*ماريا بوبوفا / ترجمة : آماليا داود
خاص ( ثقافات )
” فقط عندما ننظر بعين الحب نرى ما يراه الرسام ” كتبت هذا هنري ميلر عام 1967 في جوهرته المنسية “ان ترسم يعني أن تحب مجدداً ” .
الرسم بالفعل يحول الممر السري بين العقل و القلب إلى طريق ذي اتجاهين _ بينما نحن مبرمجون على إغفال غالبية ما يدور حولنا ، أن نتعلم الرسم هو إعادة برمجتنا على رؤية العالم بشكل مختلف ، بشكل حميمي أكثر عن طريق التواجد فيه و الاعتزاز بتفاصيله التي كانت خفيّة سابقاً.
و ربما لهذا تُعلم الفنانة ليندا باري فن القص البصري على أنه فن مجزٍ بلا حدود “لجعلنا موجودين و رؤية الموجود”.
قبل قرن من ميلر و قرن و نصف من باري ، قام الناقد و المفكر جون روسكين بفحص فلسفة الكيفية التي يساعدنا فيها الرسم على رؤية العالم بشكل غني ، كتبها روسكين عندما كان عمره تسعة عشر عاماً مقالة بعنوان ” عن الكرامة النسبية لدراسات الموسيقى و الرسم ، و المنافع المستمدة من ممارستها ” ، و موجودة في كتاب ” أعمال جون روسكين ” الجزء الأول .
إنه تأمل جميل لثلاثة أسباب مناسبة لوقتنا هذا ، هذا العصر الذي استسلمنا فيه إلى ” نزعة الاستهلاك الجمالي” للتصوير الفوتوغرافي ، وتغير رؤيتنا إلى هذا العالم حيث أصبحنا ننظر إليه من خلال كاميرات الهواتف النقالة التي نصور بها أنفسنا بدلاً من الطبيعية اللانهائية و نغفل عن الافتتان بها ، و الرسم اليوم هو استعادة الكرامة و الفرح الخاص .
كتبَ روسكين :
دع شخصان يخرجان في نزهة : الأول رسام جيد ، و الثاني لا علاقة له بالرسم . دعهما يمشيان في ممر أخضر . وسوف يكون هناك اختلاف كبير في المشهد من وجهة نظرهما . فالثاني سوف يرى الممر و الأشجار ،وسوف يميز الأشجار باللون الأخضر ، و مع ذلك لن يفكر بشيء تجاهها ، سوف يرى شروق الشمس ، وأن شروقها له تأثير مبهج ، لكن الأشجار تظلل الممر و تجعله بارداً ، و سوف يرى امرأة عجوز ترتدي عباءة حمراء ، وهذا كل ما يراه !
لكن ماذا يرى الرسام ؟ فعيناه معتادتان على البحث عن سبب الجمال ، واختراق أدق تفاصيل هذا السحر. ينظر لأعلى ، ويلتقط كيف تنقسم أشعة الشمس بالرذاذ على الأوراق اللامعة من فوقه ، وحتى يمتلئ الهواء بضوء زمردي ، والنباتات تتراقص في المنطقة الخضراء ، والخطوط اللامعة التي تسقط على مجموعة من أوراق الشجر والتي تبرز مشرقة وجميلة في الظلام، وظلال خجولة لشجرة بعيدة ، حيث يلمع الضوء الأبيض مرة أخرى من الخلف ، وكأنه تساقط للشهب ، وتظهر بعض الأغصان هنا وهناك بين المجموعة الكبيرة من الأوراق ، بمئات الألوان المتعددة .
(….)
ألا يستحق هذا المشاهدة ؟ ومع ذلك إذا لم تكن رساماً سوف تمر على هذه المساحة الخضراء ،وترجع لبيتك مجدداً ،ولن تجد ما تفكر فيه أو تقوله عن هذا المشهد ،عدا أنك مررت به .
لا يمنحنا الرسم وجودا أكثر حميمة مع العالم فقط بل دعوة لا تقاوم لرواية القصص ، فامرأة في عباءة حمراء ستكون بالنسبة لغير الرسام مجرد عابرة غريبة ، أما الرسام سوف ينسج عنها” كمية كبيرة من التكهنات ” كما يقول روسكين ،ويسعى الرسام إلى وضعها بشكل صحيح في سياق المشهد ، ويلعب دائماً بالقصص المختلفة الممكنة عن هويتها ، وكيف انتهى بها الأمر هنا، وهذا هو الدافع للتخمين الإبداعي ، ويؤكد روسكين هذا هو صميم ما يجعل الفنان يرى العالم بشكل مختلف :
من حالة عديمة الأهمية : طير على الدرابزين ، جسر خشبي فوق جدول ، فرع مكسور، طفل يلبس مريلة ، أو حوذي يلبس عباءة ، يستخلص الفنان التسلية والتطوير والتكهنات . في كل شيء هو نفس الشيء ، حيث ترى العين العادية سحابة بيضاء ، الفنان يلاحظ التدرج بين الضوء و الظل ، واختلاط الألوان : الأحمر والأرجواني والرمادي والذهبي والأبيض ،المحيط الرشيق الشكل ،وليونة الظلال على الأطراف الذائبة ، وسطوع دون لمعان ، وشفافية دون اختفاء ، واعتدال جميل للسماء العميقة التي تطل وسط السحابة الثلجية بعينيها الزرقاوين الناعمتين ، في الحقيقة متعة الرسام في التأمل بالطبيعة هي أيضاً غامضة ، وبالنسبة لشخص ما ليس لديه حس الرسم إذا وهبته الذوق والطاقة ، سوف يشعر بالنظر إلى الطبيعة تقريباً مثل الرجل الأعمى الذي أبصر لتوه.
المصدر brainpickings