اللذة والخطيئة والانتحار الفاشل في رواية جديدة لباريكو



هيفاء بيطار


تدور رواية “عمواس”، للكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو حول الإنسان الذي لا يدرك ما يحصل معه ولا يُقدره إلا بعد فوات الأوان، والرواية تتقاطع إلى حد بعيد مع رواية “قايين” لخوزية ساراماغو، فهي تدور في الفلك الأبدي في حوار الإنسان مع الخالق، وفي مفهوم الخطيئة الأصلية في الديانة المسيحية والشعور بالذنب تجاه رغبات الجسد، وتحديدا الجنس.
تحكي الرواية، الصادرة عن دار “دال للنشر”، من ترجمة راغدة خوري عن حياة أربعة شبان يافعين، أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة ويعتقدون أنهم طبيعيون تماما، إذ لم تكن هنالك خطة غير أن يكونوا طبيعيين، كما لو أنه ميل ورثوه خلال أجيال وأجيال، ويقولون عن أهلهم إنهم عملوا كل شيء في غربلة الحياة لإزالة كل ما هو غير مُتوقع منها، وكان هؤلاء الشبان يعتقدون أنهم سعداء، ومؤمنون إذ لم تكن تبدو هنالك إمكانية أخرى غير الإيمان. ويقولون “كنا نؤمن بشراسة وجشع لا كإيمان هادئ، إنما بعاطفة لا يُمكن ضبطها، كضرورة، إنها بذور بعض الجنون”.
الشبان الأربعة وأحدهم اسمه القديس والآخر لوقا واثنان آخران يعشقون فتاة باهرة الجمال والسحر اسمها أندرية، وأندرية تمثل غريزة الجنس بكل عنفوانها، وقد تعمدت أن تكون نحيلة جدا، وكانت النحافة لدى الفتيات في ذلك الزمن مُتعمدة، كما لو أنها إرادة تحول في الأجساد لجعلها أكثر قوة وإثارة. وكان لدى هؤلاء الشبان شعور دائم بالذنب، لأن “رائعة الجنس” كما يُسميها الكاتب مرتبطة دوما بتأنيب الضمير.
وكانت أندرية تعيش حياة جنسية منفلتة إلى أبعد حد، حتى أنها كانت تُضاجع رجلين معا، وقد قامت مرارا بمحاولات عملية انتحار، لكنها كانت تخفق في كل مرة، وكانت تضاجع لوقا وصديقه في الوقت نفسه، ثم يُكتشف أنها حامل، ولكن يتبين أنها حامل من الصديق الذي اسمه القديس، وهو شاب ماجن ومدمن مخدرات وارتكب جريمة قتل إذ قتل خنثيا.
لم يتحمل لوقا الشاب العاشق هول هذه التجارب مع أندرية، فينهشه القلق حول احتمال أن يكون الجنين في بطنها ابنه، عندها يعيش صراعا مُدمرا، لكونه ارتكب فعل الزنى، وصار مجللا بالخطيئة الأصلية التي لبسته منذ ولادته، فينتحر راميا نفسه من الشرفة.
في سير الرواية يدفع الجميع أندرية إلى التخفف من ذنوبها وعهرها بأن تمارس سر الاعتراف للكاهن، إذ يعتبر سر الاعتراف من أهم الأسرار في الديانة المسيحية، وتعترف أندرية أخيرا بسلوكها المشين والإباحية الجنسية التي تعيشها وتعترف بأن جنينها هو ابن الشاب الفاسق المسمى القديس، لكن القارئ في النهاية يصدم حين يكتشف أن الكاهن هو الوالد الحقيقي لأندرية الماجنة.
أحداث الرواية مجرد تفصيل أو إطار للجحيم النفسي الذي يعيش فيه الإنسان المُكبل بمحظورات دينية، فهي تجرم جيلا كاملا من الشبان بسبب غرائزهم الجامحة والإيحاء لهم دوما بأنهم يجب أن يقهروا غرائزهم لأن كل إنسان يحمل في أعماقه الأمل بشعور أسمى وأكثر نبلا في الحياة عن الأشياء وقد لُقنوا بأن هذا الأمل بالخلاص من غرائز الجسد الوضيعة يُصبح يقينا، على ضوء الوحي وواجبا يوميا في عتمة الحياة.
ولهذا السبب وُجد سر الاعتراف كي نمحو خطايانا وننعم بالسلام، لكن أندرية التي تمثل حرية الجسد البشري بكل عنفوانه وغرائزه تقول عبارة بالغة الدلالة “أنا غير قادرة على أن أشعر بالامتنان نحو الحياة”، وهذا هو خطؤها الذي جعلها تكرر محاولات الانتحار. كان صوتها وهي تتكلم هادئا، لكن كانت فيه فجوة لا تراها، تقول “أريد التوبة، أريد التوبة عن حزني”.
يبدو أبطال باريكو مُعذبين ويجللهم شعور الخطيئة ويعيشون صراعا يدمرهم نفسيا، بين توق أجسادهم (كما خلقها الله) للعيش الحر وللإعلاء من قيمة الجسد والفرح بالحب والجنس، وبين منظومة أخلاقية تعتبر كل شعور طبيعي خطيئة يجب التكفير عنها بسر الاعتراف، ويجب سحق براعم الغريزة بقوة وبلا رحمة لأن في الجسد تكمن الشهوات، والشهوات من عمل الشيطان.
هؤلاء المراهقون من لوقا إلى القديس الماجن إلى الصديقين الآخرين الذين كانت أندرية تضاجعهم جميعا، كلهم ضحايا مفهوم الخطيئة الأصلية، ولم يكونوا يتمتعون بخلفية ثقافية ومعرفية لمجرد أن يتساءلوا: لماذا نحن خطأة ولماذا يجب أن يجللنا شعور العار والإثم تجاه رغبات جسدنا الجامحة؟ من وضع تلك المنظومات الأخلاقية التي تدمر الإنسان، بل وتدفعه إلى الانتحار أحيانا كما انتحر لوقا؟
إنهم يصرخون في وجه الخالق نفس الصرخة التي انطلقت من حنجرة قايين بطل ساراماغو “يا إلهي أنت المسؤول، أنت خلقتنا بهذه الصفات وأنت من وضعت الشهوة وأشعلت الغريزة في قلوبنا وأجسادنا فلماذا نُعاقب؟ ولماذا علينا أن نشعر دوما بمشاعر الإثم فنعيش بحزن؟”، هذا الحزن الذي عبرت عنه أندرية هو أكبر اضطهاد وجريمة في حق الإنسان، لأن الأديان كلها وُجدت من أجل سعادة الإنسان وليس شقاءه.
في الرواية ثمة عبارة ترد على لسان أحد الشبان “كنا كاثوليكيين وليس من عادتنا التمييز بين القيمة الجمالية والقيمة الأخلاقية، علمونا أنه يجب ممارسة الجنس لمجرد التواصل وليس من أجل اللذة. أين رحمة الله؟ أليس الإله الرحيم يكمن في التفاصيل؟”. هكذا يعيش الإنسان حياته ممزقا وفي حالة صراع دائمة بين ما يتوق إليه جسده وواجب الطهارة ومحاربة شهوات هذا الجسد بكل شراسة.
يصف الروائي الوجود بأنه بهلواني وغير مترابط، حيث هناك صراع مؤلم بين طبيعة الإنسان وحقيقته وسعادته وما يتوق إليه وبين الوصايا أو القوانين التي تضعها الكنيسة للتوبة والتطهر من دنس شهوات الجسد. هذه المنظومة لا إنسانية ولا تتسبب فقط في جعل الإنسان حزينا بل في انهياره نفسيا وعقليا، خاصة أن قلة قادرة على التشكيك وطرح الأسئلة في وجه هذه المنظومة القاسية. لكن تميز الرواية يكمن في أنها تحلل بطريقة مدهشة كم تعذب الإنسان بمفاهيم دينية خاطئة وأبرزها الشعور بالإثم تجاه غرائز الجسد ووجوب محاربتها دوما للتطهر ولاستحقاق دخول ملكوت السماوات.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *