*ماهر منصور
امتلكت شخصية “ميار قلعجي” في مسلسل “نص يوم” سرها الجاذب لاهتمام الجمهور، ثمة من تعاطف معه أو استفز من تصرفاته، هناك من غضب من حالة استسلامه حد السذاجة لمحتالة سارقة، وآخرون غضبوا من هذه الأخيرة كيف لا تكترث لكل هذا الحب، من المشاهدين من أشار إلى حالة الاستلاب الأعمى التي يعيشها هذا العاشق تحت نير حبه، ومن المشاهدين أيضاً من قال أنه عاشق من نسج الخيال.. وفي كل مرة كان الفنان تيم حسن يدير مفاتيح اللعبة بحس عالٍ وعميق بالدور، على نحو تبدو فيه كل ردود الأفعال السابقة تجاه الشخصية صحيحة، رغم تناقضها، فهو ببساطة يؤدي دوراً تمثيلاً لشخصية ليست متأكدة من نفسها ومما هي عليه، ومن الطبيعي ألا تحظى مثل هذه الشخصية بانطباع واحد من المشاهدين.
لا نعرف الكثير من تاريخ شخصية “ميار قلعجي” قبل عودته إلى بلده إثر موت والده الثري.. الانطباع الأساسي الذي يسيطر على من يتعرف على الشخصية وفق السيناريو المكتوب، هو أن الرجل يتحرك دائماً بدوافع آنية، تثيرها في الغالب مشاعره، وقلما يتحرك صوب هدف بعينه ولا يحيد عنه، فهو يأتي لبنان وفي نيته بيع أملاك والده والسفر مجدداً، لكنه في لحظة عشق يعدل عن كل ذلك، وهو يسعى وراء “ميسا” بدافع انتقام الزوج المخدوع، ولكنه في لحظة ينسى ويسامح ما أن يصير بين يديها، وهو يقتل ضابط الشرطة لمجرد شعوره بأنه سيحرمه من ميسا، ويعفو في المقابل عن مجرم قاتل (جابر) لرغبته بالوصول إليها. وفي كل مرة يبدو “ميار قلعجي” لنا متأكداً مما يريد، ونكتشف أنه يفعل عكس ما يريد، أو عكس ما توهمنا أنه يريد.
التصرف وليد الدافع…ولكن هذا الدافع الذي يحرك مياراً لا يتوافق مع تصرفه، تلك مشكلة الشخصية كما تفترضها حكاية “نص يوم” وتبرر بأن سببها العشق، وللعشق أحكامه التي تبدو أحياناً لا علاقة لها بالمنطق العقلي.
ولكن تعميم تلك الأحكام على مسار شخصية “ميار” كاملاً من شأنه أن يضعف موقف الشخصية، على نحو لا يبدو فيه دائماً أن هناك حسن توافق بين الدافع والشخصية… وهنا كانت تكمن عثرة النص، التي كان على تيم حسن أن يتجاوزها، وهو يفكك شخصيته ميار، ويقرأ أبعادها، تمهيداً لرسم “السيناريو التمثيلي” المناسب لها.
دارسو التمثيل، يتعاملون عادة مع شخصياتهم التمثيلية، بترتيب مخالف لما نراه على الشاشة أو نعيشه في الواقع، فتتابع الحدث كما يفترض ينطلق من دافع بعينه، يؤدي إلى تصرف إرادي أو لا إرادي، يأخذ شكلاً أو سلوكاً ما، إيجابياً كان أم سلبياً.
هذا الترتيب (دافع..فتصرف..فشكل) هو ما شاهدناه في تحولات شخصية ميار قلعجي في “نص يوم”، لكن الأمر لا يسير في السيناريو المكتوب على هذا النحو، ولاسيما مع وجود ضعف بموقف الشخصية في نص المسلسل، ربما لأن هذا الأخير بدا مشغولاً بالتوفيق بين مزيج النصوص المقتبسة، أكثر من اهتمامه ببناء محكم للشخصيات.
هنا يبرز دور الممثل الجيد، فما بين يديه عملياً في النص الدرامي هو آخر مرحلة فقط من تتابع الحدث أي (الشكل والسلوك)، و قد يبوح هذا النص بالتصرف والدافع وقد لا يفعل.
هذا التصرف يستنتج عادة من الحركات والكلمات، أما الدافع فهو الترتيب المنطقي الذي يجعل الشخصية تقرر أن تؤدي مثل هذا التصرف، مع العلم أنه ليس بالضرورة أن يكون هذا الترتيب المنطقي عقلانياً… ودور الممثل هنا، هو رسم سيناريو خاص بحركة الشخصية، وبكلامها، وبالأسلوب الدافع لتصرفاتها لتبدو مقنعةً…هذا ما فعله تيم حسن مع “ميار قلعجي” انطلاقاً من النص المكتوب، قبل أن ينفصل عن هذا الأخير، ويبني مقترحه الموازي.
يشتغل تيم حسن على التفاصيل في شخصية “ميار” بما يتناسب ومسار حكايته و الأسلوب الدافع المقنع لتصرفاته، ابتداء من طريقة حكي الشخصية فمشيتها وبنيتها الجسدية واستجاباتها المرئية وغير المرئية… على نحو يروي لنا من خلال ذلك كله جزءاً من تاريخ الشخصية، الذي أغفله النص، فترك فجوة بيننا وبين فهم سلوكها.
وعبر مقترحه التمثيلي هذا، سيقول لنا تيم أن هذه الشخصية التي اختار أن تمشي بترنح رغم توازنها، هي مترنحة من الداخل، إذ كيف لشاب وسيم وثري عاش عمره في أوروبا وشهد بلاشك تجارب حياتية عديدة، أن يسقط بغرام امرأة من اللحظة الأولىى تحت تأثير جمالها فقط، وعلى النحو الذي شاهدناه في المسلسل؟ هل يبدو قرار اطلاق الرصاص سهلاً على شاب بالصفات الاجتماعية والتعليمية التي يحملها ميار قلعجي لو لم يكن مترنحاً من الداخل، ويفتقد إلى التوازن…؟ انظروا إلى عينيه، والتوتر الظاهر في يديه وهو يقبض على المسدس ليقتل ضابط الشرطة لنفهم الأسلوب الدافع لمثل هذا التصرف، حتى في اللحظات التي تسرب إلينا إحساس بضعف الأداء في بعض مشاهد المسلسل، لم يكن ذلك الضعف في أداء تيم حسن، و إنما ضعف في أداء ميار قلعجي، فهذا الأخير يفعل كل ما لا يشبهه، ومن الطبيعي ألا يبدو مقنعاً أحياناً، ومتناقضاً أحياناً.
ميار الحقيقي، كما كانت تفترضه أحداث “نص يوم” في الحلقات الأولى، هو ذلك الذي سقط صريع الحزن و الفقد بسرعة إثر اكتشافه هروب ميسا واختفائها،على نحو شبيه بسقوطه السريع في العشق، أما ذلك الذي شاهدناه يلاحقها ويلاحق شريكها جابر بهذا الحس البوليسي الطارئ على الشخصية، فمن الصعب أن يجعله موقف الشخصية كما هو موجود في النص مقنعاً، لذلك كان لابد من أن يضع تيم حسن سيناريو موازٍ للشخصية، يوفر الدافع لتصرفات ميار ولتغير مشاعره و مزاجه، فكانت استجابة ميار الجسدية وتلويناته العاطفية، بوصفه رجلاً مهزوزاً وضعيف الشخصية، الوسيلة المناسبة للتعبير عن تصرفاته، فنجد الحب يختبأ خلف الكره، والنقمة تختلط بالرضا، الغضب يختلط بالبرود، واللين تعلوه القسوة.. وتركيب كل هذه الأشياء يسهم بدرجة كبيرة في خلق التوافق بين دافع الشخصية وتصرفاتها…فميار في واقع الأمر، وكما مهدت له الحلقات الأولى، غير قادر على اتخاذ قرار، حتى لو بدا أنه يتخذها في الحلقات التالية.
على هذا النحو يمضي ميار مسلوب الإرادة، مدفوعاً بردود الأفعال صوب ما لا يشبهه في “نص يوم”، أما تيم حسن فيمضي بالشخصية على الطريق ذاته، ولكن بوعي مخطط، فكل ما يفعله هو نتيجة قرار عقلاني، وتصرفاته في العمل هي تصرفات ميار نفسه، ولكنها مع تيم تسعى نحو هدف محدد، فتحقق الانسياب الدرامي، لذلك كانت مشاعر المشاهدين متناقضة تجاه ميار قلعجي، ولكنهم لم يجتمعوا كلهم على تناقض مشاعره.
__________
*موقع الكاتب الشخصي