يحيى القيسي*
( ثقافات )
من بين آلاف الصور التي تضخّها علينا وكالات الأنباء يومياً لما يجري في غزة، وأيضاً ما ينشره أهلها مباشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، استوقفتني صورة لمجموعة من الأطفال بين ركام إحدى العمارات التي سوتها الغارات الإسرائيلية بالأرض، وقد اكتشفوا طريقة لعمل أرجوحة “سي سو”، وبدا جميعهم في فرحة غامرة مثل شموع تبث النور وسط كلّ هذا الخراب .
شعب مثل هذا لا يمكن لأية قوة ظلامية أن تهزمه، لأن الأمر لا يتعلق بتدمير البنية الخارجية له عبر هدم البيوت، وقطع الإمدادات بالطعام والشراب، وإمطاره بآلاف القنابل يومياً، ولا أيضاً عبر ترويعه بمشاهد الجثث والقتل الجماعي، بل إن السر يكمن في روحه الصابرة القوية التي لا يمكن لكل طائرات الإبادة ولا لكل الرصاص المنهمر أن يصيبها في مقتل، وهذا السرّ يبدو أنه بمنأى عن الإدراك أو حتى محاولة الفهم من قبل كيان عنصري استعماري وهمجي مثل “إسرائيل” .
دائماً ما تبدأ الانهيارات من الداخل أي عبر الشعور نفسياً بالهزيمة واللاجدوى من المقاومة، والانبطاح تماماً لقبول أيّ حل، وهذا ما يقوم به السياسيون غالباً، أي يهيئوا الرأي العام لقبول سياسة الأمر الواقع، وأن الكف لا يمكن لها أن تناطح المخرز، ويرتبوا في الغرف المغلقة ما لا يعرف به الذين يكتوون بنار الحرب في الميدان، لكن في الواقع الفلسطيني أثبتت الأيام أن مثل هذه السياسات لا تجدي نفعاً، فالذي تربى منذ طفولته على أن فلسطين بكاملها هي وطنه، وأنها مغتصبة، وأن الاحتلال إلى زوال، وأيضاً ذلك الذي رأى بعينيه ذبح عائلته أمامه ظلماً أو طردها من أرضها، لا يمكن إقناعه بترتيبات الساسة “النجوم” في قاعات الاجتماعات الغامضة والبعيدة، ولا في الضخ الإعلامي الهزيل، ولهذا يجب التعامل مع مسألة الحق الفلسطيني بطريقة مغايرة لما يجري في أية دولة من انهيار أو تبدلات، فالشمس لا تغطى بغربال، والحق لا يمكن أن ينسى ويزول بتقادم السنوات أو باقتراحات الرجال ذوي الياقات الأنيقة .
أعتقد أن الشعب الذي يحتفي بالحياة هو الأجدر بها، وأن ثقافة الموت يجب أن تكون عابرة، ولا ينبغي التركيز عليها، فالعدو في النهاية يأمل دائماً في الوصول إلى مرحلة كسر الروح المعنوية، ومن هنا يجب أن يأتي دور المثقفين والإعلاميين في النفخ على شعلة الأمل، وبث العزيمة في الناس المنكوبين، لا أن يكون الأديب أو الفنان أو الإعلامي مجرد ناقل مباشر للأحداث على الأرض، فما فائدة أن يكون كذلك، وأية إضافة يمكن أن يحققها للصابرين المتألمين من شدة الهمجية، على أن المسألة الأصعب تبدو في أولئك “الأبواق” النافخة بالكير ، والتي تصب الزيت على النار، وتحاول لَيّ عنق الحقيقة، فظلم ذوي القربى أشد مضاضة، وأكثر ألماً، ويبقى أثره طويلاً من الصعب نسيانه، ولهذا أقول إن من لا يجرؤ على قول الحقيقة والتضامن الفعلي، عليه أن يقول خيراً أو ليصمت، فالكلمة تقتل أيضاً، ولها فعلها العظيم في النفس، ولا يمكن محو العار عن أولئك الذين وقفوا في الجانب الآخر للحق الظاهر للأعمى والبصير، والقريب والبعيد، لكن بعض الناس كالدواب أو أضل صم بكم، يعرفون الحقيقة ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويساوون بين الضحية والجلاد، وبين المغتصب وابن الأرض، وبين الإرهابي والمقاوم .
وفي كل الأحوال، ومهما اشتدت الرياح العاصفة، وتلونت الأرض بالدم، وكثر المرجفون، والمشككون والانبطاحيون فإن الظلام لا يدوم، وثمة فجر قادم، ونصر أكيد، ولو بعد حين .
* روائي وإعلامي من الأردن
رئيس تحرير ومؤسس ( ثقافات )
– الخليج