هل باتت العربية لغة ثانية عند العرب



تونس – انضاف إلى المكتبة اللسانية العربية إصدار جديد عنوانه “اللسانيّات في دوحة العربية” للباحث توفيق قريرة، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية. ويأتي هذا الكتاب كإثبات على أنّ اللسانيّات بمختلف نظريّاتها والمفاهيم المنبثقة عنها والمناهج التي اعتمدتها في استقراء الظاهرة اللغويّة في جميع مستوياتها، يمكن أن توفّر سندا معرفيّا ومنهجيّا في بناء قراءة جديدة للتراث النحوي وللكثير من قضايا اللغة وتدريسها باعتبارها لغة ثانية.
ويضمّ الكتاب، الصادر عن الدار التونسية للكتاب، أربعة أبواب كلّ باب منها يتفرّع إلى فصول. وفي الباب الأوّل وعنوانه ممهّدات، عرض المؤلّف بعض المفاهيم الأساسية اللسانية والنحوية مثل الإعراب الذي توسم به العربية، ولأجله تصنف عالميا ضمن اللغات الإعرابية، وقد ساق المؤلف بعض الأطروحات التي اعتبرها مضلّلة في دراسة الإعراب من بينها أنّه شيء طارئ على اللغة، وأنّه من الممكن التخلّص منه تيسيرا للعربيّة وتخفيفا على متعلمها.
ومن الأفكار التي طرحها قريرة في هذا الفصل أيضا الجهل بأنّ الإعراب مستويان: مستوى أصغر ويمكن أن يلاحظ على سطح الكلام، ومستوى أكبر يتحكم في هندسة الجملة العربية. غير أنّ ما يشدّ الانتباه في هذا الفصل التمهيدي هو حديث المؤلّف عن “البراديغمات الكبرى في تاريخ التفكير اللساني الحديث والمعاصر”، ففي هذا الفصل هناك استعادة لفكرة لا يعرفها جمهور من الدارسين العرب كثيرا وهي فكرة “البراديغمات” التي حلّل بها توماس كوهن مؤرّخ العلوم تطوّر الحركة العلميّة ونفى أن تكون العلوم تراكمية كما يُعتقد، بل أكد أنّ الثورات هي التي تسيّرها.
كما اهتمّ المؤلّف في الباب الثاني بعنوان “مورفولوجيّات عربيّة” ببنية الكلمة، بما أنّ مصطلح مورفولوجيّا يعني الفنّ الذي يدرس هذا المستوى بالتركيز على تحوّلاته الصيغية والشكلية وهو عادة ما يقع التطرق إليه في النحو القديم تحت باب الاشتقاق والتصريف. وقد نظر قريرة إلى بنية الكلمة العربية بالاعتماد على بعض المفاهيم اللسانية غير الرائجة في المباحث العربية التقليدية من نوع الأسمنة ويعني بها اشتقاق الأسماء من الأفعال.
وتطرق اللساني في باب “اللسانيّات والإعراب” إلى نظرية الإعراب العربية من جهات مختلفة هي علاقتها بالمجاور الثقافي الذي ترعرعت فيه، ويعرض ركنا عدّه مهمّا في تفسير النظريّة سماه “جهة الإعراب”، وبيّن في قسم ثالث أنّ الإعراب والدلالة مترابطان في تفكير النحاة ومثّل ذلك بمفهوم نحويّ كوفيّ منْسيّ هو “التقريب”. وختم الفصل باعتماد نظريّة في اللسانيّات النفسيّة تعرف بنظريّة “المدخل المعجميّ إلى إنتاج الكلام” فسّر بها ظاهرة اللحن والخطأ اللغويّين وعاد إلى خطأ تاريخيّ يعتبره بعض المؤرّخين سببا قريبا في نشأة النحو هو خطأ بنت أبي الأسود الدؤلي حين خلطت بين التعجّب والاستفهام في قولها (ما أشدّ الحرّ) وبيّن المؤلّف بشيء من الضبط كيف أنّ هذا الخطأ الذي يساق على أنّه عفويّ حمّال إشكالات لفنّ النّحو بأكمله وللغة بأسرها هي العربية، فلا يُعرف هل كانت تتكلّم بالسليقة (ولا خطأ في لغة تتكلم بالسليقة) أم بالتعلّم والدُربة (الخطأ فيها ممكن).
وتناول الدارس في الباب الرابع وعنوانه “آفاق لسانيّة في تجويد الدراسات العربيّة” بعض المفاهيم اللسانية وطبقها في مجالين مختلفين هما دراسة الخطاب القرآني وتعليمية العربية. ولدراسة الخطاب القرآني اعتمد الباحث مفهوم الذاكرة المعتمد في اللسانيات النفسيّة والعرفانية، فالذاكرة هي على ما جاء في الكتاب “قدرة بشرية أو آليّة لترميز المعلومات وتخزينها في الذهن وهي تستعمل في التجارب الإدراكية كالتجربة التلفّظية”، والذاكرة هي في علم النفس العرفاني “حالات ذهنية تجلب المعلومة”.
ومن المفاهيم الأساسيّة التي اعتمدها الباحث هو مفهوم المسترسل العرفانيّ الذي يأتي لتعويض فكرة العلاقات الثنائية التقليدية بين الأشياء تلك التي تبنى على تقابل الأضداد وترى أنّ الليل والنّهار مثلا كيانان منفصلان متقابلان، لكن فكرة المسترسل في اللسانيّات ترى أنّ بين مستويات اللغة ما بين طيف الألوان من الاسترسال، فلا يوجد نحو مستقل عن المعجم ولا اشتقاق مستقل عن التصريف بل كلها مسترسلة. فكرة المسترسل يمكن تطبيقها في تدريس اللغات الأجنبية بافتراض أنّ هناك نوعا من الاسترسال بين اللغة الأمّ واللغة الأجنبية وليسا في تقابل ثنائي.
لقد سعى توفيق قريرة إلى أنْ يستثمر بعض المعارف في دراسة العربية في مستوى بنية الكلمة وفي العلاقات الإعرابية وحتى في الخطاب وتعليميّة اللغة واختار أن يكون في ركن لا يهاجم فيه مكتسبات اللسانيّات الحديثة ولا يتهم فيه النحو العربي بالعسر والشدة على المتعلّمين، وهذا موقف علميّ بدلا من أن يكون موقفا منحازا معه أو عليه.
________
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *