*حوار وتقديم: نيرمينة الرفاعي
خاص ( ثقافات )
وسط الجدران العديدة التي تحيط بحياة المواطن العربي وتحدد له الطرق المسموحة والممنوعة، وُجدت مشاكسات الدكتور برهان شاوي الذي بدأ بالنشر في الصحافة العراقية والعربية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم حين نجد بين أيدينا سلسلة متاهاته التي لم ينتهِ عددها بعد.
ابتداءً بـ “متاهة آدم” و” متاهة حواء” و”متاهة قابيل” و”متاهة إبليس” و”متاهة الأشباح”، و”متاهة الأرواح المنسية”، يؤكد الروائي العراقي أنَّ مجتمعنا يعاني من أزمة أقنعة تسببت في ضياع وجوهنا الحقيقية. من خلال التناقضات التي تجعل شخصيات الشاوي تبدو كائنات غير متزنة للوهلة الأولى، إلّا أن التوّغل أكثر يفكك للقارئ طبيعة النفس البشرية البسيطة والمعقدة في ذات الوقت.
شخصيات شاوي تنظر إلى رغباتها الدفينة بصدق مخيف، في المتاهات تتغير ألقابها إلّا أنَّها تشير إلى أنَّ جميع “حواء”، وكلُّ الرجال “آدم”، كرمز إلى تشابه الصفات البشرية التي تميل منذ الأزل نحو صراع السلطة والقوة والمال والجنس والمغريات المادية.
في إطار من الفانتازيا حيثُ كلُّ شيء قابل للتغيير السريع والظهور والاختفاء، وبأسلوب كتابة بصرية سينمائية قادرة على نقل القارئ بين الأماكن والأزمنة والخيال والواقع تدور متاهات الشاوي في كومة من الإبر التي تنخز الباحث فيها عن قشّة، أسئلة كثيرة تدع للمتلقي حرّية البحث عن إجاباتها دون أي فرض لحقائق مطلقة، ودون إطلاق أحكام سابقة أو لاحقة على أيّة شخصية.
خلال حوارنا تأكدت من أنَّه يمتلك قدرة استثنائية على قلب الأدوار واستلام زمام الأمور، لدرجة أنني توقعت أنَّ شخصيته طاغية على الحبكة بأكملها، إلّا أنَّه على الرغم من ذلك أقرّ بديمقراطيته مع شخصياته وقالَ إنه يترك لها حرّية خلق نفسها بنفسها، خاصة في الأوراق التمهيدية الأولى.. لم يفتني أيضًا أن ألاحظ قدرته الهائلة على التقاط التفاصيل وتحويلها بشكل فوري إلى حبكة قادرة على الاندماج في أيّة قصة..
وما زال الشاعر والروائي والمترجم والأكاديمي المولود في العراق عام 1955 قادرًا على ابتكار فضاءات جديدة لمتاهاته التي يعمل حاليًا على الجزء السابع منها.
الحوار:
*تقوم الروايات عادة بمحورة حياة الإنسان حول رغبات نفسه أو رغبات جسده، ولكن في رواياتك نرى ارتباطًا شديدًا بين النفس والجسد وفي جميع الشخصيات. كيف استطعت نقل مادية الجسد نحو مستوى أعلى وأعمق بحيث تندمج مع النفس البشرية وتصبح جزءًا لا يتجزأ من طبيعة الفرد؟
السؤال ملتو بالنسبة لي نوعًا ما. أنا لا أفصل بين النفس البشرية ومادية الجسد الحي.. فحياة الجسد هي التي تساهم في تكوين النفس البشرية.. ووجود الجسد البشري يسبق ماهية الكائن الإنساني الذي سيكون عليه فيما بعد، وبالتالي فأن فهمي الوجودي للوضع البشري هو أن الوجود يسبق الماهية، ومن ناحية أخرى أعتقد أن طبيعة الفرد أو السمة الشخصية للإنسان هي نمط ثابت من السلوك والمشاعر والأحاسيس والرغبات ذات خصوصية متعلقة بسيرته وخبرته وجغرافيته وبيئته يتم تقويمها من وجهة نظر أخلاقية وخلقية في الزمان والمكان المحددين..
وبالنسبة لشخصياتي الروائية فأنا أنظر إليها ككائنات بايولوجية.. من دم ولحم وأعصاب ورغبات مكبوتة ومشاعر محتدمة وشغف مشبع أو غير مشبع، وعقد نفسية تمتد من الطفولة.. وأيضا كجسد مبرمج يعيش وهمه بالحرية.. لا شخصيات رومانسية لدي بالمعنى العام للرومانسية، كما لا شخصيات بطولية خارقة لديّ. شخصياتي هي الإنسان بكل جلاله الروحي وشكوكه المضيئة وبكل دونيته وانحطاطه الأرضي.
*في كتابتك “وهم الحرية” الصادر عام 2012 طرحت مفاهيم الإرادة والعقل والرأي العام وسؤال الحرّية في فجر الإسلام، هل تعتقد أنَّ مفهوم الحرّية اختلف لدى المواطن العربي قبل وبعد ثورات الربيع العربي؟
أعتقد ثمة خطأ فادح، مقصود أو عفوي، في إطلاق مصطلح ” ثورات الربيع العربي”.. فهذه ليست ثورات، وإنما اندفاعات تاريخية اجتماعية وسياسية كبيرة كانت نتيجة للحصار التاريخي عبر قرون من الاستبداد.هذه الاندفاعات التاريخية المتفجرة هي التي شقت قبور اللاوعي التاريخي وأعاد السومبي الداعشي الإسلامي إلى الوجود، ومهما كانت التسميات لما جرى فهي لا تخرج عن المطالبة بالحريات الاجتماعية، والسياسية، وحرية التعبير عن الأفكار السياسية.. بل وحتى المطالبة بحرية الأفكار والتعبير تنحصر في الجوانب السياسية والفكرية وليس في حرية المعتقد الديني، لأن الشريعة بالمرصاد لمثل هذه الحرية.. وعموما، فأن الحرية التي تقصدها الشعوب لو دققنا فيها لوجدناها تعني الحرية السياسية والاجتماعية إلى حد ما، أي تبديل سلطة بسلطة..آليات قمع بآليات قمع جديدة..مهما حاولنا أن نمنح هذه السلطة أو تلك شرعية أخلاقية.
لكن حتى لو كانت هناك حرية كاملة، بما فيها حرية المعتقد الديني، فأن الإنسان يبقى غير حر.. وكل سعيه للحرية ما هو إلا وهم.. وهذا هو جوهر ما ذهبت إليه في كتابي “وهم الحرية”.. ففيه قد عرضت مفهوم الحرية لغويا بكل اللغات الحية ثم عبر الحضارات القديمة والأديان، وتوقفت عند الفلسفة الأوربية الحديثة بدءًا من ديكارت مرورا بسبينوزا وكانت وهيغل وماركس وشوبنهاور وسارتر وبرغسون.. ثم فيما قبل الإسلام وفي القرآن وفي فجر الإسلام وعند علماء الكلام وتوقفت عن المعتزلة. وحسب قناعتي التي توكأت عليها من خلال فلسفة سبينوزا، بأن الإنسان غير حر، وهو محكوم بكم من الضرورات، فهو مثلا محكوم بضرورات كونية، فهو لا يستطيع أن يغير من تراتبية الأرض وموقعها في المنظومة الشمسية، ولا أن يغير من ترتيب وتتابع الفصول،كما أنه لا يستطيع أن يغير من معطيات الحواس، فلا يستطيع أن يجعل عينه ترى أبعد مما مقدر لها فيزياويا، ولا لسمعه أن يستشعر أصواتا خارج مدى شدة التوتر المقدر للأذن، بل إنه لا يستطيع أن يؤثر ويتحكم بجسده الشخصي، فلا يستطيع أن يتلاعب بالدورة الدموية ولا بإنتاج كريات الدم البيض أو الحمر، ولا يتحكم بالتبرز والتبول والسيطرة عليهما! فعن أية حرية يتحدث الإنسان وهو لا يستطيع أن يتحكم بجسده الذي هو ملكه! الحرية إذن هي وهمنا الجميل.
*على غلاف روايتك “الجحيم المقدّس” نرى عبارة “رواية سينمائية”، وهو مصطلح جديد نسبيًا على القارئ العربي.
ما نقاط التشابه والاختلاف برأيك بين صناعة الأدب وصناعة السينما؟ وهل تتقمص عين مخرج أفلام حين تبدأ بكتابة رواياتك أم أنَّك تعتقدُ أنَّ على المخرج أن يفكّر بطريقة روائية إلى حدّ ما؟
نعم.. أنا درست السينما بشكل أكاديمي ولدى شهادة عليا فيها، وتخصصت في السيناريو وعلوم السينما.. ولدي تأسيسا نظريا وعلميا وتطبيقياً لعلوم السينما؛ لذلك أعرف أنني حينما كتبت روايتي الأولى “الجحيم المقدس” العام 1987 اعتمدت فيها على جماليات اللغة السينمائية، وبالتالي وصلت إلى نتيجة مفادها أن هذه الرواية مكتوبة بلغة مرئية وبأسلوب سرد مقتصد في الأفعال والنعوت وبإيقاع مونتاجي يستمد جمالياته من السينما.. فآثرت أن أصنّف هذا النص السردي باعتباره “رواية سينمائية”. لكنه في كل الأحوال يختلف عن السيناريو. وربما كنت أول من وضع ونحت هذه التسمية ووضعها على غلاف روايته، كما أشار أحد الباحثين التونسيين.
إلّا أن نقاط التشابه والاختلاف بين صناعة الأدب وصناعة السينما هو أن كليهما تعتمدان على اللغة.. فالسينما لغة الصورة والأدب لغة الكلمة. كما أنهما يعتمدان “السرد” في تكوينهما، فهناك سرد روائي وهناك سرد سينمائي، لكن الاختلاف بينهما هنا بالذات، فاللغة السينمائية تنتمي لما يُسمّى العلامات الصورية بينما الكلمة هي الأكثر نموذجية لما يُسمى العلامات الاصطلاحية. وطبيعي أن السينما أوسع في احتواء طبيعة العلامتين من الأدب.
والكاتب الحقيقي يكون لحظة الكتابة هو السيناريست والمخرج والمصور والممثل في آن. وبما أني درست السينما وعملت في المسرح ودرست علم النفس التحليلي فقد ساعدني كل هذا في عملية تقمص الشخصيات أثناء كتابة رواياتي.
*عناوين فصول كتبك ملفتة في تناقضاتها، مثلًا الفصل الأول في “متاهة قابيل” اسمه “بلاد مظلمة.. غرفة مضيئة”، والفصل التاسع عشر في “متاهة آدم” اسمه “فجر أسود”، والفصل الثالث عشر في رواية “استراحة مفيستو” اسمه “قاع السماء.. قاع الأرض”..
هل تعتقد أن قطبي التناقض قادران على إكمال المشهد الروائي عندما يجتمعان في صورة واحدة؟
أحيانا نعم، وأحيانا لا..
أنا شديد الانتباه لتسمية الفصول وعنونتها، أعتمد أحيانا على التناقض، ولكن ليس دائما.. المهم في رأيي أن يكون العنوان أو التسمية عتبة مخلصة تقود إلى فضاء السرد في الفصل المعني.
*رمزية استخدامك لأسماء “آدم” و”حواء” و”قابيل” و”هابيل” في سلسلة المتاهات تدّل القارئ على أنّك ترى الجنس البشري متشابهًا بشكل ما منذ بدء الخليقة، ولكنَّك ترى في ذات الوقت أن القارئ العربي يُصدم لجرأة أطروحاتك. ما الفرق بين القارئ العربي والغربي في وجهة نظرك وكيف تتناول النقاط المشتركة بينهما خلال كتاباتك؟
ما ذكرته عن رمزية الأسماء صحيح جداً. أما صدمة القارئ العربي فقد حدثت بالفعل.. فقد وصلتني ردود أفعال مختلفة على رواياتي، لاسيما حينما بدأت بسلسلة المتاهات: وأقصد حينما نشرت الثلاثية الأولى:متاهة آدم.. متاهة حواء.. متاهة قابيل.. حيث كانت ردود الأفعال غاضبة، بل إن الروايات مُنعت في بعض البلدان العربية منعا رسمياً.. وسحبت من الأسواق في بعضها، بسبب فضائحيتها الجنسية وبسبب مشاكساتها للمقدس.
أما عن سؤالك عن القارئ العربي أو الأوربي فلا يمكنني أن أقول شيئا مفيداً هنا، لاسيما فيما يخص رواياتي، لكن بشكل عام هناك فرق حضاري في طبيعة العلاقة بالكتاب من جهة وفي عملية القراءة نفسها ودورها في حياة الفرد..
أما كيف أتناول النقاط المشتركة بينهما خلال كتاباتي فلربما سأصدمك إذا ما قلت إنني لا أفكر بالقارئ أثناء الكتابة أبداً.. لا أريد أن أترك شرطيا يحوم حولي اسمه القارئ لحظة الكتابة. القارئ مجهول بالنسبة لي، ولا أعرف من هو.. إنه بلا ملامح.. لذلك لا أفكر فيه.
*تعوّد المجتمع العربي على نماذج خيّرة من الأبطال، الأبطال الذين يحرصون على الفضيلة ويبتعدون عن الخطيئة، الذين لا يكذبون ولا يغشون ولا يخونون ولا يغوون زوجة جارهم. نرى في شخصياتك نموذجًا مختلفًا للغاية، شخصياتك “بشرية” إلى درجة بعيدة، هل تعتقدُ أنَّ ذلك ساهم في تقريبها من القارئ أم صدمه بحقيقة روحه التي لم يكن يجرؤ على النظر إلى أعماقها؟ وهل كنت تتقصد القرب من الحقيقة أم إحداث صدمة؟
كما قلت في جوابي على سؤال سابق، شخصياتي الروائية شخصيات بايولوجية، من دم ولحم وأعصاب وعقد نفسية.. شخصيات أرضية أنت قلت عنها “بشرية”..
أبطالي متناقضون.. شكاكون.. شهوانيون.. كئيبون.. ماكرون.. كذاّبون..مقنعون..يظهرون غير ما يبطنون كبقية البشر.. الحياة لديهم حفلة تنكرية..”مسكاراد”.. آدم ملاك وشيطان في آن، وحواء قديسة وعاهرة في آن، وفي الوقت نفسه البشر مساكين، تقودهم غرائزهم مهما تساموا بها، فمهما دار حديثهم عن الروحانيات والأفكار الكبيرة ستنتهي إلى الجنس؛ بل لتجرّهم إلى أسفل سافلين، حتى وإن لم يتحقق ذلك في كل الأحوال، لكنه يجري في أعماق النفس وفي تيار أحلام اليقظة.
*عانى المواطن العربي من الحروب والقمع السياسي والديني والحصار والتهجير وتعذيب السجون وغير ذلك من ظروف صعبة، والشخصية الروائية تخضع بطبيعة الحال إلى محيطها ومكانها وزمانها، نفترض إذن أنَّ الروائي يتأثر بمحيطه أيضًا بوصفه جزءًا من المنظومة الاجتماعية. ما مدى تأثر برهان الشاوي الروائي بمجتمعه؟ وكيف كانَ سيكتب لو ولد في دولة من دول العالم الأول؟
أنا وريث وابن الخراب العراقي الممتد منذ بدء الخليقة وإلى اليوم.. وكحضور تاريخي أنا ابن تجربة مجهضة بشكل دموي لجمهورية فتية.. وابن تجربة قومية فاشية.. سقطت لتفسح المجال لاحتلال عسكري كلاسيكي كريه قاد إلى حروب طائفية دموية.. قادت بدورها العراق إلى ثقب أسود.. وهذا ما دونته في أعمالي الروائية والثقافية الأخرى.. دونت تأريخ الخراب العراقي على مدى أربعة قرون،لكني وبصراحة لا أميل إلى أي انتماء جغرافي ولا ديني أو قومي أو مذهبي. أنا انتمي للإنساني.. للكوني.. وهذا أشرف لي من أي انتماء آخر.. مهما أزعج ذلك البعض من المتحمسين لأوطانهم وقومياتهم وطوائفهم وأديانهم.