لينا أبو بكر *
من أين يأتي الغدر؟
من اللؤم، فالغدر صفة تلازم اللئيم، وتدل عليه.
ليس اغتيال الشهيد هو أقسى الغدر وأقذره، فأنت تتوقع من عدوك أن يغدرك، كنتيجة طبيعية للعداوة، حتى رسالة الموت التي تركها الموساد لغسان في موقع الانفجار كانت إمضاء فائضا عن حاجة الموت، طالما أن كنفاني لم يكن بحاجة لقراءتها، ولم يكن ينتظرها!
من أين يأتي الغدر إذن ؟
من الرسائل التي انتظرها غسان ولم تجئ!
وهذا لؤم مؤلم، لا يفوقه إيلاما سوى إهدار كرامة الشهيد بنشر رسائله الخاصة على الملأ، بعد مضي أكثر من موت، بحجة تخليد الشهيد وحمايته من وباء الزمن وذاكرة النسيان!!!! فهل كان الشهيد ليحتاج إلى ذله كي يخلده! أما ما يثير الضحك من هذا اللؤم فهو ادعاء الطيبة!
كثير من المثقفين الذين نراهم اليوم يهتفون للشهيد بعد رحيله كانوا يلوكون سيرته في مقاهي النميمة، ويصفونه بدودة العلق، والمتذلل الذي يلعق حذاء صاحبة الكعب العالي!
قلب غسان أهانه كثيرا، وكان مستعدا لتقديم كل التنازلات الممكنة من أجل الاحتفاظ بالمرأة التي أحب، أو ظن أنه أحب، لأنه كان يبحث بالدرجة الأولى عن وطن بديل، وقد أخطأ البوصلة، لما ظن المرأة المنفى وطنا، كما أراد لها أن تكون!
ما نريده هو ما نسعى لتوهم أنه حقيقي، ونتعامل معه على اعتباره حقيقيا ونحن منغمسون بوهمنا!
في قرارة أنفسنا ندرك وهمنا، ونتمسك به، لأننا لا نريد أن نخسر الوهم على اعتباره حسن ظن بالحقيقة، وقد خسرنا الكثير من الحقائق عندما أسأنا الظن بالوهم .
ارتباطنا بالوهم، ارتباط الغريق الذي يتمسك بقشة، ليس كبارقة أمل أبدا، فالوهم يؤدي دائما إلى الخيبة وهو دليل عليها، ولكن من قبيل التشبث بأكثر الخسارات أمنا، طالما أنها – كما نظن – تعوضنا عن أشد الخسارات خطورة ..
غسان لم يكن عاشقا لكرة القطن المشتعلة، ولو كان كذلك لترك بيروت ولحقها إلى لندن، لكن افتقاده للشرط الأمني للحقيقة، جعله يضحي بالوهم راضيا مرضيا ومستسلما لغيابه .
هناك فرق بين أن يضحي الشهيد من أجل حقيقة يؤمن بحتميتها، في حين أنه يرفض تقديم التضحيات في سبيل وهم يدرك في قرارة نفسه أنه لا يستحقها طالما أنه ليس حتميا .
كنفاني اختار الحقيقة : ” قلمه وأسرته ” وطنه الحقيقي، وانجرف مع الوهم : ” كرة القطن ” التي عجزت حتى أن تكون وطنا بديلا .
ولكنه كا يربي وهمه، هو المريض، الذابل، الواهم، المناضل، الحقيقي .
بالمقابل، أنت ترى امرأة وهمه تتسلى بالوهم، وتعذبه، لأنها تدرك تماما وهميته، فتستغله مرتين :
المرة الأولى : بإهمال رسائل الشهيد في حياته … لإرضاء نوازع نرجسية تذكي نميمة متسكعي شارع الحمراء ….وصعاليك الصحافة .
كتب الشهيد في رسالته لشقيقته فايزة، يصف مدى الإذلال الذي يلاقيه معبرا عن ندمه : ” ما الذي يذكر هذه الإنسانة بي سوى الذل ” ؟
لا بل إنه يقسو في لهجة خطابه في إحدى الرسائل، ويكشف حقيقة من توهم أنه أحبها، و اتهمها بالأنانية والاستغلال والجبن، وكان شجاعا أمام وهمه :
يقول الشهيد : ” تبادلنا خطأ الجبن، أما أنا فكنت جبانا في سبيل غيري، لم أكن أريد أن أطوح بالفضاء بطفلين وامرأة لم يسيئوا لي قط، مثلما طوح بي العالم القاسي قبل عشرين عاما، أما أنت فقد كان يهمك نفسك فقط، كنت خائفة على مصيرك، وكنت خائفا على مصير غيري ..وقد أدى الارتطام إلى الفجيعة، لا هي علاقة ولا هي بتر ..”
شجاعة غسان في مواجهة وهمه هي شجاعة المناضل أمام الحقيقة، فقد مل من استغلال عواطفه، وقرر مواجهة جبنه أولا، وكشف نوايا صاحبة الكعب العالي، التي لا تريد أن تبتر ولا تريد أن تتواصل، وهو تعذيب مضاعف يشي بسلوكيات نفسية غريبة تتلذذ بالإذلال ….
المرة الثانية : فضح رسائل الشهيد بعد رحيله …لتبرير إذلال الشهيد في حياته بحجة الحفاظ على بيته وعائلته، وما نشر الرسائل سوى نقض للذريعة لأن بها ما يهين الشهيد ويجرح كرامة أهله وعائلته وزوجته على وجه الخصوص – حتى بعد موته، ثم التذرع بتوسل الأمانة وتنفيذ الوصية، ونشر الرسائل الأدبية ومحاربة الرياء الاجتماعي وكسر التابوهات، وسأبدأ بكل واحدة على حدة :
1- نشر الإهانة ينقض الأمانة في الحرص على تنفيذ الوصية، هذا إن كانت هناك وصية!
لا يمكن أن يضع مثقف كبير إهانته أمانة بين يدي من أهانته لتنشرها على الملأ، فهذا يناقض الوعي الوطني، والثقافي، والأخلاقي، وإن حصل فعلا فإن المرء يمر بنزوات تدفعه لاتخاذ قرارات متهورة، تحرض من يحرصون على الشهيد – كما يقضي الادعاء – أن يضعوا أنانيتهم جانبا، ويراعوا حجم الخيبات التي مر بها كنفاني على كل الصعد ودفعته للقهرية اتجاه نفسه …فعندما يغتاظ الإنسان من وهمه يستسلم إليه ,, وهذا عارض إنساني طبيعي يستوجب إعانة الشهيد على مقاومته لا الرضوخ إليه .
2- الرسائل ليست أدبية على الإطلاق، وحجة الأمانة الأدبية تبطلها الخصوصية المطلقة وافتقارها إلى مقومات الرسالة الأدبية، وإن عدت لرسائل مي زيادة وجبران على ما فيها من جوانب خصوصية، تجد وازعا فكريا يكلل الخصوصية بالطابع الأدبي، وهو ما نلمحه في رسائل عيد الميلاد لتيد هيوز التي كتبها لبلاث بعد انتحارها بثلاثين عاما ….بعد أن غدت قصتهما الشغل الشاغل للمنظمات الإنسانية والقضاء ومنظمات المرأة، والصحف والشارع، وظل الشاعر صامتا، فلما تحدث تحدث شعرا بحتا في سياق إبداعي مبهر وثري يغني التوثيق والأرشيف الأدبي ويعد مرجعا للأجيال والثقافات، ووسام شرف للرسائل الأدبية .
3- أما أن النشر جاء للتصدي للرياء الاجتماعي، فإن تصديه كان ارتكابا له، بأفظع منه، لأنها النرجسية المضاعفة التي سعت لاستعراض عضلات الأنوثة التي جعلت من بطل ومناضل قومي مجرد مهووس، وهو ما اعترفت به صاحبة الكعب العالي في مقدمتها التبريرية للنشر، تحت مسمى الفخر، فأي فخر بإذلال الشهيد!
4- أما النقطة الأخيرة فتتعلق بكسر التابوهات التي كلما دق الكوز بالجرة، رأيت إحداهن تتذرع بجرأتها وسعيها لتحرير المجتمع من شوائب الأعراف والمحرمات، بما يشبه نوبات زيف مشوهة، تسيء إلى الأنوثة وتمتهنها، تماما كما يبدو عليه الأمر مع الصرعات الحديثة التي تنادي بها مجموعة المهلوسات اللواتي يتعرين في تظاهرا ت حاشدة على الملأ ليطالبن بحقوقهن أو يمارسن الاحتجاج بالعري …!
عزيزي التابو، عزيزتي الجرأة، إن الحرية هنا هي الضحية، فمن يمارسن هذا التعري الفاضح باسم الحرية هن نفسهن من يحاربنها لما تكون غيرتهن من غيرهن هي المحرض عليها .. الغيرة هي التي تكشف الوجه الحقيقي لهذا النوع من المثقفات كونهن ” نسوان ” كثيرا ما يخضن حرب الحارات بكيدهن لا بوعيهن .. ولو اضطررت سأكشف ما يدور في كواليس التحريض الصحافي على زميلاتهن ….
لابد إذن أن نغفر لغسان وهمه، فالصواب في الجنون هو ما نرتكبه من أخطاء نستطيع أن نبرهن بها عليه ..لن يكون الجنون هنا خطيئة ولا إثما طالما أن فقدان الوعي يشفع له حتى عند خالقه، ويحشد المجانين بعد النشور في جنة الصالحين ، وتلك قوة الجنون .
تبقى الكوابيس هي النعمة التي نصدق بها حقيقة الجحيم مثلما يرى بورخيس في منام كنفاني .
ومن العيب أن نصيب حين يكون الخطأ متاحا لوعي يتوسل الجنون خلاصا ..ألم نتفق أن الصواب هو الجنون!
كان بورخيس ليستدل على وجهه حتى لو لم يره، فهو يعرف ذاته، ويحس بملامحه، ويدرك تماما أن الظهيرة القارسة هي الميقات الحقيقي للتعرف إلى ما يعرفه .
علاقة الأعمى بالزمن علاقة مرئية، وعلاقته بحياته علاقة غيبية، فالحياة ليست زمنا عند المبدع إنما هي مجاز يتحقق فقط بالمخيلة ..ابنة الوهم!
بين بورخيس وغسان خط افتراضي يقسم مدار اللغة إلى نصفين : المخيلة التي لا ترى ولكنها تحلم، والحلم الذي يرى ولكنه لا يتخيل .
في هذه الحالة ( يكون الحب هو انتصار الخيال على العقل )، والخيال هو الخط البياني للجنون … في لحظة حاسمة لن يكون الحب أعمى إذن، إنما مخيلة تتفوق على الحقيقة المشوهة وتجملها .
وعلينا أن نغفر لغسان وقد أخطأ قلبه، فهذا لا يعيبه ولا ينتقص من مقدار قلمه، ونضاله، وما اعترافنا بخطأ قلبه إلا تكريم لحقه كإنسان بالخطأ …
يبقى أن أرفع كوفية القلم لزوجته وعائلته الذين رفضوا عرض صاحبة الرسائل عليهم بأن يخصص ريع الكتاب لمؤسسة غسان كنفاني، فلا يمكن أن تكون المتاجرة بإهانة الشهيد جزءا من رعاية الأمانة!
* شاعرة من فلسطين تعيش في لندن
– رأي اليوم