السقوطُ في فخّ الأنا


*عادل الفتلاوي


خاص ( ثقافات )


يعدُّ الإعلامُ جانباً هاماً لأيّةِ موهبةٍ، فهو يسهمُ بالإعلانِ عنها من أجلِ إخراجها إلى النورِ وتعريفِ الناسِ بها وتبيانها في كلِّ مفصلٍ من مفاصلِ المعارفِ والثقافاتِ، والشعرُ كانَ أوّلَ هذهِ الثقافاتِ اهتماماً بالجانبِ الإعلاميّ إذ احتفى بهِ محبوهُ في أسواقَهم ومحافلِهم وضربوا لهُ الخيامَ وأجلسوا كبارَ الشعراءِ ليقولوا رأيهم في الشعراءِ “الجدد”، والتاريخُ الأدبيُّ يحفظُ لنا هذهِ النماذجَ منذُ النابغةَ الذبيانيّ فكانتْ لهم آراءٌ نقديّةٌ صارمةٌ على كثيرٍ من الصورِ الشعريّةِ التي جاءتْ في قصائدِ غيرهم لا مجالَ لذكرها هنا.
وتطوّرَ التعاطي مع الوسائلِ الإعلاميّةِ إلى حدِّ أن أصبحَ المحركَ الفاعلَ لكلِّ مشهدٍ على أرضِ الواقعِ بغضّ النظرِ عن تناولهِ الجوانبَ السلبيّة أو الإيجابيةِ أو صنعِ فارقٍ وهميّ أو حقيقيّ على أرضِ الواقع، ومعَ كثرةِ القنواتِ الإعلاميّة أصبحَ تداولُ الآراءِ وأصاحبها يسيراً بدرجةٍ كبيرة، ولا شواذَ في قاعدةِ الكمٍّ أمامَ النوعِ وسطَ هذا الزحامِ من البرامجِ التي لا حصرَ لها، فهذهِ القنواتُ تصبّ جُلَّ اهتمامها على رفدِ قاعدتها البيانيّةِ بالكمِّ على حسابِ النوعِ مما يجعلنا نلتمسُ الشواردَ هنا أو هناك، ويظهرُ أمامنا أشخاصٌ في مقتبلِ العمرِ أو بدايةِ الطريقِ وهم يصنّفونَ ويحددونَ ويضعونَ من يريدونَ في خاناتهم، حتى وان كانَ التبريرُ آراءَ شخصيّة، فيسوّلونَ لأنفسهم أن يفتوا سياسيّاً أو دينياً أدبياً أو اجتماعياً بها من غير أن يكونوا ملمّين بما يتحدثونَ عنهُ؟. 
لنبقى عندَ الشعراءِ الذينَ لو عادَ أفلاطون لما أخرجهم من جمهوريتهِ فقط بل لنفاهم إلى أبعدِ ما يستطيع وهم يتحدّثون في كلِّ شيءٍ تقريباً ويصورونَ أنفسهم قد فهموا الكونَ منذُ أن ولدوا، فما أن يومضَ ضوءٌ أمامَ عينِ شاعرِ أو شاعرةٍ حتى يصيبهُ ذلكَ الضوءُ بعدوى (الأنا) الهشةِ فيكونُ أمامهُ طريقينِ إمّا الوقوعُ في هالةِ ذلكَ الضوءِ وإما الالتفاتُ إلى رسالتهِ الشعريةِ غيرَ عابئٍ بهِ مهما كثرت وتعدّدت الأضواء. 
قرأتُ حواراً لشاعرةٍ واعدةٍ تكتبُ حرفاً جميلاً فهي تارةً تكتبُ القصيدةَ وتارةً تكتُبها القصيدةُ فهي بينَ مدِّ الشعرِ وجزرِهِ وهذا حالَ الكثيرينَ، وهي تكتبُ القصيدةَ العموديةَ والتفعيلةَ على الرغم من خروجها عن العروضِ في مناسباتٍ عدّة، وحديثها انطوى على بعضِ الآراءِ التي أرى من الضروري الوقوفَ عندها ببعضِ الملاحظِ أستقيها من داخل الحوار، إذ قالت إنَّ “عمرها الشعريَّ أربعُ سنواتٍ فقط”، وأعتقدُ أن الموهبةَ الحقيقيةَ إذا جاءتْ إلى شاعرٍ ما قد يكونُ لها من العمرِ أقلَّ من ذلكَ فلا مانعَ ولا بأسَ، على أن تُصقلَ هذهِ الموهبةُ بالكثيرِ الكثيرِ من القراءةِ والاطلاعِ على التجاربِ الشعريةِ وتحديدِ المسارِ لخلْقِ طريقٍ يتفرّدُ بهِ الشاعرُ وهو ما تحدّثتْ بهِ في غضونِ الحوار، لكنها عادتْ وقالتْ أنها استطاعتْ خلْقَ اللونِ الذي يمثّلها، ثمّ استدركت أنّها بدأت تميلُ إلى الرمزيةِ والصوفيّة، ويعرفُ نقّاد الشعرِ وأربابهُ أنّ الشاعرَ كائنٌ متطوّرٌ لا يقفُ إبداعهُ عندَ حدّ، فهل استطاعتْ أن تبلغَ بتجربتها الشعريةِ مرحلةَ النضجِ والتكاملِ بـ “أربعِ سنوات”؟! بل إنّها “أبت الظهور إلا مكتملةً” على حدِّ وصفها، وما لبثتْ في آخرِ الحوارِ إلى الإشارةِ إلى أن الشاعرَ عليهِ أن يجتهدَ فهو في طريقٍ طويلٍ وهناكَ سعيٌ إلى الكمال، لأتركَ الرأي ونقيضهُ الذي سقطتْ بهِ في الحوار وأقفُ عند نقاطٍ أربعٍ هامةٍ وضعتها للتفريقِ بينَ القديم والجديدِ في الشعرِ العربيّ عدّتها سلبياتٍ في الشعرِ القديمِ وصححها الشعرُ الحديث، وهي: طول القصيدةِ، تنوّع الموضوعاتِ، المعجم اللغوي، العمق في المعنى. 
لا شكَّ أنها في هذهِ النقاطِ وضعتْ نفسها كمقياسٍ بينَ ما تفضلهُ أو تستطيعهُ وبينَ الشعرِ القديم، على الرغم من هلاميّةِ السؤال وعدم معرفةِ المرحلةَ المعنيّة بالشعرِ القديم من قبلِ المحاورِ، غير أنَّ طولَ القصيدةِ وقصرها ليسَ فارقاً بين القديمِ والجديدِ فلم تنتهِ القصائدُ الطوالُ -من المجيدينَ- في أن تـتألقَ على منصاتِ الشعرِ ويقفُ الطيرُ على رؤوسِ المستمعينَ لتلكَ الروائعِ حتى نهايتها وإن طالبنا أحدٌ بمثالٍ فذلكَ الشاعرُ العراقيّ الكبير أجود مجبل والشاعرُ السعوديّ الكبير جاسم الصحيح مثالٌ للنفسِ الطويلِ في القصيدةِ مع الجودة.
وفي نقطتها الثانيةِ هناكَ مغالطةٌ واضحةٌ فقد أتى الجوابُ بعكسِ الحقيقةِ المتواترةِ عن تنوّعِ الموضوعاتِ فقديماً كانتْ أكثرَ جزلاً وتعدداً، فقد تناولت كلِّ شيءٍ تقريباً، أما في الوقتِ الحاضرِ فأصبحتْ محددةً تميلُ في أكثرها إلى الذاتيّة والغزل والوطنيات، وبمراجعةٍ بسيطةٍ لديوان الشعر العربي لأدونيسِ وغيرهِا من المختارات نجدهم انتقوا موضوعاتٍ في الشعرِ القديمِ غطّت مساحةً كبيرةً من مفرداتِ الحياةِ وتفاصيلها، وبأبياتٍ تفوقُ حداثةً “الكثيرَ” مما يكتبُ الآنَ تحتَ لافتةِ شعرٍ حديثٍ معاصر. 
وبشأنِ المعجمِ اللغويِّ الذي عزتْ إليهِ الفرقَ الثالثَ فاتها معرفةُ أنَّ لكلِّ عصرٍ لهجتهُ الخاصةَ فالشاعرُ الجاهليُّ لم يكن جمهورهُ يعاني من وحشيةِ المفردةِ ولا الإسلامي ومثلهُ الأموي والعباسي وهكذا تتطوّرُ اللغةُ كلما أوغلنا في المسيرِ نحو المستقبلِ، وربما لغتنا المعاصرة يجدها من يأتي بعدنا بعقودٍ صعبةَ الفهمِ فيقصي الكثيرَ من المفرداتِ-هذا إذا تجاوزنا موضوعة اللغة العليا في الشعر- فاللغةُ العربيةُ لغةٌ حيّةٌ كما عدّها مصطفى جواد. 
ولا أدري –رابعاً- كيفَ حكمتْ على الشعرِ القديم بالمجمل بالسطحيّةِ والحديثُ منهُ بعمقِ المعنى؟! وقد ذكرت أن المتنبي كانَ أولَ قراءاتها فهل رأت فيهِ البساطةَ والسطحيةَ متفوّقةً على شراحهِ الواحديّ والعكبريّ والعشراتِ غيرهم واختلافهم في “.. شاغل الناس”، ومثلهُ المعريّ وابن الفارضِ وغيرهم، حكمٌ كهذا نحن بحاجةٍ إلى وقفاتٍ تلو الوقفاتِ لنبيّنَ مقدرةَ الكثيرِ من الشعرِ القديم لأن يكون عابراً للعصورِ، وحكمٌ كهذا دالٌ بما لا يقبلُ الشكَّ على قلّةِ الاطلاعِ وسذاجتهِ، وبقراءةٍ محايدةٍ لما ينشرُ ويطبعُ هنا وهناكَ تمرُّ علينا نصوصٌ توصفُ بالعمقِ في الشعرِ الحديثِ حتى نكتشفَ في كثيرٍ منها غيابِ الموضوعةِ أمامَ التلاعب باللغةِ والغموضِ المصطنع والإبهامِ المتعمّد، ولا نجدُ صعوبةً في الإشارةِ إلى التجاربِ الحقيقيةِ في الشعرِ المعاصر لتمييزها عن سائرِ الكتاباتِ الأخرى. 
هذا المقال لم يكتب بدافعٍ شخصيّ أو لنقدِ الشاعرةِ تحديداً بقدرِ ما هو حالةٌ عامةٌ نراها بشكلٍ متكررٍ على المواقعِ الإعلاميةِ المتنوعةِ، التي تتحملُ وزرَ صنعِ الأسماءِ المغمورةِ وإعطائها أكثر من حقها، ولا نبخسَ دورهُ في إظهارِ الأصواتِ الإبداعيةِ، وهي كلمةٌ رأيتُ من واجبي الأدبي والأخلاقي طرحها بلا تزييفٍ، فعلى الشاعرِ أو الشاعرةِ أن يكون أكثرَ انتباهاً للمسؤوليةِ الكبيرةِ الملقاةِ على عاتقهِ، والابتعادِ عن إخضاعِ الشعرِ العربي لمذاقهِ الخاصِ وقياساتهِ- خاصةً غيرُ المتصدّين للنقدِ أو أصحابُ التجاربِ الكبيرةِ في الشعر-، أما الذينَ هم في مقتبلِ تجربتهم الشعريّةِ فعليهم الابتعادِ عن الغرورِ والزهوِ بهالةِ الأضواءِ التي تجعلهم لا يرون أمامهم جيداً، والمدح الذي أصبحَ صنو المجاملة لا التشجيعِ.
أمنياتي للشاعرةِ بمزيدٍ من الاهتمام بالجانبِ الشعريّ والتألقِ في مسيرتها الشعريةِ والسعيّ لأن تكون أكثر نضجاً في حوارات مقبلة.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *