مدخل إلى سلافوي جيجيك


*أسامة فاروق


رغم تصنيفه ضمن أهم مئة مفكر عالمي في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، ورغم قيامه ببطولة دستة من الأفلام الوثائقية المهمة، وتأليفه أكثر من 60 كتاباً في موضوعات متنوعة منها: الرأسمالية، الأيديولوجيا، والأصولية، والعنصرية، والتسامح، والتعددية الثقافية، وحقوق الإنسان، والبيئة، والعولمة، وحرب العراق، الثورة، الطوباوية، الشمولية، ما بعد الحداثة، ثقافة البوب والأوبرا والسينما، واللاهوت السياسي، والدين.. ورغم حضوره الإعلامي الكبير، لم يٌعرف سلافوي جيجيك على نطاق واسع في العالم العربي إلا بعد تعليقه على أحداث “الربيع العربي” وتأليفه لكتاب حول القضية. ومع ذلك، لا يتجاوز مجموع كتبه المترجمة للعربية أصابع اليد الواحدة! لهذا يعتبر الكتاب الذي يحمل اسمه وألّفه كريستوفر كول، وصدرت ترجمته العربية مؤخراً، مدخلاً مهماً لفهم أفكار هذا الفيلسوف المثير للجدل قبل قراءة أعماله.
الملفت في الكتاب ليس فقط الشرح المفصل والمبسط لأعقد أفكار جيجيك، ولكن طريقة العرض نفسها، حيث حولت رسومات الفنان “بييرو” الكتاب لقصة مصورة طويلة بطلها هو جيجيك نفسه. يشّرح الكتاب تحليلات جيجيك الدقيقة للأزمات العالمية في مجالات البيئة وتزايد الفقر والاضطرابات المدنية والثورات، ويغطى مواضيع الفلسفة والأخلاق والسياسة والإيديولوجيا، الدين والفن، وصولاً إلى الأدب والسينما وتسويق الشركات وفيزياء الكم والواقع الافتراضي، من أفلام هوليوود للروايات الشعبية الشهيرة، وأعمال الأدب الرفيع، من هيغل وماركس وكانط، إلى كافكا، وستيفن كينغ.
يتتبع الكتاب مسيرة جيجيك منذ مولده العام 1949 في لوبليانا في سلوفينيا، حين كانت تلك العاصمة المتواضعة في جبال الألب جزءاً من يوغوسلافيا الشيوعية. خلال فترة دراسته الجامعية في جامعة لوبليانا، لم يؤيد جيجيك أفكار الشيوعية التقليدية، واندفع نحو نزاع مع السلطات، دفع ثمنه في ما بعد. ولعدم رغبته في الالتزام بدورات التدريس الرسمية، انغمس في أعمال جاك لاكان، وجاك دريدا، وفلاسفة آخرين غالبيتهم فرنسيون، والذين لم تكن كتاباتهم مستساغة ضمن الدوائر الاشتراكية.
صار مشروع جيجيك الفلسفي النهائي، مصالحة التحليل النفسي مع السياسة الجماعية العامة. وحصل على درجة جامعية في الفلسفة وعلم الاجتماع العام 1971، وتابع الدراسة بعدها للحصول على درجة ماجستير، لكنه كتب أطروحته عن الفلاسفة الفرنسيين الذين كان يدرس آراءهم، وأثار بحثه ذاك اهتماماً ضمن قسم الفلسفة في الجامعة غير أن اتجاهات أولئك الفلاسفة “المشتبه بها أيديولوجيا” كانت مثيرة للمتاعب.
وُعد جيجيك بعمل في الجامعة، لكن الوظيفة أعطيت لمرشح آخر كانت أفكاره أقرب لخط الحزب، ولعدة سنوات اعتمد على عمله كمترجم لكنه استسلم في النهاية للضغوط وانضم للحزب الشيوعي. فتح له ذلك الطريق للعمل في كتابة الخطابات الحكومية، إضافة إلى فرصة العمل كباحث في قسم علم الاجتماع والفلسفة في جامعة لوبليانا العام 1979، وحافظ على تلك الوظيفة لعقود لاحقة، حتى بعد حصوله على شهرة عالمية.
أصبح جيجيك في السبعينيات من القرن العشرين جزءاً من مجموعة مهمة من الباحثين العاملين على نظريات المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، فأسسوا معاً جمعية “نظرية التحليل النفسي”. وحين غادر جيجيك بلاده إلى باريس العام 1981، تعمّق في دراسة أعمال لاكان.
خلال ثمانينيات القرن العشرين، أصبح جيجيك ناشطاً سياسياً، وهى الفترة التي أخذت فيها الحكومة المركزية الشيوعية في يوغوسلافيا تفقد سيطرتها على الحياة الثقافية للبلاد. اشتهر أثناء ذلك بكتابة زاوية في جريدة، وفى العام 1990 حين كانت سلوفينيا على وشك الاستقلال من يوغوسلافيا رشح نفسه لمنصب رئيس سلوفينيا “خسرت المنصب بفارق ضئيل وكنت مرشحا عن حزب ديموقراطية ليبرالية لسلوفينيا”.
في ذلك الحين تفتحت إمكاناته الإبداعية، وأصدر كتابة الأول الذي نشر بالانكليزية “الموضوع الرفيع للأيديولوجيا”. مع ازدياد شهرته، زادت عروض العمل المقدمة له كمدرّس في الولايات المتحدة، لكنه رفض كل تلك العروض، وقَبِل عروض باحث زائر، ليقضى الوقت مسافراً من مركز أكاديمي إلى آخر. يرسمه “بييرو” جالساً، محتضناً أوراقه على جناح طائرة ويقول: “حين يسألني الناس لماذا لا أدرّس بشكل دائم في الولايات المتحدة، أجيبهم بأن الجامعات الأميركية لديها هذه الفكرة الغريبة الشاذة بأنه يجب أن تعمل مقابل راتبك! أفضّل أن أفعل العكس، وأن لا أعمل مقابل راتبي!”.
تهتم كتابات جيجيك بالسياسة بشكل رئيس، لكنه غالباً ما يستكشف هذه القضية من خلال مجموعة واسعة من المواضيع والاهتمامات المتعلقة بها. مثلاً، يعتبر قضية البيئة، واحدة من أهم قضايا النضال السياسي حالياً. يعود هذا، كما يفسر المؤلف، إلى الأزمة البيئية العالمية المتنامية، ولأن أنظمة الأمم الكبرى تبدو غير مهتمة بإيقاف هذه الأزمة. بمواجهة هذا، يضع جيجيك خطوطاً عريضة لمقاربة جذرية لعلاج هذه القضية “بداية نحتاج لأسلوب تفكير جديد تماماً، بدلاً من أفكارنا الحالية حول الطبيعة”. يتفق جيجيك مع الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في اعتقاده أن المواقف المسيطرة حاليا حول البيئة هى مواقف محافظة جدا، تستخدم الفكرة الساذجة الأقرب للروحانية حول الطبيعة بشكل مضلل. يحوّر جيجيك فكرة ماركس الشهيرة معلناً: “بدلاً من الدين، البيئة هي أفيون الشعوب الجديد”.
يرى جيجيك أن الأيديولوجيات المسيحية والرومانسية لا تزال تحكم الكثير من الأفكار حول الطبيعة، خصوصا بين الفئات الليبرالية التي تهتم بالبيئة. يتدخل المؤلف هنا ليوضح أنه في تلك الأيديولوجيات ينظر للطبيعة باعتبارها منسجمة وخيرة، وتظهر الأرض باعتبارها “الطبيعة الأم” التي ترعانا وتغذينا وتعاملنا بلطف. أما حالياً، فيبدو أن “التوازن الطبيعي” للوجود الحيوي للأرض قد تضرر بشدّة، بالقمامة السامة وارتفاع الحرارة في العالم، ويقول جيجيك: “رد الفعل الليبرالي التقليدي حول هذا الإضرار بالبيئة يقول: بسوء استخدامنا للمصادر الطبيعية فإننا نستدين من المستقبل ولذلك علينا أن نتعامل مع كرتنا الأرضية باحترام، باعتبارها شيئاً مقدساً دائماً، لا يجب أن يتم الكشف عنه، بل يبقى سراً للأبد”. ثم يعود ليفند هذه المقاربة فيقول إنها تشبه الطريقة ذاتها التي تضع فيها الديانات نفسها كسلطة غير قابلة للنقاش من خلال فرض حدود لما يمكن أن نفهمه عن أنفسنا.
وفى مواجهة الأفكار الليبرالية نفسها، يشير المؤلف إلى اعتقاد جيجيك بأن الطبيعة تكونت في الحقيقة عبر كميات كبيرة من التدمير، حيث يعتقد جيجيك أن نظرية التطور التي اقترحها تشارلز داروين كانت خاطئة “اعتقد داروين أن التصاميم العديدة للطبيعة هى قابلة بشكل مثالي لأن تكون ما صارت إليه: تمكن الحيوانات من البصر، ومن الحصول على الغذاء والاستفادة من الشمس. لا! الطبيعة تبدل وتعدل بكوارث كبيرة مع كل نجاح ضئيل”.
لشرح هذه الفكرة يشير جيجيك إلى أن النفط الذي نعتمد عليه الآن تشكل من كارثة طبيعية سابقة لا يمكن تخيل أبعادها، الدرس الذى يستنتجه كول من أفكار جيجيك حول هذه النقطة أن علينا أن ننكر تماما كل الأفكار العاطفية حول الكون “البشرية لا تملك – ولم تملك أبدا – أساسا أو توازنا طبيعيا كي تعود إليه. وجودنا بالنسبة لجيجيك، مفتوح على احتمالات لا يمكننا السيطرة عليها”.
في كتاباته عن الايديولوجيا، يقدم جيجيك مراجعة أساسية للتعريف الكلاسيكي للإيديولوجيا يختصر بفكرة أساسية مفادها “إنهم يجهلون عواقب أعمالهم ومع ذلك فهم يمارسونها”. فالبشر ينساقون بسذاجة مع مسار الرأسمالية، غافلين عن كونهم مستغَلّين. يعتقد جيجيك أن صورة الأب الأوديبي حالياً، لم تعد فاعلة ضمن المجتمع وأن أباً بدائياً “فاجراً” صار يحكم مكانه، ناصحاً الجميع بمحاكاته! “وصايا الأيديولوجيات الحاكمة الآن هي أن تتمتع: المتعة الجنسية، الاستهلاك، المتعة السلعية، وصولاً إلى المتعة الروحية باكتشاف نفسك”. معادلة يختصرها المؤلف فى جملة: “القاعدة: تمتّع! الأنا العليا هي التمتّع!”.
الأساس هنا هو أن تكون مستهلكاً، متسوقاً، تأكل وتمارس الجنس ..إلخ. منطق هذا القانون أنك إن لم تكن تفعل هذه الأشياء، فأنت شخص غير محظوظ. الضغط لفعل أكثر، ولرؤية أكثر، والتمتع أكثر، يجعل الناس عملياً غير سعداء أبداً: “المتعة التي تمليها الأنا العليا الحالية هي متعة “فاحشة” فعلياً.. لأن ما تقرره هذه الأنا العليا ليس متعة أبداً، لكنها تخيل ومحاكاة لفكرة المتعة”.
من أسباب شك جيجيك في المعادلة التي تربط بين السعادة وإدراك الذات في المجتمع الغربي اليوم هو حذر الناس في ما يتعلق بالسماح بدخول أي إحساس بالتوتر، أو المخاطرة، أو فائض العاطفة في حيواتهم: “ينعكس هذا في خلق سلسلة جديدة من السلع: قهوة من دون كافيين، قشطة من دون دسم، جعة من دون كحول”.. ومن خلال هذا الطرح يتخيل جيجيك المستقبل: “سنرى جنساً افتراضياً: جنس من دون جنس، أو حرب من دون ضحايا، باعتبارها حرباً من دون حرب، إعادة تعريف معاصر للسياسة على أنها فن الإدارة الاختصاصية، وهذا يعنى أنها سياسة من دون سياسة”.
كاستنتاج أخير، يبرز كول تصريح جيجيك حول الواقع الافتراضي، حيث يقوم ببساطة بتعميم هذه الإجراءات لعرض منتجات منزوعة من عناصرها: تقدم الواقع نفسه منزوعاً من جوهره؛ كما أن رائحة القهوة من دون كافيين ومذاقها، يشبهان القهوة الحقيقية من دون أن تكون قهوة حقيقية. تتم ممارسة الواقع الافتراضي باعتباره واقعاً من دون أن يكون كذلك.
(*) صدر الكتاب عن منشورات المتوسط. ترجمة: حسام الدين محمد
__________
*المدن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *