لولا فسحة الأمل


*عبده وازن


الاعتياد على فقدان الأمل أصعب من فقدان الأمل نفسه. تماماً مثلما يكون الاعتياد على اليأس أرهب من اليأس. نأمل ثم نيأس، لكننا نقنع أنفسنا بأنّ لا بد من الانتظار، فننتظر مرة تلو مرة، وكلما انتظرنا تضاءل الأمل من حولنا، تضاءل في نفوسنا، في حياتنا التي ينتهكها الخوف والقلق والاضطراب… أضحت هذه «المعادلة» عادة من عاداتنا اليومية: نعتاد انتظار الأمل وكلنا يقين بأننا فقدناه. إننا نعتاد فقدانه. قال ثيرفانتس: «مادامت هناك حياة هناك أمل». ولكن أي حياة هي هذه التي دامت لنا؟ هل تشبه الحياة حقاً؟
كان الطغرائي (514 هـ) استبق ثيرفانتس قائلاً في قصيدته الشهيرة «لامية العجم»: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل». وهذا الشطر من بيته الشعري (أعلل النفس بالآمال أرقبها…) سار كالمثل وغزا الكتب والألسنة حتى استُهلك وكاد يفقد معناه. لكنّ زياد الرحباني الذي اختاره عنواناً لإحدى مسرحياته (لولا فسحة الأمل، 1994) عرف كيف يسخر من معناه، ساخراً من كلا الأمل والعيش اللذين يضيقان أكثر فأكثر في بلد مثل لبنان.
يجب ألا نيأس. دان ألبير كامو اليأس في كتابه «أعراس» قائلاً إن «اليأس، على خلاف ما نعتقد، يوازي الاستسلام، وأن نحيا هو ألا نستسلم». هذه مقولة رائعة لا يمكن تجاهلها، لا سيما أن قائلها هو فيلسوف العبث، الذي جعل من إنسان القرن العشرين قرين سيزيف، السعيد بصخرته، أي ببؤسه. لكنه خلق في مقابله «الإنسان المتمرد» الذي يرفض اليأس ويواجهه. يجب ألا نيأس. ألا نتشاءم. ألا نقنط. ألا نستسلم. ولكن هل في حياتنا أو في عالمنا اليوم ما يدفعنا إلى الأمل والتفاؤل؟ ما يشجعنا على مواجهة ما بتنا نعجز عن مواجهته من إرهاب وعنف وخراب شامل؟ يكفي أن ننظر من حولنا، قريباً منا أو بعيداً، في صميم واقعنا أو وسع الخريطة: داعش، النصرة، بوكو حرام، بقايا الدكتاتورية البعثية، عنجهية أميركا، تواطؤ الغرب، صعود اليمين الأوروبي المتطرف، صلافة إسرائيل، الأجندة الإيرانية، الطائفية البغيضة، المذهبية، الهجرة القسرية، النزوح، اللاجئون والقتل، القتل في كل أنواعه: الفردي، الجماعي، قصفاً أو ذبحاً، بالقنابل أو بالبراميل أو بالكيماوي أو بالسيارات المفخخة والأجساد المفخخة…
إننا نعيش «أزمة أمل». واقعنا أو حاضرنا قاتم ومتجهم، والمستقبل مريب، متعثر وغير محقّق. وقد يكون الكلام عن الغد هو الأصح، وليس عن المستقبل. المستقبل غالباً ما يكون بعيداً، أما الغد فهو قريب وفي متناولنا. حتى غدنا هذا لا نملك ما يضمنه أو يؤكده. كيف يمكننا أن نأمل ما دمنا قلقين كل القلق على غدنا ثم على مستقبلنا الذي نجهله كل الجهل؟ أليس الأمل وقفاً على فكرة المستقبل، كما قال الفلاسفة، حتى المتشائمون منهم؟ أليس المستقبل هو الذي يجسد ما يسمى «أفق الانتظار»؟ حتى آمالنا الشخصية الصغيرة باتت بعيدة. آمالنا كأفراد وليس كجماعة. آمالنا الكبيرة لم يبق لها أصلاً زاوية في حياتنا.
ليس اليأس خطأ ولا خطيئة. التشاؤم أيضاً. إننا نحيا في حقبة لم يعرف تاريخنا ما يضاهيها تيهاً وضياعاً واضطراباً وقلقاً على المصير. حتى الجغرافيا باتت عرضة لاهتزاز كبير. حتى الجذور، حتى الأوطان والجماعات بهوياتها المتعددة. ان نأمل اليوم يعني ان نكذّب واقعنا وما يحصل في صميمه. «أن نكذّب أيضاً المستقبل»، كما عبّر إميل سيوران في كتابه «أقيسة المرارة». أما أجمل ما قيل في هجاء الأمل فكان بيتاً في قصيدة للشاعر الفرنسي بول فيرلين في ديوانه «حكمة»: «الأمل يلمع مثل قشة في الإصطبل». ومعروف أن الموجات العبثية والعدمية والوجودية التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب الثانية في أوروبا امتدحت اليأس ودعت إلى التخلي عن فكرة الأمل بل عملت على حذف مقولة الأمل من الوجود. وهذا ما يرصده كتاب «هل للأمل مستقبل؟» (دار فلاماريون- باريس2016)، وفيه يرد مؤلفاه روجيه بول دروا ومونيك أتلان على فلاسفة اليأس، داعيين إلى إحياء فكرة الأمل الذي هو أحد سبل النجاة من كارثية العصر الراهن. ويدعوان أيضاً إلى التخلي عما يسميانه «التشاؤم السائد» والرائج اليوم وخوض معركة ضد النزعات التشاؤمية التي تدفع نحو التخلي والتراجع والاستسلام… وبحسبهما يملك الأمل «قدرة خلاقة» لكونه «أحد أبعاد الكرامة الإنسانية» وهو يعني أيضاً «امتلاك الفكر الحر» والقدرة على مواجهة المستقبل ولو كان يلفه الضباب. وفي رأيهما ليس الكلام عن الأمل ضرباً من «التفكير المترف» كما يظن بعضهم، بل هو ترسيخ له بصفته «قيمة سياسية وفلسفية وإنسانية».
«هل للأمل مستقبل؟»، هذا السؤال طرحه فيلسوف وكاتبة فرنسيان شاءا الانتصار للأمل. أما إذا طرحه فيلسوف أو كاتب عربي، فالجواب لن يكون يقينياً بل سيكون تشاؤمياً ومدعاة لليأس.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *