مدخل إلى بيداغوجيا “الفلاقة”


د. لحسن الكيري*


خاص ( ثقافات )
انتظروا، لا تتعجلوا الحكم! فنحن لسنا متزمتين و لا رجعيين و لا مزمرين و لا مطبلين أو مهللين تحت رايات حزبوية أو نقابوية إيديولوجية ضيقة و مصلحية إذ نحن نقول بضرورة عودة “الفلاقة” إلى المدرسة المغربية. سأحسم المعركة من هذه الفقرة مع العديد من الباحثين في مجال علوم التربية الذين قد يعارضونني و هم عموما مغاربة بعقول فيها فكر غربي بمرجعيات فرنسية و إنجليزية لأنهم مترجمون له – ترجمة رديئة أحيانا – و مجترون له و مهللون في حضرته و قائلون به. فهاكم الحسم: إن فلاسفة التربية و علماءها في فرنسا و إنجلترا، و الغرب بصفة عامة، يتوجهون إلى أستاذ و إلى تلميذ و لنقل إلى مجتمع غربي يختلف عن مجتمعنا المغربي و العربي الشرقي حتى في برازه أقصد غائطه و حتى فضلاته.
هل ينبغي أن نعتقد أن دولاند شير أو جونر أو بيرينو و غيرهم من التربويين الغربيين يضعون نصب أعينهم التلميذ المغربي و حتى العربي و هم يصوغون نظرياتهم و يصورنونها؟ سنكون أغبياء إذا كنا هكذا فاعلين، و يجب علينا إعادة النظر في طريقة رؤيتنا للأشياء و فهمنا للعالم و طبائع الأمور.
نقول بضرورة و حتمية و راهنية استعادة نموذج “الفلاقة” في مجال التربية و التكوين لأنه هو أنجح نموذج تربوي عرفه المغرب عبر التاريخ و حتى في العالم العربي قاطبة بحيث خرج عباقرة في الأدب و العلوم و الفلسفة و الفكر و السياسة و الفن و الرسم و القانون و الرياضة و الغناء و الرسم و غيرها كثير. فحكم الواقع أكبر من أي حكم آخر أو دليل مزيف بنيات مبيتة؛ فمالكم كيف تحكمون؟ يكفي أن نذكر أسماء من قبيل محمد عابد الجابري و عبد الله العروي و محمد برادة و خناثة بنونة و مالكة العاصمي و سعيد يقطين و نجيب العوفي الذين هم من ثمرة هذا النموذج التربوي المنضبط و اللائحة تتأبى على الحصر كما هو معلوم في هذا الباب.
أما و نحن اليوم مجتمع ينشد الثبات و الجمود و يكرس الطبقية و النخبوية و الإصلاح الفوقي المخفف و الخوف المرضي من الزعزعة و المساءلة و التساؤل و المحاسبة و الوعي و التنوير فإننا بتنا نلاحظ انسياقا كارثيا للقائمين على الشأن التربوي التعليمي في المغرب، بطريقة واعية مقصودة أو بطريقة لا واعية و راء النموذج التربوي الغربي الحداثي . و يبدو أن ثلاثة عقود من تجريب هذا النموذج في مدرستنا المغربية السليبة كانت فاشلة تماما. و لعل خير مثال على ذلك هو تصنيفنا المخجل في لائحة جودة التعليم عالميا إذ نحتل المرتبة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة كل سنة على التوالي. هذا رغم تحفظنا على هذا النوع من التصنيفات.
لعل “كعب آخيل”، بمعنى نقطة الضعف المهولة، في تطبيق مقتضيات هذا النموذج البيداغوجي الغربي الحداثي في مدرستنا المغربية المغرر بها هو تكريس الفوضى و غياب الانضباط و روح المسؤولية عند التلميذ المغربي الذي هو نموذج عن المواطن المغربي و بالتالي المجتمع المغربي ككل. إن أزيد من 90 في المائة من تلاميذ المغرب غير صالحين لكي ندرسهم بهذا النموذج. و كي نلفت انتباه مترجمي الفكر التربوي الغربي إلى العربية في المغرب و خارجه و الذين لم يسبق لهم يوما أن أنجزوا حصة دراسية في المدرسة المغربية لا العمومية و لا الخصوصية، إلى أن الفوضى و الهرج و المرج و الغياب الكارثي للانضباط قد تفاقم كثيرا في هذه المدرسة المسكينة المتآمر ضدها في الحديقة الخلفية. ولعله يكفينا أن نجرد بعض مظاهر هذا التسيب في النقط التالية: عدم كتابة الدروس من طرف المتعلم – عدم إحضار الدفاتر و المقررات الدراسية – عدم إنجاز الواجبات و إن أنجزت فالفوضى الموجودة في المخ تنطلي بها الورقة – عدم الحضور في الوقت – عدم الالتحاق بالحجرات الدراسية رغم أن التلميذ قد يأتي قبل الأستاذ أحيانا – الانشغال المرضي بالهواتف المحمولة و حتى داخل القسم عند عدد من أنصاف الأساتذة – عدم الانصياع لتعليمات الأستاذ و نبذ طاعته – الضحك دون مناسبة و فتح الفم و الذباب يدخل و يخرج – ركل الطاولة و الصديق و حاوية الأزبال و السبورة و الباب و أحيانا نسمع عن ركل حتى الأستاذ و الأب و الأم و بائع النعناع – الوقوف على الرأس فوق سور المدرسة و في قارعة الطريق – البصق داخل القسم و في الدفتر – عدم تقبل النقط و النتائج الكارثية و إلقاء اللوم على الأستاذ كمشجب بات يعلق عليه كل من هب و دب فشله المريض مع كامل الأسى و الأسف، و هلم جرا.
من هذا المنطلق و على هذا الأساس تصبح بيداغوجيا “الفلاقة” مفروضة و بإلحاح في مدرستنا المسكينة لأن من حسناتها تكوين مواطن “سبع” و مواطنة “لبؤة”. مواطن يعرف حقوقه وواجباته، مواطن متمكن، ناجح، مثقف، مسؤول، واع، ملتزم، منضبط، متفلسف، أنيق، ذكي، قارئ كبير، طموح و قادر على تحمل المسؤولية و متمكن من تعلماته و خبراته. و على أية حال فنحن لسنا أفضل من بريطانيا التي تجيز حتى العقاب الجسدي في مدارسها. نحن نعرف من عنده مصلحة في نشر الفوضى و الارتجالية و تكوين جيل جاهل و غير مؤدب.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فلا يستطيع أن يخالفني الرأي، بطريقة عقلانية، أي باحث في علوم التربية فيما يخص عدم صلاحية التدريس بالكفايات في المدرسة المغربية و العربية الحالية كمقوم مركزي من مقومات النموذج التربوي الغربي الحداثي. مرة أخرى، لا تتعجلو ا الحكم و الحسم و الجزم! ذلك أن الفكرة المركزية التي يتأسس عليها هذا النموذج هي أن المعرفة لم تعد تكتسب داخل المدرسة بل خارج أسوارها. و هكذا انتهت مدرسة المعارف و سلمت نفسها لمدرسة الفضلات كما يقول أحد التربويين. عوضتها مدرسة تتغيا تمهير التلميذ على كيفية استدعاء تلك المعارف و تجنيدها و توظيفها بنجاعة في ظروف و سياقات تواصلية و معرفية و مختلفة. السؤال الذي نطرحه ها هنا هو كالتالي: هل، بالفعل، يملك أو يكون أو يخزن التلميذ المغربي، بصفة عامة دائما، معرفة أو رصيدا معرفيا و لو متوسطا حتى لا نقول وافرا، خارج أسوار المدرسة؟ طبعا لا، مع الأسف. و السبب في ذلك هو أننا مجتمع لم يعد قارئا كما كان أيام بيداغوجيا “السمطة” أو “الزلاط” أو ما أحببت تسميته ب “الفلاقة”. تقتضي الكفايات، إذا، أن يكون التلميذ برصيد معرفي غني يساعده في تكوينه والداه المثقفان و أقرانه و الشارع المثقف و الواعي و إعلام مجتمعه الحر و المستقل و مراكز الدعم النفسي و الاجتماعي و الإنساني، و إمكانياته المادية و جمالية محيطه و غيرها، و ما الأستاذ إلا موجه له و ميسر لعملية استغلاله لموارده كي ينجح في حل الوضعيات-المشاكل التي يوضع فيها في المدرسة و بعدها في مدرسة الحياة الواسعة. و هذه الخصائص و المواصفات و الشروط لا تتوفر بالنسبة ل 90 في المائة من تلاميذ المدرسة المغربية؛ إذ أن أكثر من نصف آبائهم لا يستطيع التعرف على اسمه حتى و لو كتبناه له بجرار في حقل مبتل التربة! بل حتى الذين سبق أن تمدرسوا يعانون من آفة الجهل المركب و الجهل المقدس و الجهل المؤسس.
و هكذا، فلا ضير أن نعود إلى أنفسنا كثقافة مغربية و كمجتمعات عربية و إسلامية و نحاول أن نصوغ نموذجا تربويا تعليميا فيه الحزم و الصرامة و التشدد و “التفليق” و نطعمه قليلا إن أردنا ببعض مبادئ و تصورات النموذج الغربي ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. لا يجب أن نخجل من فشلنا في تطبيق النموذج التعليمي الغربي لكن العيب أن نبقى حيث فشلنا فنكون أغبياء لأن الغبي حسب أينشتاين هو الذي يفعل الشيء و يحصل على نتيجة كارثية ثم يعيد نفس التصرف معتقدا أنه سيصل إلى نتيجة مغايرة!
نحن لا نطعن في النموذج التربوي الغربي في حد ذاته، أبدا. إنه نموذج له أصوله و منطلقاته و جدارته العلمية لكنه غير صالح كثيرا في ثقافتنا و من المكلف جدا استنبات مفاهيمه الإجرائية التي يتأسس عليها في هذه التربة الشرقية التي تتسم عقلية مجتمعاتها و بنياتها الذهنية بالطاعوية، فنحن طاعويون و نحتاج إلى المراقبة و النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف و مجبولون على معيارية “إفعل / لا تفعل”، و غيرها من المفاهيم و التصورات و التمثلات التي جعلت منا أناسا بهذه الخصائص و تلكم الطبائع.
رجاء، إن لم ننتبه إلى هذه المسالة و نوليها ما تستحقه من الأهمية البحثية و بالرصيد الكافي من الجرأة و الشجاعة فإننا سنبقى في آخر الركب الحضاري. و كما نعلم فالقافلة تسير و الكلاب تنبح! وسننتهي إلى صناعة أجيال فاشلة عنوان فشلها بالخط العريض هو قلة الانضباط و الاستهتار و الفراغ المعرفي و الجهل الضارب لأطنابه و كأني بتلاميذنا أعجاز نخل مسندة بحيث أصبح اليوم يسرق منهم قدرهم و رزقهم و أنفسهم و مستقبلهم و هم يرون دون أن يعرفوا ماذا يقدمون و ماذا يؤخرون. فماذا نتوقع من تلميذ يحصل على نقطة 19 على عشرين في الاجتماعيات في الامتحان الوطني للبكالوريا و لا يعرف سنة حصول المغرب على استقلاله، بل لا يستطيع أن يموقع حتى المغرب في خريطة العالم أو المدينة التي يقطن فيها على خريطة بلده، وآخر لا يكتب جملة صحيحة لا بالعربية و لا بالفرنسية و هو حاصل على البكالوريا بميزة “حسن” أحيانا.
نحن نعرف و هؤلاء يعرفون أننا نعرف أن الكل يعرف أن التنزيل الشكلي الفوضاوي و العبثي و غير المعقلن للنموذج التربوي الغربي في ثقافتنا المغربية و العربية عموما ما هو إلا طريقة لسرقة أحلام “أبناء و بنات الشعب” و جعلهم فارغين وديعين و تائهين و مستلبين و مستسلمين و مضللين و أخيرا، جهالا؛ ثم إعطاء الانطباع للآخر الغربي على أننا حداثيون و نساير التطورات؛ و كي نحصل على القروض و المنح و لا نعرف أننا نساهم في تخلفنا بأيدينا. انظروا إلى نتائج سياساتنا العمومية في جميع القطاعات، انظروا، انظروا ثم انظروا إن سمحوا لكم أن تنظروا و إنا غدا لناظره قريب.
_______
*كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء – المغرب.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *