عظامك يا سعد



*زياد خداش


جعلتني مصادفات متلاحقة أعرف الشهيد عبد القادر جرادات، المعروف نضالياً سعد جرادات، كنت غارقاً في كتاب شغل روحي وتفكيري منذ أشهر “حياة غير آمنة، جيل الأحلام والإخفاقات” (دار الساقي، 2014)، ذكر مؤلفه شفيق الغبرا تفاصيل كثيرة عن بطولة الشهيد سعد الذي كان أول مسؤول عن الكتيبة الطلابية في لبنان. وفي أثناء وجودي في سيارة أجرة عائدا إلى البيت في المخيم، سمعت مذيعاً في راديو السيارة يتحدّث عن سعد جرادات الذي سقط في بيروت عام 1976، وذكر صلة قرابة بينه وبين الشهيد الشاب عرفات جرادات الذي سقط في فلسطين قبل سنتين. ولدى وصولي إلى المخيم، وبينما كنت أمشي تجاه البيت، أوقفني ابن أخي في الطريق، وطلب مني أن أذكر له أسماء عشرين شهيداً فلسطينياً، وهو واجب صفي له في مادة التاريخ، فذكرت له أسماء كثيرين. وفي لحظةٍ، مرّ عنا رجل سبعيني، وسمعني وأنا أعدّد أسماء شهداء، فإذا به يضع يده على كتفي، ويقول بحزن: لا تنس الشهيد سعد جرادات.
أصبت بالرعب، فغير معقولة هذه المصادفات المتعاقبة التي تحثني على معرفة الشهيد الكبير المحبوب. اكتمل رعبي تلك الليلة وصار بالفعل أمراً تنبغي دراسته، حين قرأت في صفحة الصديق معين الطاهر، قائد الكتيبة الطلابية في لبنان، نصاً يحيي فيه الذكرى الأربعين لاستشهاد البطل سعد جرادات. (في صباح ذلك اليوم، أرسل رسالة إلى أبي حسن قاسم الذي كان موجودًا في الجبل عن عزم بعض الوحدات والفصائل شنّ هجوم على منطقة الأشرفية في محاولةٍ لتخفيف الضغط عن مخيم تل الزعتر، وأنّه يُجري الحشد لذلك من منطقة رأس النبع، وسيتم الهجوم انطلاقاً من مواقعنا في البرجاوي، وأعرب سعد عن رفضه مشاركة وحدة من السرية في الهجوم الذي يفتقر إلى قيادةٍ حصيفة وتنظيم متقن. مساءً، قرّر سعد، قبل أن يتوجّه إلى منزل عروسه، أن يتفقد المنطقة، فهالته حالة الفوضى وتراجع المقاتلين وهروبهم من أرض المعركة، فأخذ بندقية أحدهم، معتقدًا أنّه إذا تقدمهم سيتبعونه، فلم يتبعه أحد. استشهد سعد. حاول إخوته في السرية البحث عنه، وقاموا بتمشيط المنطقة التي تقدّم إليها من دون جدوى. وفي اليوم الثاني، علمنا أنّه عُثر على جثمانه من قبل قوات الكتائب، وسُحل الجثمان في شوارع الأشرفية، مرتدياً البدلة البيضاء الخاصة بخطوبته). 
لم يُعثر على جثة سعد، تم سحلها واختفت متناثرة أو محروقة في مكانِ لا يعرفه أحد، ولمّا كانت العظام لا تختفي أو تذوب، فالمؤكد أن عظام سعد موجودة الآن متناثرة في جهات مختلفة، مطحونة أو محروقة في مكانٍ في بيروت، ربما تكون اختلطت مع إسمنت عمارة، أو تراب حديقة أو أرض ملعب كرة قدم، أو أساسات مدرسة، أو بئر مياه جوفية. لو أن العظام تتكلم، لنادت علينا عظام سعد، ونحن نمشي في بيروت أو نجلس، أو ننام، ولصافحناها دامعين. 

لا يهدأ أهل الشهداء، قبل أن يواروا أجساد أبنائهم في التراب، مواراة الجثة في التراب تشبه عقد هدوء وطمأنينةٍ، يوقعه أهل الشهيد مع القدر: (مات الآن ابننا، هذا قدرٌ لا راد له، لا تراجع عنه. هو الآن موجود تحت التراب، مصوناً من برد الطقس أو حرارته، ومحفوظة كرامة جسده من إذلال عراء). أراقب قلق الكاتب الصديق محمد عليان، وتوتره ودموعه، وهو والد الشهيد بهاء عليان، منفذ عملية الباص قرب جبل المكبر، وترفض سلطات الاحتلال إطلاق سراح جثته. لن يهدأ محمد، فابنه يموت كل يوم، إذا ظلّ من دون دفن، هكذا يتم بسياسة شيطانية فاشية تجزيء أحلامنا وتقزيمها، صار الحلم الآن استرجاع جثة أبنائنا، لا حياتها؟ 
أشياء كثيرة كان يمكن لو فعلناها أن نسترجع فيها روح سعد وحياته وفكره. أشياء كثيرة جداً، أهمها ليس طبعاً أن نبحث عن عظامه في أساسات العمارات وآبار مياه بيروت، بل أن نحول غيابه إلى رافعةٍ أو طريقٍ لتحقيق الأهداف العظيمة التي تناثرت من أجلها عظام سعد؟ 
_________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *