عبد الوهاب بن منصور: الرواية تسدّ ثقوب التاريخ


* حاورته/ نوّارة لحـرش


عبد الوهاب بن منصور، بدأ قاصا شغوفا بالقصة وعوالمها، حيث صدرت له مجموعته القصصية الأولى (في ضيافة إبليس) عام 1994 عن قصر الثقافة والفنون بوهران، بعدها عرج إلى الرواية، فكتب (قضاة الشرف) التي صدرت عام 2001، عن منشورات اتحاد الكتاب، والتي تُرجمت إلى الفرنسية، كما ترجم معهد غوته الألماني مقاطع منها في كراسات قدمها للتعريف بالأدب الجزائري خلال معرض الكتاب الدولي لفرانكفورت سنة 2003. وفي 2006 صدرت له روايته الثانية “فصوص التيه”، والتي صدرت ترجمتها الفرنسية عن منشورات البرزخ. كما صدرت له رواية بعنوان “الحيّ السفليّ”. في هذا الحوار يتحدث الكاتب عبد الوهاب بن منصور، عن كتاباته التي تنهل من الصوفية وقاموسها وتسبح في فضاءاتها الرحبة، وعن التصوف الذي يرى أنه “ليس فلسفة أو معرفة كما يشاع عند كثيرين، بل هو ممارسة. الممارسة التي أوجدت معها فلسفة حياة”. إلى جانب هذا يتحدث عن تجربته في كتابة المسرح والسيناريوهات الوثائقية والسينمائية. 
من القصة إلى الرواية، كيف كان درب التنقل في الكتابة من متن إلى آخر ومن جنس إلى آخر، وهل ستستقر في الرواية التي انتعش سوقها مؤخرا؟
عبد الوهاب بن منصور: حقيقة لا أنظر إلى القصة والرواية كجنسين مختلفين (بعيدا عن الخصوصيات الفنية لكلّ منهما) لأحدهما فضل على الآخر أو أحسن منه، وأذكر أن نص “قضاة الشرف” بدأ نصّا قصصيا لكنّه انتهى رواية. فهاجسي الأوّل والأخير أثناء الكتابة يبقى الإضافة الفنية والأدبية الممكن تقديمها سواء كتبت قصة أو رواية. والمتتبع لمساري الأدبي يكتشف دون عناء قلّة إنتاجي في الجنسين، لذلك لا أرى أنّي تركت كتابة القصة نهائيا لأنخرط في الرواية، الّتي حقيقة اتسعت رقعة قرائها مقارنة بالقصة.
هل ستظل وفيا لفن القصة رغم تراجعها مقارنة باكتساح الرواية؟
عبد الوهاب بن منصور: لا أنكر أنّي بدأت مساري الأدبي قاصا، ونلتُ جوائز أدبية في القصة، وبفضل تلك المجموعة القصصية “في ضيافة إبليس” عرفني القُراء، لكني لم أنظر أبدا للقصة كعجلة إسعاف أو كمرحلة تدريب فقط من أجل كتابة الرواية. ما يستهويني ويشدّني للقصة هو لغتها المكثفة وأنا مهووس باللغة.
منذ “في ضيافة إبليس” لم تصدر مجموعة قصصية أخرى، لماذا؟
عبد الوهاب بن منصور: بعد “في ضيافة إبليس” كتبت نصوصا قصصية ونشرت بعضا منها في بعض المجلات أو الجرائد أو المواقع الإلكترونية، وكلها تقريبا تدخل في خانة التجريب محاولا تقديم إضافة أدبية خاصة وأنّي حاولت أن أشتغل على القاموس الصوفي.. ربما سأفكر أن أجمعها في إصدار لاحقا..
روايتك “قضاة الشرف” بدأت كتابتها بمنزل بختي بن عودة، هل يمكن القول أن بختي كان محفزا أو محركا لفصول هذه الرواية بشكل من الأشكال وهل من أثر لبختي في متنها غير أنها مهداة له؟
عبد الوهاب بن منصور: أذكر جيدا ذلك المساء البارد ببيت بختي بن عودة، حين بدأت بكتابة “قضاة الشرف”، والحقيقة أنني اعتقدت أنّي سأكتب قصّة، لكن في الصباح حين اطلع بختي على ما كتبت نبهني إلى أن الثلاث صفحات يمكن أن تكون بداية مشوقة لرواية. وفعلا قررت أن تكون رواية وقد أهديتها له. والجميل هو أن صديقي بختي كان يسألني كلّما التقينا عنها فأقرأ له ما كتبت، لذلك تمنيت أن يقرأها حين تكتمل. لكن الاغتيال المفاجئ له حرمني من معرفة رأيه. فكان لزاما عليّ من باب الوفاء أن أهديها له. ولا أنكر أن خبر موته جعلني أتوقف لأكثر من سنة عن الكتابة. والقارئ المتمعن لا شك أنّه يكتشف تحولا في مسار الرواية “قضاة الشرف” بسبب الاغتيال.
الرواية ذاتها تم اقتباسها وتحويلها إلى عمل مسرحي بعنوان “منين جاي، وين رايح”، من إخراج سمير مازوري، كيف وجدت الرواية وهي ممسرحة، وهل الاقتباس كان وفيا لروحها وفصولها وأحداثها؟
عبد الوهاب بن منصور: مهما كان فإن العمل الروائي حين يقتبس إلى المسرح يفقد بعضا من خصوصياته، فالرواية تعتمد على اللغة فقط، في حين المسرح مشاهد فبالإضافة للغة تدخل عوامل أخرى من حركة وموسيقى وغيرها.. رغم أنّي قمت بالاقتباس، لكن يبقى المخرج “سمير مازوري” له قراءة أخرى مختلفة سواء للرواية أو للنص المسرحي المقتبس منها، لذلك عملنا على الحفاظ على روح الرواية خاصة وأنّي اضطررت لحذف بعض الشخصيات ولأحداث كثيرة في الرواية والتي لا يتحملها العمل المسرحي. المهم أن الرواية وهي ممسرحة نالت إعجاب من شاهدها رغم النكهة الفكاهية التي نمقها بها المخرج لكنها لم تخرج عن روح النص الروائي وتوجهاته.
الرواية استثمرت في التراث والتاريخ، برأيك لماذا الروايات الجديدة تستثمر وتستلهم وتلتهم كثيرا من الصوفية والتراث والتاريخ؟
عبد الوهاب بن منصور: مهما قيل عن الرواية التي اعتمدت أو استندت على التاريخ فهي رواية وليست تاريخا ولا يمكن أن تكون بديلا عنه. وشخصيا أرى أن الرواية تسدّ ثقوب التاريخ بمعنى آخر أن الرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم بتعبير عبد الرحمن منيف. فالرواية، في رأيي المتواضع، عليها واجب كتابة التاريخ غير الرسمي والشفوي. فالرواية تقول ما لم يقله المؤرخ والسياسي أو ما حاولا إغفاله، لأنّ، مثلما قال منيف عن الرواية التاريخية، أحداثها وتأثيرات هذه الأحداث لا تزال تجري أمام أنظارنا، أي الآن. وبكل بساطة فهي إعادة تركيب ونسج لأحداث وفق رؤية آنية. أمّا عن التصوف فالمسألة بالدرجة الأولى متعلقة باللغة، لغة السرّ والكتمان ذات حمولة خاصة لذلك نجد كثيرا من الروائيين حاولوا استلهام التراث الصوفي رغم مخاطره، وأقول مخاطره لأنّي أعتقد أن التصوف يُقرأ من داخل وليس من خارج مثلما هو الحال عند كثير من الروائيين.
حتى رواية “فصوص التيه”، تغوص في الفضاء الصوفي بقوة، هل الصوفية منشدك ومتكأك في الكتابة الروائية تحديدا، وما الذي يجعل الصوفية تستهويك وتفرد طقوسها على كتاباتك؟
عبد الوهاب بن منصور: مثلما قلت سابقا، فالتصوف يُقرأ من داخل وليس من خارج، بمعنى أنّ محاولة استلهام لغة الصوفيين فقط محفوفة بالمخاطر، بدءا من السمع والفهم فالمعرفة ثم العرفان. والدرجات الأربعة لا يمكن بلوغها من خارج، أي دون تجربة صوفية خالصة. فالتصوف ممارسة قبل أن تكون معرفة أو فلسفة كما يعتقد كثيرون.
وفي رواية “فصوص التيه” حاولت الجمع بين الطقس والقاموس الصوفيين وعملت على تقديم نص روائي حامل للمعرفة وليس مجرد رواية أحداث تترابط فيما بينها. وأعتقد أن الكتابة تجربة شخصية، لذلك كان عامل البيئة التي عشت فيها تأثيرا عليّ، فقد تربيت في وسط صوفي بطقوسه المختلفة وممارساته وحكاياته، التي تبلغ حدّ الأسطورة زيادة عن لغة الإشارة والرمز، وأمام كل هذا التراكم كان علي واجب السؤال والمساءلة بإنتاج نصوص روائية تستلهم هذا التراث.
“فصوص التيه” تُرجمت إلى الفرنسية وصدرت عن منشورات “البرزخ”، لماذا برأيك تتأخر الترجمة في الالتفات إلى النصوص العربية؟
عبد الوهاب بن منصور: صحيح ما تقولين.. فالترجمة تتأخر عادة للنصوص العربية وأعتقد أن ذلك يرجع بالدرجة الأولى لتقصيرنا في تقديم أعمالنا، ولو أنّي أرى أن مهمة الكاتب هي الكتابة للقارئ العربي أوّلا، أي يكتب لمجتمعه وليس لمجتمعات أخرى. ولا أنكر أن الترجمة لنصوصنا تفتح لنا حقولا جديدة سواء من حيث القارئ والناقد. فبعد ترجمة “قضاة الشرف” إلى الفرنسية بعد صدورها ثم ترجمة فصول منها إلى الألمانية في كتيب كان معروضا بمعرض فرانكفورت بألمانيا سنة 2003، تمّ نقل “فصوص التيه” إلى الفرنسية مؤخرا وأنا سعيد بهذه الترجمة خاصة وأنّها حافظت على خصوصياتها اللغوية.
تكتب للمسرح وتشتغل على نصوص مسرحية بالموازاة مع الكتابة الروائية، لماذا هذا الهوس بالمسرح، وهل تستوعب الخشبة ما لا يستوعبه المتن الروائي؟
عبد الوهاب بن منصور: المسرح حلم طفولي قديم. لقد عشقت المسرح وأنا تلميذ ثم طالب وعشت فترة متواضعة مع المسرح ثم انقطعت عنه لكن ظل الحنين إليه مشدودا. وفي محاولة مني لتحقيق هذا الحلم القديم أو جزء منه أشتغل كتابة على المسرح. وبالنسبة لي فالكتابة للمسرح أو الرواية أو القصة هي عمل إبداعي أحاول من خلالها تقديم إضافة جديدة وكتابة شيء متميز وجديد. فالاختلاف الموجود بين هذه الأجناس يبقى اختلافا تقنيا فقط إضافة إلى أن المسرح يبقى عملا جماعيا يتدخل فيه مجموعة من التقنيين لإحياء النص في حين تبقى الرواية عملا مرتبطا بشخص الكاتب. فالمسرح له إمكانية تحويل نص من الورقة إلى عمل حيّ يُسمع ويُشاهد..
كتبت سيناريوهات لأفلام وثائقية وسينمائية، منها سيناريو تاريخي حول التعذيب في الجزائر (سكوت، إننا نعذب)، ماذا عن هذه التجربة، وما الذي دفعك إلى خوض غمار الكتابة السينمائية، وهل السينما الجزائرية تناولت موضوعة التعذيب كما يجب، أم تناولتها بسطحية وبعمق أقل؟
عبد الوهاب بن منصور: منذ سنوات قليلة فقط اتجهت كذلك لكتابة سيناريوهات أفلام وثائقية، ولا أنكر أن ما شدني إلى هذه التجربة المتواضعة هو عملية البحث الّتي تسبق الكتابة ثم تصوّر العمل فنيا من مؤثرات وصوت وضوء…إلخ. فأنا مولع بقراءة التاريخ والبحث التاريخي إضافة إلى التصوف كما قلت سابقا لذلك كان أوّل سيناريو كتبته تمحور حول شخصية صوفية جمع بين الموسيقى والشعر والتصوف.. وآخر الأعمال كان سيناريو حول التعذيب وقد تمّ عرض الفيلم الوثائقي مؤخرا بالعاصمة بمناسبة احتفالية عيد الاستقلال بعنوان “سكوت إننا نعذب”. ورغم الأفلام الكثيرة التي تعرضت لهذا الموضوع الحساس فإني عملت عليه بطريقة جديدة حيث لم أسقط في متاهة ذكر التعذيب الذي تعرض له الجزائريون وطرق التعذيب وأماكنه ومراكزه فقط بل تطرقت إلى أسبابه وأهدافه السياسية والاجتماعية والثقافية، إذ ليس من المعقول أن نربط التعذيب في الجزائر بمعركة الجزائر فقط أو لأجل الحصول على المعلومة، مثلما كان يوهمنا الاستعمار الفرنسي وعليه تم إنجاز مجموعة كبيرة من الأفلام الوثائقية أو التخييلية. لقد كان التعذيب في الجزائر مرتبطا بنظرة عنصرية بحتة تعود إلى بداية الاحتلال، ولم يكن أي جزائري سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا في منأى عن التعذيب، ولم تخلو مدينة أو دشرة جزائرية من مركز للتعذيب. بكل بساطة فإن التعذيب وفنونه كان يدرّس في مدرستين أنشئتا خصيصا لهذا الغرض واحدة بسكيكدة وأخرى بأرزيو.
بين ”فصوص التيه” و”فصوص الحكم” لابن عربي، أين تكمن القواسم المشتركة وأين تختلف وتتمايز، وما الذي أضافته فصوص ابن عربي لتجربتك ولفصوصك؟
عبد الوهاب بن منصور: طبعا فمن خلال العنوان “فصوص التيه” الذي يحيلنا إلى فصوص الحكم لابن عربي ندرك أننا ندخل عتبة صوفية ونتدرج في معارجها بغية بلوغ حكمة ما أو لنا أن نتيه بين مسالكها. والتيه حكمة صوفيه تبدأ بالقلق ثم المحو ليكون اليقين. فالتصوف لا يعترف بالتضاد، إذْ ليس في قاموسه كفر وإيمان ولا رطب ويابس، إنما العذب من العذاب. وانطلاقا من قراءتي لابن عربي ولفصوصه حاولت تبسيط متنه بمتن يحيل إليه ويستند إليه. وما الابن (في رواية فصوص التيه) غير مريد بن عربي (في فصوص الحكم) مسلوب الإرادة وعديم القدرة لكن حقه في السؤال يظل يربطه بالتعرج والتدرج في المقامات حتى يبلغ مقام التيه إذ تمحي فيه كل الأضداد وتلك حكمة أحببت أن أُعرف.
كيف تقرأ الآن علاقتك بالتصوف، وهل خدمت كتاباتك على مستوى اللغة تحديدا، وهل التصوف لديك أسلوب كتابة وتعبير فقط، أم هو أيضا أسلوب حياة وممارسة؟
عبد الوهاب بن منصور: كما قلت سابقا فإن التصوف ليس فلسفة أو معرفة كما يشاع عند كثيرين، بل هو ممارسة. الممارسة التي أوجدت معها فلسفة حياة. ولذلك أقول مرة أخرى، أنّ التصوف لا يمكن قراءته وفهمه من خارج أي أن تجلس وتقرأ المتن الصوفي وتقول فهمت. لقد وضع ابن عربي الكتابة أو القراءة على مستويات ثلاث، فالأول للعامة والثاني للخاصة والثالث لخاصة الخاصة. فالمستوى الأول هو لمن أراد القراءة من خارج، مثلما وضع للخاصة ولخاصة الخاصة شروطا لبلوغ العرفان وهو الجمع بين العمل والقول إذ اشترط السمع ثم الفهم ثم المعرفة. أمّا الحديث عن اللغة فذاك حديث آخر لأن الصوفية وضعوا قواميس لمصطلحاتهم فالقبض عند بن عربي ليس هو قبض النقشبندي أو الجنيد أو حتى القشيري.
روايتك “الحيّ السفليّ” نأيت بها من الصوفية إلى الواقعية أكثر، كما اشتغلت فيها على محطات من سيرتك الذاتية، لماذا اللجوء إلى الذات والسيرة في هذه الرواية تحديدا، وهل الصوفية لم تعد ملاذا لكتاباتك ولخطك الأدبي؟
عبد الوهاب بن منصور: لقد قلت أنّ الكتابة تجربة شخصية وما بيني وبين كتاباتي خيط رفيع، أي لا تخلو نصوصي من سيرتي. فروايتي القادمة ليست بشكل “قضاة الشرف” ولا “فصوص التيه” رغم أنّها تنبع هي الأخرى من التراث والتاريخ. وأعتقد أنّ الموضوع يفرض طريقة ولغة تناوله لذلك نأيت عن الصوفية في هذا العمل فقط. وهي رواية بعنوان “الحيّ السفليّ” تقرأ تاريخ الإنسان وارتباطه بالمكان فالحيّ السفليّ له معنيين.
—————
*جريدة النصر الجزائرية 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *