يُكسَر إيهام القارئ بحياد الشاعر الفني. (فيا أيها القادم العذب من ذروة في أعالي الكرك مَن ينهض الآن إن شبت النار في الصدر ….. مَن يقرأ الآن غيما على الأفق مَن ينجز الآن نقشا على صخرة للزمان الجديد بأني أنا من جفاك وضيعك كأن الذي كان مرا أرجو سليمان أن لا يطيل الغياب، وأسأل ربي أن يرجعه…) في ديوان (عبد الله) يتداخل الذاتي بالموضوعي ويتبادلان الأدوار بسلاسة ووعي، ويصيران معا مساحة للشعر والشاعر. المكان وحضوره: إن الكينونة الإنسانية لا تتمظهر إلا عبر كينونة مكانية، وفي الشعر يستحيل المكان من جغرافيا أو بناء متحيز ذي مساحة وأبعاد هندسية إلى كينونة جمالية تخييلية لها امتدادات فلسفية تربط بين المكان من جهة ووجود الإنسان ومكانته وتاريخه من جهة أخرى، فالمكان في الأدب كما يراه جاستون باشلر (تحيزٌ للخيال يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية). وفي ديوان (عبد الله) يستعير الإنسان/الشاعر المكان (بمستوياته التاريخية والراهنة) ليقدم صورة هويته الإنسانية كما رآها في الماضي والحاضر وكما يريد لها أن تكون في المستقبل، واستعارة أو استعادة المكان في الديوان ليست استنساخاً جامداً للمكان الحقيقي أو محاولةً لمَوْضعته في بناءٍ لغوي، وإنما هي إعادة قراءة لتاريخ الإنسان عبر المكان وقراءة في حاضره واستشراف أو نبوءة لمستقبله. وانطلاقا من هذا الفهم لرمزية المكان تتسع دائرة الحضور المكاني من غرفة في بيت الأسرة الأول مرورا بالوطن الكبير وصولاً إلى فضاء كوني يضم العالم أجمع، والإنسان يتحرك عبر طبقات هذا البناء المكاني مستعيرا من أمكنة كل طبقة ما تختزنه من محمولات ورموز وإحالات متفاعلاً معها ومسخراً إياها لخلق مقولاته الخاصة، لذلك نرى في ديوان (عبدالله) بيت الأسرة الصغير: مكان الفرحة الدامعة لقدوم الابن البكر، وجبل التوباد: مكان الشوق المستبد والوقوف على أطلال الغائبين بكاءً واستبكاءً، والوطن: البيت الكبير الذي تحوم المنايا حوله،وأرض مؤاب: أرض الانتصار والانكسار، القرية: العدنانية مسقط الرأس، يثرب: أرض الإسلام الأولى ومنطلق الفتح، ومعان ومشارف ومؤتة: الجغرافيا التي صنعت التاريخ ولم تخرج منه بعد، والقدس والشام: الوطن الأكبر والفضاء العروبي الذي يحمل همه الشاعر. الأثر الديني في الديوان القرآن الكريم كما وصفه الراغب الأصفهاني: (مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم) وفي ديوان (عبد الله) كان القرآن معيناً ثراً متح منه الشاعر على امتداد قصيدته، وقد جاء أثره وتأثيره واضحين في الألفاظ والتراكيب والمعاني والأساليب والقصص والاقتباس والتناص والرمز والإيقاع، ومن أمثلة ذلك: (وقد جئتَ حلوا كنجمٍ تخبئهُ سدرة المنتهى في ظلال الزمان السديم…): سدرة المنتهى في قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى» سورة النجم. (وما ضل صاحبنا يا بني، وظل ينادي على وطنٍ، مسّه الضُّر) من قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى» سورة النجم. «قالوا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر» (سورة يوسف). (لا ضوء في مشهد الصبح، لا عاصم اليوم في راسيات الجبال…) من قوله تعالى: «قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ» سورة هود. (وإن عاد هذا الزمان كعرجون نخل قديم): «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» سورة يس (تراءت على السفح سبع بواكٍ وسبع من العاديات): «وَالعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالمورِيَاتِ قَدْحًا فَالمغِيرَاتِ صُبْحًا» سورة العاديات (انشقت الأرض، بل والسماء غدت وردة كالدهان) من قوله تعالى: «فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ» سورة الرحمن (إنهم ينفرون خفافا وهم ينفرون ثقالا ويأتون من كل فج عميق…) من قوله تعالى: «انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» سورة التوبة، وقوله: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» سورة الحج. لأنك من سيهيل تراب غيابي عليّ، ويملأُ قبري أدعيةً ويقيم صلاةَ الحياة…) من قول الرسول عليه السلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولدٌ صالح يدعو له). فالقرآن والسنة النبوية مصدران من مصادر ثقافة خالد الكركي وجزء أساس من تكوينه المعجمي والأسلوبي والتخييلي. مرجعيات النص وتناصاته مع الشعر العربي إضافة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية يستقي الشاعر في نصه من مرجعيات أخرى، ويوظف تناصاته معها بأسلوب لا يخلو من فرادة وجدة، وأهم هذه المرجعيات الشعر العربي، فقول الشاعر: (فيا ولدي إنّ طرفي الذي لا يرى كلّ صبحٍ ثلاثة أجنحة مدّها الله لي طرف أعمى…) يتقاطع مع قول المتنبي: وما انسدَّت الدنّيا عليّ لضيقِها ولكنّ طرفاً لا أراك بهِ أعمَى وقوله: «ويأتيك صوت خفي من الغيب حين تطل على مؤتةْ: صوتٌ تَفجَّر مِن كبدٍ صدَّعتها مرارات ذاك الزمان البهي…) يتقاطع مع البيت في عينية الصمة القشيري: وأذكُرُ أيــام الحمى ثم أنــثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا وقوله: (أفيقا، فإن سهيلا يطل على الشام وهو الذي لو رآني في ساعة الموت رد علي الهدى والأمان…) يتقاطع مع بيت مالك بن الريب: وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا وقوله: (هناك ترى يا بني، قبابا، وخيلا، رجالاً أكفهُمُ من غمامْ…) يتقاطع مع قول الشاعر الأندلسي: ألست من القـــــــوم الذين أكفهم غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق الموسيقى والإيقاع قصيدة هادئة تخفي صراخها وصوتها الجارح بين طيات الموسيقى الرصينة، بعيدا عن الخطابة والثورية المنبرية الخادشة للأذن والمفسدة للشعرية، وعلى الرغم من أن القصيدة في بعض موضوعاتها تستلهم التاريخ وتصف معاركه الفاصلة وتستدعي أصواتاً عالية إلا أنها لم تتخلَّ عن موسيقاها التي تركت للشعر مساحة إيقاعية تحرك فيها الشعر دون قعقعات منفرة أو مباشرة خطابية. شعرنة السردية التاريخية إذا كانت الرواية التاريخية تبحث عن الواقعة التي ثبت حدوثها أو ترجح واقعة متحققة على أخرى مشكوك في تحققها، فإن الشعر في واحد من مستوياته بحثٌ عن التاريخ الممكن الحدوث على الرغم من عدم تحققه بعد، وإذا كانت مادة التاريخ تتكون من أحداث وشخصيات ومواقف فإن الشعر موقفٌ من هذا كله. وشاعر ديوان (عبد الله) يدرك أن الشعر محاكاة للتاريخ وتفاعل معه، ولا ينبغي له أن يكون وعاء تسجيليا لأحداثه، وخير دليل على هذا الفهم استدراج التاريخ ليلعب لعبة الشعر وحمل لعبء الإنسان الذي تنكر له التاريخ وطغى عليه، فالسردية التاريخية لمعركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة تسجل لنا مقتل سفير النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى هرقل عظيم الروم على يد شرحبيل بن عمرو الغساني عامل قيصر على البلقاء، فجهز النبي عليه السلام إثر ذلك جيشا من ثلاثة آلاف مقاتل فيهم كبار الصحابة، تحت قيادة زيد بن حارثة (فإن أصيب فالقائد جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون بينهم وليجعلوه عليهم). نزل جيش المسلمين في معان وأقام فيها ليلتين، وكان هرقل عظيم الروم قد عسكر بمؤاب مع جيشه الذي قوامه مئة ألف من الرومان ومئة ألف من الغساسنة استعدادا للقاء المسلمين. سار المسلمون من معان إلى سهل مؤتة حيث التقوا الروم عند (شَارف)، وعند الفجر بدأت المعركة فقاتل زيد بن حارثة حتى قُتل، وأحاط الروم وأحلافهم بجعفر بن أبي طالب وهو يحمل اللواء يوثب المسلمين ويستثير نخوتهم،حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، وضُرب حتى قطعت يمينه ثم قطعت شماله ثم ضم اللواء إلى عضديه وناضل عنه إلى أن مات، فتولى القيادة عبد الله بن رواحة الذي تردد أول الأمر ثم طفق يصول بسيفه بين الصفوف منشدا: يا نفسُ إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيتِ فقد أُعطيت إن تفعلي فعلَهُما هُديت وبعد استشهاده اتفق القوم على تولية خالد، فصمد في الميدان حتى الليل، واستبدل مواقع جيشه وأمر طائفة من جنده بإثارة الغبار خلف الجيش كي يظن العدو أن المسلمين أصابوا مددا، وتقدم خالد يدافع جيش الاعداء، وأبلى بلاء عظيما لدرجة أن تسعة سيوف اندقت بين يديه ولم تصبر معه إلا صحيفة يمانية، وعندما أدرك أن انسحابه بجيشه أصبح مأمونا قفل عائدا إلى المدينة. وعند مقابلة السردية التاريخية مع النص الشعري المتكئ على أحداثها نجد أن الشاعر قد نجح في الخروج من السردية التاريخية المتكلسة إلى نص مشعرن يمس التاريخ ويشعرنه ليبني نصه ورؤاه لكنه لا يغرق في هذا التاريخ أبداً. (ذات صباحٍ بعيد ستدخل في غبش تائه في الندى والشروق، هناك ترى يا بني، قباباً، وخيلاً، رجالاً أكفهم من غمام، والعمائم خضر، وبين الرؤى سوف يمتد نهر ضبابٍ كما زرقة الموج، يرتعش السهل حين يرى جعفرا بجناحين من أرجوان وطيب، يضيء فضاء مؤاب…). (بني، تبصر جوادا يخر كما جبل حين يعقره جعفرٌ والمنايا حواليه ليس إلى ردها من سبيلْ وما زال يجمع في عضديه اللواء وينظر نحو نجوم سُراه…) (ألا اقرأ لهم كيف تسع صحاف تقطعن في زند خالد والموت ينثر غربانه في المكانْ…) الشاعر لا يروي التاريخ وإنما يتأمله، ويعيد خلط عناصره السردية في قالب لغوي شعري لينتج نصا له تاريخه المغاير الذي يتوارى خلفه تاريخ الواقعة المسرودة، نص يحتفي بتأمل التاريخ وإعادة قراءته أكثر من احتفائه بالتاريخ نفسه. وهنا يبرز سؤال يفرض نفسه: لماذا لم تغرِ مساهمة عبد الله بن رواحة الشاعر لينسج منها مقطعا شعريا عند تناوله لأحداث معركة مؤتة؟ بينما استهوته مساهمة جعفر وخالد؟ مع أن في قصة بن رواحة جانبا ملهما للشعر ومولدا للقصيدة، ربما أخذ الشاعر، كما فعل التاريخ أيضا، على ابن رواحة تردده الأول بعد مقتل صاحبيه، وتأخره في الإقدام، ولأن الشاعر في زمن الأمة المهزومة يبحث عن إقدام أسرع من إقدام بن رواحة استهواه عقر جعفر لفرسه وتكسر تسعة سيوف في خالد أكثر مما استهواه بن رواحة وهو يبحث عن الشهادة إذ أعجزه النصر. الانزياح في اللغة الشعرية الانزياح في الشعر هو انحراف الكلام عن مطابقة الواقع، وهو من أهم الظواهر التي ينماز بها الأسلوب الشعري، وقد اتخذ شاعر ديوان (عبد الله) الانزياح، بنوعيه الاستبدالي والتركيبي، تقنية عبر من خلالها عن تجربته الشعورية، مما أسهم في تفاعل القارئ مع النص وتثوير ذهنيته ومن ثم الوصول به إلى الدهشة والإمتاع. الانزياح الاستبدالي: يتعلق بالمعنى أو بالمادة اللغوية، ومنه الاستعارة والتشبيه والمفارقة. – الاستعارة: مجاز لغوي تنتقل فيه الكلمة من بيئة لغوية معينة (كما هي بأصل الوضع) إلى بيئة لغوية أخرى، وتكون العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي للكلمة قائمة على المشابهة دائما. وأمثلة ذلك من الديوان: (فلا تنتظر يا بني أباك وراء الرؤى الخضر: ستكبر فيّ، وأكبر فيك…) لقد انزاحت العبارة عن معناها الحقيقي إلى المعنى المجازي، حينما شبه الشاعر الرؤى بالنباتات الخضر، ثم حذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية، فتحقق بذلك خروج الرؤى من دائرة غير المحسوسات إلى المحسوسات، مما أورث دهشة وإثارة عند المتلقي. ومنها: (فيا أطيب الطيب، يا ولدي، يا الربيع الذي اجتاح روحي…) حيث خالف الشاعر اللغة المعيارية عندما شبه ابنه بالربيع، وحذف المشبه وصرح بالمشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية، وفي هذه الاستعارة دلالات موحية تثير ذهن القارئ. – التشبيه: وهو إلحاق أمر بأمر آخر في صفة أو أكثر، بأداة من أدوات التشبيه ملفوظة أو ملحوظة، لغرض يقصده المتكلم. ومن أمثلة ذلك من الديوان: (وقد جئت حلوا كنجم تخبئه سدرة المنتهى…) حيث شبه الشاعر مولوده الوسيم اللامع بالنجم المخبأ بين أغصان سدرة المنتهى، وهو تشبيه مرسل مفصل بذكر أداة التشبيه (الكاف) ووجه الشبه (حلوا)، أخرج الشاعر بواسطته النجم من دلالته المعجمية إلى دلالات أخرى إيحائية.ومن التشبيه أيضاً: (وكيف يكون، وأنتم مصابيح هذي النجوم…) شبه الشاعر أولاده الثلاثة (عبد الله وزيد وجعفر) بالمصابيح، تشبيه بليغ (مؤكد مجمل) حُذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، وذلك لغرض بيان حال المشبه وتزيينه وتجميله عبر إظهاره في صورة ترغبها نفس المتلقي. ومنها: (ففاض الحنين، كما البشر في وجه أمي أيام كنَّا…) حيث شبه الشاعر حنينه إلى أرض مؤاب بالبشر الفائض في وجه أمه، تشبيه ذُكرت فيه الأداة ووجه الشبه (مرسل مفصل)، مما أحدث انزياحا عن اللغة المعيارية حين يصير الحنين والبِشر يفيضان كما تفيض السوائل عن أوعيتها. (ما ضل صاحبنا يا بني ولا هجرته مؤاب، وفي غبش الحلم أن السماء كتاب وأن النخيل سحاب…) شبه الشاعر السماء بالكتاب والنخيل بالسحاب، تشبيه بليغ (مؤكد مجمل) حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، واللذة والمفاجأة تتحققان في هذا التشبيه عندما يصل المتلقي إلى فهم أن المرجعية العقائدية هي الإسلام فالقرآن كتاب السماء، وأن المرجعية القومية هي العروبة ورمزها النخيل الذي انساح في الأرض عبر الفتوحات الإسلامية التي كان العرب مادتها. – المفارقة: وهي إثباتُ قولٍ يتناقض مع القول الشائع في موضوع ما. ومن أمثلة ذلك في الديوان: (فيا وجع القلب من فرحي…) فالمفارقة قائمة بين وجع القلب والفرح، على الرغم من أن الشائع أن يكون وجع القلب مصدره الحزن لا الفرح، لكن الانزياح يكشف عن قناعه سريعا عندما يصير وجع القلب سببه الخوف من الغياب: (لأنك من سيهيل تراب غيابي عليّ…) ومن المفارقة أيضاً: (بدا النجم يا ولدي تائها في فضاء بهي يرود دروب هواك…) هنا أيضا المفارقة جلية بين النجم الذي بدا تائها بينما هو أداة التائهين للاسترشاد، وفي هذا التناقض دهشة تقود إلى لذة عند المتلقي. الانزياح التركيبي: يتعلق بالسياق أو تركيب العبارات، ويخالف فيه الشاعر التراتبية المألوفة في الجملة، ومنه التقديم والتأخير، والحذف (إسقاط أحد عناصر التركيب اللغوي). – التقديم والتأخير: 1- تقديم النعت على المنعوت: (وما زلت في وحشة العمر أرجو سليمان أن لا يطيل الغياب…) فالشاعر هنا قدم النعت (الموحش) على المنعوت (العمر) مع أن التراتبية اللغوية تقتضي أن يلي النعت المنعوت، فكان المقدَّم محل الإنكار والغرابة. ومنه أيضا تقديم صفة (الرسو) على موصوفها (الجبال) في المقطع التالي: (لا ضوء في مشهد الصبح، لا عاصم اليوم في راسيات الجبال…) 2- تقديم المفعول على الفاعل: فالأصل في العامل أن يتقدم على المعمول، والانزياح عن هذا التركيب يأتي في الديوان لاعتبارات منها: التبرك وعظمة الاهتمام كقول الشاعر: (صوتَ الرسول الحبيب ترى يا بني…) الحفاظ على موسيقى الكلام: (مهما ادلهم الظلامُ وغطى السماءَ قتام…) 3- تقديم الخبر على المبتدأ: (عطاشا إلى العشق كانوا…) قدم عطاشاً، وهي خبر كان على اسمها، ومثل ذلك أيضاً: (لنا الشهداء وكل النجوم التي تملأ الليل ضوءا…) لنا، شبه الجملة، خبر قدم على المبتدأ. 4- تقديم المتعلق على متعلقه: (ما ضل صاحبكم ولا في دروب الخطايا هوى…). قدم الشاعر شبه الجملة «في دروب» على الفعل هوى المتعلقة به. * أمين بيت الشعر العربي في رابطة الكتاب الأردنيين، ورئيس تحرير مجلة أقلام الصادرة عن الجامعة الأردنية. 
_______
*الدستور

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *