*الكاتب: نيل دافيدسن/ ترجمة: سمر الشيشكلي
ظهر هذا المقال المثير للاهتمام وجود خط تفكير آخر في بريطانيا، يرفض الأخلاقيات الصليبية، وفكرة الصدام مع الحضارة المسيحية على أساس أنها أكثر تقدمية من الإسلام. وكاتب المقال هو نيل ديفدسون، مؤرخ سكوتلندي وناشط في حركة معاداة الحروب. وهو كاتب يدعم المسلمين ضد تحيز الحكومة البريطانية. وله موقف معلن بأن المدارس الحكومية يجب أن تكون لكل الأطفال من كل الجنسيات والأديان. وقد عرف بأنه مناضل في مجال حقوق الإنسان ضد ممارسات الحكومة البريطانية، وبوقوفه إلى جانب دعم الطالبات المسلمات اللواتي يرغبن في ارتداء الحجاب. لكنه يدعم أيضا اللواتي لا يُردن ارتداءه، خلافاً لرغبة أسرهن.
________
ساعدت الحركة الفكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، التي عرفت فيما بعد بالتنوير، على تسلم السلطة في أوروبا من قبل طبقة جديدة، فلمَ لم تتطور الحضارات الأكثر تقدماً في العالم الإسلامي بشكل مشابه لما تطور عليه الغرب بتأثير حركة التنوير الخاصة به؟.
في خضم الجدل الغربي الدائر حول الإسلام اليوم، يعود الموضوع إلى الظهور، حاملاً معه الكثير من التنبؤات المستقبلية. هناك الكثير من الكتاب الغربيين مستعدون اليوم للاعتراف بالإنجازات الحضارية والعلمية للمسلمين ومستعدون للتعبير عن امتنانهم لها، ومع ذلك، فهم يستمرون في إبداء تحفظ دائم عليها بأنها، أي الحضارة الإسلامية، لم تمر أبداً بتجربة توازي تجربة التنوير. والحق أن الإسلام لم يكن مرغماً في أي وقت على خوض فترة اختبار نقدية طويلة الأمد، وقابلة للاستمرار، تماثل سريان مفعول رؤيته الروحية، مثلما فعل الغرب في القرن الثامن عشر. فقد كتب المؤرخ لويس دوبرييه يقول: «عانت الحضارة الإسلامية من أزماتها الخاصة بها… لكنها لم تكن مجبرة يوماً على مراجعة رؤيتها التقليدية للمجتمع الإنساني وللكون».
عموماً، يأخذ الكثير من مفكري التيار الإسلامي السائد واحداً من موقفين:
الأول: إن الإسلام لا يستلزم ولا يفرض مرحلة التنوير، لأنه على عكس المسيحية، لا يضم بين طيات معتقداته نفس الصراع ما بين العلم والدين، كما كانت عليه المسيحية.
الثاني هو: على الرغم من أن التنوير مثّل حالة التقدم بالنسبة للغرب، إلا أنه كان وسيلة لاضطهاد العالم الإسلامي. يسأل أ.حسين: «بما أن أمتنا كانت ضحية هذا التطوير والتقدم، فلم علينا أن نقدره؟».
والأمر الآخر المؤكد، هو أن كليهما: العالم الإسلامي والإسلام في الغرب، عانوا وما زالوا يعانون الإمبريالية والتفرقة العرقية العنصرية. في الواقع، هذا ليس خطأ التنوير، بل هو محصلة لفشل أهداف ومثل التنوير العليا، والطريقة التي سخر بها لخدمة أغراض توسع الرأسمالية.
بإمكان هذه الأفكار أن تقلب الحركة الصاعدة للطبقة العاملة وللمضطهدين ضد مثيري الحرب وضد كارهي الإسلام الذين يتبنون تلك الأفكار. القضية تكمن إذاً في السبب الذي جعل التنوير يسود الغرب ولا يسود العالم الإسلامي، أو لا يسود بالفعل أجزاء أخرى من العالم مثل الصين، رغم أن الصين كانت فيما سبق أكثر تقدماً من الغرب من الناحية المادية!.
إن القاعدة النسبية لنقد الإسلام هو التنوير الذي حدث في أوروبا وشمال أميركا بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ولكن عبارات الجدل المتعلقة بالإسلام تغيرت. فلا أحد يشير إلى «التنوير المسيحي»، وإن حدث وأعطيت خصوصية ما للتنوير، فهي من خلال علاقته بكل أمة من الأمم.
لماذا كانت الصفة الإقليمية إذاً هي الأساس في النقاش، بالنسبة للتنوير في الغرب، وكان الدين هو الأساس بالنسبة للشرق؟
التنوير المسيحي
الافتراض السائد هو أن التنوير، الذي مثل عصر النهضة وحركة الإصلاح قبلها، قد انبثق مما يدعى عادة «بالتعاليم اليهودية – المسيحية». بعبارة أخرى، كانت المسيحية ديانة سمحة، ومنفتحة فكرياً، بشكل يسمح للفكر النقدي بالبزوغ والازدهار، وبالتالي بقمع الدين، ومن ثم إحداث الفصل ما بين الكنيسة والدولة.
إن مضمون الفكرة طبعاً هو أن الإسلام غير قادر على السماح لمثل هذه العملية بالحدوث. إن مصير برونو (الذي أحرقته محاكم التفتيش المقدسة على عامود أو غاليليو الذي هُدٍّد بنفس المصير، لتجرؤه على التشكيك أو البحث في تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ألقت بظلال من الشك على ما يعلن من أن المسيحية منفتحة بجوهرها على العقلانية العلمية).
عند هذه النقطة ينتقل النقاش من المسيحية عموماً إلى دور البروتستانتية بشكل خاص. أو بشكل حصري، الكالفانية. ومع ذلك لم يعد هذا مقنعاً. وقد بين الكتاب الذين اختلفوا من الناحية السياسية، مثل أنطونيو غرامشي، هيوف وتريفور- روبر، أن الفكر البروتستانتي كان قد تراجع عن التعقيد الفكري للفكر الكاثوليكي في أواخر العصور الوسطى، على مستويات مختلفة، كما يصفها إيراسموس على سبيل المثال. وبالتأكيد فإن جنيف القرن السادس عشر، وأدنبره القرن السابع عشر لم تكونا مدناً يتم فيها تشجيع التفكير العقلاني. يكمن الدور الفكري التقدمي للبروتستانتية في الطريقة التي تشجع فيها أناجيل الإيمان رعاياها على السعي وراء الحقيقة، في قراءاتهم الشخصية للكتاب المقدس، أكثر من سلطة التلقي. على سبيل المثال (التبرئة من الإثم بواسطة الإيمان) هو من التعاليم القوية مثلا، ولكنه غير عقلاني، لاعتماده على الأخذ بفكرة أن طرق الخالق هي طرق مجهولة بالنسبة للإنسان).
لقد أصبحت أدنبرة فيما بعد مركزاً لما قد يسمى بأعظم تنوير وطني. ولكنها ولكي تحدث التنوير، تخلت عن الدولة الخاضعة لحكم الكنيسة السكوتلاندية. وصار هذا حقيقية واقعة عبر أوروبا وشمال أميركا. ومهما كانت المعتقدات الدينية الخاصة بكل مفكر تنويري، وكيفما صاغوا ونظموا هذه المعتقدات ونظمت في جدلهم وحواراتهم، فقد كانت الحركة ككل في حالة حرب مع التقاليد اليهودية – المسيحية. إنها تمثل استمرار الحضارة الغربية، ولكنها أيضاً تمثل شرخاً عميقاً فيها.
وبعيداً عن تأليه القيم الغربية، فقد نبذ التنوير قيماً كانت سائدة من قبل. وأخذ مفكرو التنوير موقفاً معقداً جداً من الإسلام أكثر مما يريدنا المعجبون بهم اليوم أن نعرف عنهم. لأن جوناثان إسرائيل مثلاً، رجع عن موقفه في مؤلفه التاريخي المهم: «التنوير الجذري الجوهري»، وصار ينظر إلى الإسلام بشكل إيجابي من جهة، وحتى بكثير من الحماس، على أنه نسخة دين سماوي منقحة خالية من كل النقص الموجود في اليهودية والمسيحية، وأنه دين يعتمد على العقل. ولكن من جهة أخرى، ينُظر إليه بكثير من العدائية والازدراء، بوصفه ديناً بدائياً متخماً بالخرافات، لا يقل بهذا عن اليهودية والمسيحية، إن لم يكن أكثر، وهو مهيأ ليشجع ويعزز الاستبداد.
لكن كاتباً مثل ادوارد جيبون كتب بطريقةٍ متوازنة وبعيدة عن التحيز بشكل متميز، عن محمد (الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، وعن تأسيس الإسلام في كتابه «انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» موجهاً موقفه النقدي العام إلى المسيحية بشكل خاص. إذاً يمكن القول عموماً إن التنوير لم يعتبر الإسلامَ أفضل أو أسوأ من المسيحية أبداً.
ربما كان من المفروض أن نأخذ بعين الاعتبار أن العامل الحاسم في انبثاق التنوير ككل في الغرب، وفشله في الشرق لا يعود إلى الدين، بل إلى نوع المجتمعات التي يتجذر فيها دينها الخاص، والتي ساعدت تلك الأديان في ترسيخه.
في كل الأحوال، فإنه سيكون لزاماً علينا تقييد الادعاء القائل بأن الإسلام لم يعرف أي شكل من أشكال العقلانية العلمية. برغم كل ما قيل فإن العلماء المسلمين هم من ترجم وحفظ فلسفة وعلوم الإغريق والفرس، التي لولا جهودهم لضاعت. إنهم هم من نقل هذه العلوم إلى نظرائهم الأوروبيين، الذين جاؤوا للتعلم على يد المسلمين في إسبانيا وصقلية.
لكن إنجازات المسلمين في الفكر العلمي لم تؤرشف بطريقة بسيطة. ففي القرن الثالث عشر كان العالم السوري الفيزيائي ابن النفيس هو أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى. وبقيامه بذلك يكون قد عارض رؤية واحد من أجداده وسابقيه في العلم، ابن سينا، الذي كان هو نفسه طبيباً ومفكراً وقدم الكثير، من ذلك أنه حدد إمكانية انتشار الأمراض عن طريق شرب الماء. لقد مات ابن النفيس في سريره عن عمر متقدم (يقال أنه كان في الثمانين). لنقارن مصيره بمصير شخص آخر قدم فرضية الدورة الدموية في الغرب، وهو الإسباني مايكل سرفانتس في 1553 الذي قبضت السلطات البروتستانتية عليه في جنيف بتهمة الكفر (ادعاء صفة الألوهية)، وأحرق بتهمة الهرطقة، بإلحاح من الكالفانية بعد رفضه التخلي عن فكرته.
بالنسبة للمؤرخ ماكسيم رودنسون، فإن أرسطو وأفلاطون وأبو قراط أعظم بكثير من الكتب المقدسة. لم يكن بإمكان أي شخصية مماثلة، لنقل في القرن العاشر، في النورماندي، في نفس العصر، أن تقدم وتشرح هذه الآراء على الملأ، وتتوقع أن تبقى على قيد الحياة. بينما أقيمت في بعض الولايات المسلمة مناصب مماثلة على أعلى مستوى. فلقد أكد الإمبراطور أكبر (1556- 1655) «على اعتماد طريق العقل أكثر من الاعتماد على التقليد”، وكرس اهتماماً كبيراً بأساس الهوية الدينية والحكم اللاطائفي في الهند.
أبو الفضل وزير الإمبراطور أكبر والناطق بلسانه، ضمن عدة مقاطع ساخطة في كتابه يتحسر فيها وينوح على القيود والكوابح التي فرضت على التجارب والمحاولات العلمية من قبل الظلامية (نزعة إعاقة التقدم):
«منذ وقت طويل لا يمكن تذكر بدايته، قيّدت تجارب البحث والاستقصاء والتساؤلات، واعتبرت نذر كفر وإلحاد. وكل ما وصل إلينا من الآباء والأجداد والمعلمون السابقون اعتبر وديعة تحت بند المقدسات. وإن إبداء أي سخط على هذا سوف يعرض صاحبه للمساءلة بتهمة عدم تقواه، وعلى الرغم من أن البعض القليل من المفكرين من أبناء عصرهم اعترف بأن هذا الإجراء ماهو إلا حماقة كبرى من ضمن إجراءات حمقاء أخرى، ولكنهم مع ذلك لم يقوموا بأي خطوة في هذا الاتجاه».
يتضح هنا إذاً، أنه ليس هناك شيء جوهري فعلي متعلق بالمجتمع الإسلامي، يمنع المسلمين من تبني التفكير العلمي والمنطقي. ومع كل هذا الانتماء الحميمي المفصل العميق لحقيقة التنوير الذي حدث في مرحلة تاريخية مبكرة، أبكر من التنوير الغربي، إلا أنه لم ينبثق عنه حركة نسف كاملة قادرة على المساهمة في نقل المجتمع إلى تغيير جديد. لم تزعج السلطات ابن النفيس، لكن في الغرب، حيث كانت المعاقبة تتم في البداية على تلك الأفكار بالموت، أعيد اكتشاف أفكاره وصارت خلال 150 سنة جزءاً من التيار الفكري الطبي السائد آنذاك.
إذاً، فإن الأفكار، مهما كانت متألقة، فإنها لن تكون قادرة بحد ذاتها على تغيير العالم. لابد لها من أن تُجسَّد تجسيداً مادياً في قوة اجتماعية ما.
ولكن ما هي القوة الاجتماعية تلك التي كانت في الغرب؟ ولماذا كان افتقار المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات إليها؟
طبيعة المجتمع الإسلامي
من الواضح تماماً أنه كانت هناك نقلة للتحول عظيمة في المجتمع الإسلامي، ما بين موت الرسول الكريم عليه السلام في 632 م وسقوط إسطنبول في 1453. لكن بعض السمات التحتية كانت ما تزال قائمة على طول الخط.
ولكن ما القاعدة التي كانت عليها بنية الاقتصاد التحتية؟ أسلوب الإنتاج؟
لقد كان الإقطاع الأسلوب الذي ساد في أوروبا الغربية واليابان، في حين لم يكن ليشكل أساساً في ولايات العالم الإسلامي، مع استثناء بلاد فارس (إيران) وأجزاء من الهند. وكان «الأسلوب التجاري» هو أسلوب الإنتاج السائد آنذاك.
ترأست إمارات الملكية الإقطاعية في أوروبا الولايات الضعيفة غير المركزية. وتنامت القوة في اللوردات المحليين المتمركزين في الريف، حتى صارت في نطاق سلطاتهم المحلية. كما كان الاستغلال يتم من خلال اقتطاع الإيجارات، أو من خلال استغلال جهد العمل.
ولكن، وبسبب هذه البنية المتشظية تحديداً، كان من الممكن للإنتاج الرأسمالي أن يبدأ بالازدهار بين هذه الكيانات المتفرقة.
لقد جرت محاولات لتقديم التنوير على أنه تعبير خالص عن العقلانية العلمية التي صادف ظهورها في الفترة الانتقالية ما بين عهد الإقطاع والثورة البورجوازية. ولكن الأحرى بنا أن نفهم هذا بوصفه التلازم النظري لتلك الإجراءات الاقتصادية والسياسية. على الرغم من أنه كان بطرق كثيرة معقدة وغير مباشرة.
إن الشروط التي سمحت بتطور الرأسمالية، ومن ثم التنوير، لم تتحقق بالدرجة نفسها في العالم الإسلامي. في الإمبراطورية العثمانية، التي تقع في قلب العالم الإسلامي، لم يكن هناك ملكيات خاصة للأراضي (إقطاعيات) ولا سيادة إقطاعية محلية، ومن ثم كانت الفرصة ضعيفة والمجال ضيقاً لنشوء طرائق جديدة للإنتاج والاستثمار. كانت الدول هي المستثمر أو المستغل الأساسي، وكان موظفوها يظهرون عدائية متعمدة تجاه مصادر القوة البديلة، مثلما أبدوا عدائية تجاه العواصم التجارية الكبرى، ومن ثم أظهروا انحيازاً للتجارة الصغيرة. وكنتيجة لذلك تحول الأمر ليصبح التجار أشخاصاً من خارج الأمة، وليس من العرب الأصليين أو من السكان الأتراك. لكن الوضع يمثل أصدق تمثيل قدرة الطبقات الحاكمة على استغلال قوة الدولة وبنيتها الفوقية عن عمد، لمنع أي طبقة جديدة من الظهور وقد تشكل تهديداً، مع كل ما يتضمن هذا من إعاقة لنمو أي تطور فكري.
كتب برفيز هوبدويه Pervez Hoobdhoy، (مع العلم أنه يبالغ قليلاً) جواباً لسؤال مطروح: «لماذا لم تحدث ثورة علمية في المجتمع الإسلامي؟. هذا السؤال يعادل عملياً سؤالك: لماذا لم تنتج عن الإسلام طبقة برجوازية». هذا الافتقار إلى تطوير طبقة اقتصادية أكثر تقدماً أعطى معنى بأن المنظرين الإسلاميين لم تكن لديهم مثل مادية يتطلعون إليها. لنأخذ ابن خلدون (1332-1402) مؤلف كتاب العبر الذي يشار إليه بالإنكليزية بمقدمة ابن خلدون، أو مقدمة حول التاريخ. لقد حددت رؤاه الاجتماعية الصراع المستمر بين المدنيات المتمركزة في المدن والتجار (الحضر) من جهة وعلى القبائل (البدو) ورجال الدين من جهة أخرى، تلك القوى السائدة ضمن المجتمع الإسلامي.
رأى ابن خلدون تكراراً حلقياً في تاريخ المجتمع الإسلامي فقط، ولم يستطع أن يتصور أية طريقة لكسر هذه الحلقة. ولم يستطع عمله تجاوز المجتمع الذي دفعه للتنظير.
حيال أمر كهذا، من الصعب الفصل بين التعاليم الإسلامية والمؤسسة الإسلامية. فقد كانت الكنيسة والدولة في أوروبا المسيحية، في تحالف دفاعي عن نظام وجودها. أما في العالم الإسلامي فكانتا منفصلتين- متقاطعتين. لم يكن هناك مؤسسة كنسية منفصلة. بالطبع هناك اختلافات بين الفرق الإسلامية، الشيعة التي تحكم من قبل الأئمة أصحاب النفوذ الكارزمي الكبير، والسنة التي تتبنى الإجماع على الرأي. لكن لم يكن لأي منهما مؤسسة كنسية تخيم عليهما، مقارنة بتلك التي كانت للمسيحية. بل ظهرت عوضاً عنها بنية اتحادية تلاءمت مع الدولة الفردية. وبذلك فإن من الصعب الفصل بين دواعي وأسباب الدولة عن دواعي وأسباب ومبررات الدين.
ولما صارت القوى الأوروبية المتزايدة تهاجم حدود العالم الإسلامي بشكل غير متوقع منذ القرن السادس عشر وما بعده، أصبحت عدواً من المؤلم الإعجاب والانجذاب إلى أسلوبه في الحياة أو تقليده.
الإصلاح الجزئي
يمكن أن تكون الصين مثالاً يدعم الرؤية القائلة بأن الدين ليس مفتاح القضية، بل طبيعة الاقتصاد ونظام الدولة. فقد كان للصين حضارة عظيمة تماماً، مثل المجتمعات الإسلامية، مع إنجازات علمية وتكنولوجية مهمة، فاقت حتى الأوروبية. ولكن، هنا أيضاً كانت الدولة البيروقراطية التابعة تعمل على قمع القوى الاجتماعية الصاعدة وأفكارها الخطيرة.
من الصعب أن لا نرى سلفاً أحد أعمال قادة الفكر في الصين في القرن السابع عشر، وانغ فو تشن (1619- 1692) لدى قراءتنا لآدم سميث في سكوتلندا، لكن الفرق بينهم هو أن أفكاره لم تؤدِ إلى نتائج فورية.
في الصين، كما في ديار الإسلام، عملت الدولة على السيطرة على عدم انتشار الأفكار الخطيرة. ولكن الصين ليست بلداً إسلامياً، التشابه ليس في الدين بل في نظام الدولة والنظام الاقتصادي، اللذين أديا بالعالمين إلى المصير ذاته.
إذاً، هل كان من الممكن إدخال أفكار التنوير إلى تلك المجتمعات من الخارج عنوة؟
لقد أدى اندحار السلطة العثمانية المؤقت في مصر أمام جيوش الثورة الفرنسية في عام 1798 إلى محاولة ذلك، في مصر أولاً، ثم في تركيا على الأقل، إلى تطبيق بعض العوامل التقنية، العلمية والعسكرية للفكر العقلاني العلمي.
إن الكثير من مظاهر الإسلام التي افترض جهلاً أنها من نتاج تقاليد العصور الوسطى كانت نتاج هذه الفترة من الإصلاح الجزئي. إن التقسيم والاحتلال الإمبريالي للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى جمّد، بل وأعاد في بعض الأحيان عملية التقدم للوراء.
يجب ألا ننسى في النهاية، عند التشدق الذي لانهاية له، بشأن التفوق الغربي، أن العلاقات الاجتماعية الإقطاعية – التي ثار ضدها التنوير- أُدخلت للعراق من قبل الاحتلال البريطاني بعد 1920 لتهيئة أساس اجتماعي للنظام. ويروي التاريخ الذي تلا هذا، تفاصيل شديدة الوحشية عنها. وقد دون هذا روبرت فيسك في كتابه «الحرب الكبرى من أجل الحضارة.
القضية هي أنه بعد أكثر من مائة عام من التدخل الإمبريالي، يمكن التساؤل: هل على العالم الإسلامي إعادة إنتاج تجربة الغرب، من عصر النهضة إلى إصلاح عصر التنوير؟
في عام 1959 كتب المفكر الأفغاني نعيم الدين بامات: على الإسلام اليوم القيام بعدة ثورات فوراً، ثورة دينية مثل تنوير القرن الثامن عشر، وثورة اقتصادية واجتماعية مثل ثورة أوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر..
لكن التاريخ لا يكرر نفسه على كل حال. ويجادل ليون تروتسكي الذي نظّر في الثورة الدائمة والتطور غير الثابت والمشترك، بأنه ليس من المفروض أن تتبع الثورات بعضها بعضاً، ولكن يمكن لها أن تتشابك وتضغط الوقت وتختصره. بالرغم من كل شيء، فقد كانت أوروبا المسيحية أقل تطوراً من الحضارة العربية أو الفارسية في القرن العاشر أو الحادي عشر بشكل لا يقارن. ولكن تخلفها الشديد هو الذي سمح بان تحتضن أعلى شكل من أشكال المجتمع الطبقي- الرأسمالية- وأن تدرك وتتجاوز الذين سبقوها في التطور، وأن تفرّقهم، وتحتلهم وتدمرهم أثناء ذلك.
عندما وصلت أفكار التنوير إلى جمهور العالم الإسلامي، لم تصل كإعادة مختصرة للنقاط الأساسية للتجربة الأوروبية للقرن السابع والثامن عشر، ولكنها وصلت في صيغتها الماركسية – الورثة المتطرفون لتلك التجربة. ولسوء الحظ فقد كانت الصيغ النظرية والمؤسساتية التي صاغت بها الماركسية تأثيرها هي الستالينية. وبالتالي فقد حملت منها ضمناً بذور الكارثة ـ والمشهد الأكثر دراماتيكية كان في العراق خلال الخمسينيات، وفي إيران خلال السبعينيات، وفي كل مكان آخر، ولكن بشكل أكثر خبثاً وغدراً على الأغلب. وبسبب السجل الكوارثي للستالينية، وبشكل أوسع للقومية اللادينية، تجد الشعوب التي جُرَّت إلى الاشتراكية ذات مرة، في الإسلام طريقاً بديلاً للحرية اليوم.
ما هو مستقبل الإسلام والتنوير اليوم إذاً؟ علينا تذكر تجربة الغرب. حدث عصر التنوير عندنا، عندما كانت المسيحية أقدم من الإسلام الآن، ولم تحدث فجأةً أبداً. ولم تصبح الشعوب «عقلانية» ببساطة، ولم تتخل عن رؤاها السابقة للحياة والمجتمع لمجرد أنهم استمعوا لكلمات اسبينوزا أو فولتير الحكيمة. لقد حدثت عبر الزمن وبسبب تجربة التغيير الاجتماعي والصراع، الأمر الذي جعل الناس أكثر انفتاحاً على الأفكار الجديدة التي بدأت بشرح العالم بطريقة لم يعتد الدين فعلها.
على علماء الاجتماع في الغرب اليوم أن يبدؤوا بالمضمون الفعلي للعرقية المؤسساتية والتدخلات العسكرية التي يواجه بها المسلمون كل يوم. الواجب الأول والمطلق على عاتق علماء الاجتماع هو أولاً الدفاع عن المسلمين، في كل من الغرب وفي العالم النامي ومن ثم تطوير اتحاد تاريخي في قلب حركة معاداة الحرب. أما أن نشترط عليهم، وعلى أي شعب من أي جهة عقائدية، لنتنازل ونقبل الحوار معهم أن يضعوا معتقداتهم جانباً (أو بمعنى أن يتخلوا عنها)، فإنه ليس تعجرفاً وغطرسةً فقط بل إنه يكشف عن أسوأ مظاهر التنوير.
“هذه هي الحقيقة، ونحن أمامها»، لماذا على المسلمين الاستماع إلى من يعتدون بأنفسهم إلى حد الغرور، لجعل الاتفاق معهم شرطاً أساسياً حتى لبدء محادثات؟
لا يمكن فرض التنوير عن طريق الأمر، وإلا أصبح الأمر كله في فوهة بندقية!!
وحدةُ العمل والهدف هي الشرط الأساسي الحقيقي للنقاش، حيث يمكن للنقاش أن يحدث بأمان عند معرفة أن المشاركين فيه، برغم كونهم أصحاب معتقدات مختلفة، إلا أنهم يتشاركون بأهداف تكون بمثابة نقطة الانطلاق. إنه أكبر من أن يكون مصادفة – وأشك في هذا- أن تكون تلك الأصوات الأكثر إصراراً على فكرة الحاجة إلى حدوث تنوير إسلامي هي نفسها الأصوات التي تصرخ بأعلى صوتها من أجل الحرب.
لن يتكرر التنوير الأول مرة أخرى، على أي حال، فقد يكون ما نراه هو أول بوادر تنوير جديد، ليس في تلك الأصوات بل في أعمال أولئك المسلمين، وغير المسلمين على السواء، الذين خرجوا إلى الشارع معارضين لتلك الحروب.
__________
*الاتحاد