*إبراهيم نصر الله
لن أبالغ أبدًا إذا ما قلت: إن هناك أدباء حسدوا أو ما زالوا يحسدون غسان كنفاني، في حياته الممتدة هذه رغم الموت؛ وحين أقول كتّاباً، أقصد بعض أهمّ الكتّاب. والحسد هنا ليس بسبب إنجازاته وحسب، وهذه غيرة أدبية، تبدو مفهومة في عالم الأدب ومجالات كثيرة أخرى، بل يحسدونه على استشهاده، وهم يتأملون أنفسهم، باطمئنان حياتهم، وفائض مكاسبهم، وحتى كسلهم الإبداعي، وهم يمضون إلى الموت على فراشهم، كما لم يرتقِ حصان كغسان.
هناك اليوم، وأمس، من يستكثرون عليه ذلك كله، بحيث يستطيع أحد من هؤلاء أن يطرح رأياً نقدياً، يمكننا بالطبع أن نفهمه، لأن كل نص كُتب، هو حقل دائم للنقاش، وكما يصيب النص ويخطئ، يصيب النقد المكتوب حوله ويخطئ أيضاً، إذ لا يمكن أن نقبل بصوابية النقد المطلقة، لأننا هنا سنمدح طغاة من نوع آخر، مقابل الشك أو إعادة النظر، والمسلَّم بهما، تجاه النص الذي يبدو واحداً من الشعب؛ كما لو أن النص فانٍ والنقد هو الخالد.
أكثر ما يدهش في حياتنا الأدبية، هو القبول بالمسلَّمات، أي القبول بالجاهز، والذي قد يصدر في مرحلة ما عن قول حكيم واع، لكن جريان الزمن يوجد حقائق جديدة كثيرة، فكتاب كانوا يحتلون الواجهات كلها، وتتساقط الجوائز عند أقدامهم، بطريقة لا يفهمها أحد، يتراجعون، ويحتلهم الظلّ؛ وكتابٌ يُهمَلون، يعودون من طبقات الظلال، ليكونوا جزءًا من شمس العالم؛ وكتّاب، مثل غسان، يولدون مضيئين ويواصلون إشعاعهم بدون توقف.
لا شك أن النقد، حين يصدر عن معرفة حقيقية، يبقى جزءًا أساساً من فهم مسار الأدب وطبقاته، لكن القارئ الذي يتغير في كل عقد من الزمان، تقريباً، وتتغير حساسياته، واهتماماته، وهو المتعدد المستويات، يبقى مقياساً عميقاً في مسألة جدوى الأدب وقوة حياة هذا النص أو ذاك، فالذين يقرأون شكسبير أو المتنبي أو إدوارد سعيد، أو غسان، ويستمر الأدب بهم، ليسوا مائة أو ألف ناقد أو عشرة آلاف ناقد في هذا العالم، بل هم الملايين الذين قد لا يقرأون الكتب النقدية التي تُكتب عن هؤلاء بين حين وحين؛ فكتاب من خمسمائة صفحة، أو ألف، لن يجعلك تحب هذه الرواية أو تلك القصيدة، إن لم تحبها فعلاً.
أما الغريب في الأمر – وهذه خصلة نقدية عربية، تحرّر منها القراء العرب، إلى حد بعيد، لحسن الحظ – فهو أن هؤلاء الذين يشككون في كاتب كغسان، أو يؤكدون ريادته، أي من ينحازون إلى أرضيته، أو خلوده، يغلقون المستقبل أيضاً، لا في وجه غسان وحده، بل في وجه كل جديد قد يولد، وبالتالي، ستكتشف أن من هم مع المستقبل، ضد المستقبل، ومن هم مع الحاضر، ضد المستقبل والماضي أيضاً.
لا أعرف إن كانت هناك مساحات في ثقافات العالم، كالمساحة التي في ثقافتنا، حول البحث عن كل حجة، بل اختراعها، لقتل الرموز الذين استقروا في ضمائرنا، أو قتل احتمالية وجود رموز جديدة تولد، وتنمو، وتتجاور، كما لو أن هذه المساحة التي تقتل الإبداع والمبدعين، هي نفسها المساحة التي ترجم، في مجال السياسة، زعماء لا شك في وطنيتهم، أو تصنّم آخرين، وهكذا كلما ألمت مصيبة بنا راحوا يبكون القائد العظيم الذي مات، وشبع موتاً، وهم يقبّلون تراب قبره ويرجونه أن يعود وينقذنا مما نحن فيه، في زمن يكون الشعب بأكمله هو ذلك القائد، ولكنهم لا يرون!
كتابة هذا المقال، في ذكرى استشهاد غسان كنفاني، ليست تحية له وحسب، بل محاولة أيضاً للقول إن غسان كنفاني، ليس كتبه فقط، وليست رؤاه العبقرية، التي تحدث عنها الناقد الدكتور محمد عبد القادر في واحد من أهم الكتب التي كتبت عنه : (غسان كنفاني.. جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية) والذي صدر قبل عام عن الدار العربية للعلوم، بيروت، وتناول فيه شخصية غسان وأدبه من زاوية جديدة، هي زاوية علم النفس والدراسات التي كُرِّست لمفهوم العبقرية. غسان كنفاني ليس إرثه الأدبي وحسب، وهو إرث أثبت قدرته على الحياة، وهو ككل إرث عظيم سيولد منه جديد، يقف إلى جانبه ويسير معه، ولا نقول يتجاوزه، لأن كل النصوص الكبيرة، تسير جنباً إلى جنب، في الروح البشرية، وإن فضل قارئ ما نصاً، لم يضعه قارئ آخر في المكانة نفسها التي وضعها القارئ الأول في روحه. إرث غسان كنفاني ليس إرثاً للأدباء وحدهم، بعده، أو من كانوا جايلوه، أو ظهروا بعده، بأن يكتبوا نصوصاً راقية مثله، لأن إرثه ليس هو الأدب وحده، بل إرثه القيم الكبرى التي رسّخها، ككاتب في حياته، بعيداً عن الكسل ومديح الكسل، حين أنجز كل ما أنجزه في فترة قصيرة، كما لو أنه يقول لنا: الحياة ليست قصيرة، الحياة أطول مما تعتقدون، الحياة القصيرة هي تلك الحياة الخالية من الإنجاز، وعمر الإنسان الحقيقي، لا يقاس بعدد السنوات التي عاشها. إرث غسان لكل أولئك الذين يحسّون بأن قيم غسان هي رسالة لكل إنسان، ولكل تنظيم، في زمن تجرّ فيه فلسطين إلى الحضيض برخاوة تنظيمات سياسية، وبميوعة أخرى، وباطمئنان أخرى إلى تاريخها الناصع، أو إلى تفوقها على تنظيمات أخرى بعدد الشهداء، أو بتلك التي تريد أن تنقل الصراع على فلسطين من الأرض إلى السماء، فتحتكر الاثنتين، أو أولئك الذين ينصّبون أنفسهم نخباً، ولا وجود لها خارج حلقات الشللية والمديح الكاذب.
عبقرية غسان، في قدرته على رؤية الجوهري، بجرأته على اقتلاع السطوح الواهية؛ وإذا كان غسان قد جوبه بنقد شديد، في حينه، عندما كتب عن شعراء المقاومة، درويش والقاسم وزيّاد، باعتباره يمتدح شعراء يستظلون بخيمة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، راكاح، لأنهم أعضاء فيه، فإن رعونة ذلك الهجوم، كان يمكن أن تُحدث ارتدادات كارثية في عمق الثقافة الفلسطينية، لو تم محو هؤلاء الثلاثة، وسواهم، وتكريس ذلك النوع من (النضال العربي)، الذي لم يزل مستمراً بوجوه أخرى، لمحاربتهم؛ لكنه رأى الجوهر وذهب إليه، غير هيّاب، وربما هو هذا ما نحتاجه اليوم تماماً، بعيداً عن معارك المحو، محو ما هو رائع من الماضي، ومحو ما يتشكل في الحاضر، ومحو ما سيولد، حتماً، في المستقبل، رغم تسونامي الوطنيات الزائفة!
وبعد:
لأنكَ كنتَ قريباً من الحزنِ أكثَر منّا اشتعلتْ
وكانتْ طيورُ الشواطئ تهبطُ
في راحتيكَ خطوطاً ولوناً
بكينا جميعاً.. وأنتَ ابتسمتْ
أيا سيِّد الفرحِ المتورِّدِ ناراً على جبهةِ البحرِ
لا تبتعدْ
حملناكَ ورداً ولما احترقتَ
حملناكَ سيفاً وسرنا معكْ
___
*القدس العربي