“مُعلقات” فايسبوك وتفريخ الشعراء


*عدنان نعوف


هنا لن تنتظِرَ أن يُقلدَك أحدهم وسام الشرف من رتبة “شاعر”، فمكانتك من صنع يديك سواء أكانت حقيقية أم مجرد فقاعة. فمن دون ضبط للساعات على مواعيد الأمسيات، ولا تهافت للجلوس في الصفوف الأمامية، تُقام هنا أمسية مفتوحة تحدِد بدايتها ومضةُ إبداع أضاءت مخيلة الشاعر، أو لحظة استرخاء له أمام شاشة الحاسوب، لا أكثر.
وجهاً لوجه مع الجمهور تجدُ نفسك كناظمٍ للقصائد بلا منبر يرتقي بك عن الحضور، لكن مع هالةٍ تكبر أو تصغر تبعاً لحجم الإعجاب والتفاعل. ففي عالم “الفايسبوك”، لكَ وحدك الكلمة كي تكرس اسمك مقترناً بلقب “شاعر”.
غير أن هذا الطريق الممهد أمام من يريدون بناء سمعتهم الشعرية يثير تساؤلاً جوهرياً تعكسه مقارنة بسيطة. فإذا كان ازدياد عدد الأطباء، مثلاً، يشكل مظهراً إيجابياً بحيث يصبح لدينا طبيب لكل خمسة أشخاص، فإن المعطيات تبقى مختلفة في عالم الإبداع؟ فهل سنكون محظوظين بأن يصبح هناك شاعر لكل قارىء من مرتادي “فايسبوك”؟
“ما شعرتُ يوماً بيأس من الشعر، وما كنت مفتشاً عن هويته”.. عبارة قالها محمد الماغوط يوماً في أحد حواراته، لكن هل كان سيبقى على موقفه لو ورأى ما رأى من سباق يجري حالياً لتحصيل الألقاب بغض النظر عن القيمة الفنية للأعمال الشعرية وقابليتها للحياة؟
بالقياس مع ما يجري في مختلف المجالات الأدبية والفنية سيكون من التبسيط المبالغ فيه إيجاز حال “ديوان العرب”، بالقول “ما أكثر الشعر وما أقلّ الشعراء” وحسب. فالمسألة لا تنتهي هنا طالما أننا نعيش زمن استعجال القطاف، والوصفات السحرية التي تُعلّم الإنسان كل شيء في خمسة أيام، وثمانية قواعد، وعشر خطوات…
وفي مواجهة ذلك يبدو مستحيلاً إخضاع الشعر لطرق قياس ثابتة، وتحديد معايير لجدارة الشاعر بلقبه، لكن يمكن، في أقل تقدير، الانطلاق من تقييم النص قبل كل شيء بما يضمه من موسيقى ووزن، أو أفكار وصور وأخيلة. وهنا قد تُعلي بعض الآراء من هذا التوجه وصولاً للمطالبة بتقييم كلّ نصٍّ منفردا، إلا إنْ استطاع شخص ما كتابة نتاج غزير متقارب المستوى.
ومن ناحية ثانية، ثمة من يقول أن الأمر يتوقف أيضاً على كيفية تقديم نفسك كشاعر، فالناس يَنظرون إليك غالباً بالطريقة التي تريد أن يُنظر إليك بها. بالإضافة إلى أن اكتساب أي صفة يرجع لمردود الفرد اجتماعياً، وعلاقته مع محيطه.
هذه المُحدِدات وعناصر أخرى لم تكن إلا خلاصة استمزاج آراء مجموعة من الشعراء حاورتهم صحيفة “المدن”، وقدموا تصوراتهم عن المرحلة التي يعيشها الشعر حالياً.
فالشاعر فادي جومر لا يعنيه إلا الجمهور، الذي يُمكِنه “وحدهُ مَنح الشاعر منزلته” سواء أكان في الواقع أو في مواقع التواصل الاجتماعي. ويستدرك جومر أن “وجود ظواهر تكتب برداءة شديدة، وتحصد شعبية واسعة لا يُغيّر من أحقية القارئ وحده في تحديد ماهية ما يقرأه إن كان شعراً أم لا”. أما المرجعيات السياسية والثقافية التي اعتادت تعويم شعراء وتغييب آخرين فهي برأيه “لم تنتج إلا الخواء”. لذا فأجمل الشعراء كانوا أولئك المتمردين على تلك المرجعيات. كما يقول.
ولجومر تجربته التي تبلورت عقب اندلاع الثورة السورية، وهو “يحاول أن يكتب كما يحبّ أن يقرأ”، ويعتمد في جزء كبيرة من قصائده على اللغة المحكية البيضاء.
وبينما يعتبر أن الشعر النخبوي هو “كذبة مزعجة”، وأن الانتشار بين النخبة فقط قد يكون دليل عجز الشاعر، فإن جومر يؤكد أن النشر في مواقع التواصل يعيد السلطة في التقييم لأصحابها الحقيقيين أي الناس، بعيداً من “شِلَلية” دور النشر، ومحسوبياتها، وابتعاد نتاجها عن روح الشعوب، بالإضافة لخضوع الطباعة لعوامل كثيرة آخرها جودة النص، هذا إن دخلت في الاعتبار.
وهنا يشير جومر إلى أن “ثمة من لم ينشر يوماً إلا في صفحات الانترنت، ويكتب نصوصاً يقف القلب أمامها.. وهناك من طبعَ دواوين عدة وتُرجمت أعماله إلى أكثر من لغة، ولم يَقل حتى اللحظة بيتاً واحداً يلامس القلب”. ويتساءل جومر: “هل يكفي أن يتمكن أحدهم من طباعة مئة وخمسين صفحة من اللاشيء، ليصبح شاعراً؟.. إذاً فإصدار الدوواين يبقى ذا أهمية للشاعر نفسه.. لتوثيق نصّه، ومنحه شعوراً بالرضى. إضافة إلى توفير فرص أفضل للاعتراف به من قبل الجهات الرسمية وما شابه”. وبكل الأحول فإن “النص الجيد يصل إلى الناس، فقد تداولنا لعقود تسجيلات أمسيات مظفر النواب، من دون أن نرى له ديواناً”.
لكن هل شكّلَ وُجودُ قصيدة النثر بين الأنواع الشعرية فرصةً لغير الاختصاصيين لتجريب إمكاناتهم؟ يقول جومر إن الوزن لم يَحمِ الشعر من ظهور نتاج سيء، لكن شيوع ما يُصطلح على تسميته قصيدة النثر، ساهم كثيراً في استسهال الكتابة”.
من جانبها ترى الشاعرة رنا زيد أن مقتضيات العصر أدت إلى ظهور قصيدة النثر التي “تشبه التصوير الفوتوغرافي، ويمكن أن تقول لك ما تريده بمباشرة وجدية”.
وقد أسهمت صفحات الانترنت في شيوع أنواع أدبية ومنشورات مختلفة يُطلِق عليها أصحابها أشعاراً. ومن بين هذه المنشورات هناك الخواطر، وترى زيد أن القصيدة لا يمكنها أن تتحول إلى خاطرة، وإن حدث ذلك فالمشكلة في عقل القارئ، لأن “اللغة الرفيعة، لا تخفي نفسها”. في حين يبقى للشعر معالمه الواضحة فهو في نظرها “حالة من المواربة والشك، والريبة، والعار، واللذة”.
ولدى زيد خطها الشعري غير التقليدي لغةً وأسلوباً، والذي بدت ملامحه في كتابها “ملاك متردد” المترجَم إلى الدنماركية العام 2015.
وفيما ترفض رنا زيد رَهن مكانة الشاعر بتقديمه ما يحاكي السائد أو المطلوب، فإنها تعتقد أن الأولويات في هذا الأمر ربما ترجع إلى الأحاسيس التي تنتاب الشخص المعني نفسه، في كيفية فهمه لما يبوح به، ذلك أن “الشعر ليس متجراً للأغذية أو الأزياء حيث توضع المنتجات، بشكل مصنف ومرتب”. “والشاعر ليس ماركة، كما أصبح أدونيس حالياً، وأقنع الآخرين أنه يفتتح، متجره، غير الإسلامي”.
وإذ تؤكد زيد أن “فايسبوك” يشكل مختبراً للتجربة، ولرؤية الأصداء، فهي لا تُولي أهمية كبيرة لوجود متابعين لها من عدمه، وتعتبر أنه “ليس هناك لصاقة بلاستيكية يحملها الجمهور، ويضعونها على رأس أحدهم، ويقولون له: أنت شاعر الآن، فالمسألة عبارة عن عملية تراكم. إلا تلك المجاملات في فايسبوك، موقع التواصل الاجتماعي الأكثر تعرية للاوعي، حيث من السهل أن تقع فيه على عقد من الظهور والتبعية بين الكاتب والمتابع”.
عند هذه النقطة يتوقف الشاعر تمام تلاوي مؤكداً أن التفاعل الكبير مع نص ما على الانترنت ليس مؤشراً بالضرورة على علو كعبه، لأن هذا يعتمد على عوامل كثيرة منها طبيعة النص، ومكان نشره، والشريحة التي وصل إليها من الناس.
ويشير تلاوي إلى وجود الكثير من الابتذال في الكتابة أحياناً يتمّ التفاعل معه لأسباب أخرى غير إبداعية، مثل بعض النصوص التي تلعب على حساسيات جنسية أو دينية أو سياسية. وبالمقابل “ما من شعر جيد إلا ويجد تفاعلاً مقبولاً بالحد الأدنى معه، وهذا كاف”.
وفي سجل تلاوي جوائز شعرية عن دواوين وقصائد متفرقة بينها جائزة سعاد الصباح العام 2000 عن ديوانه الأول “منزل مزدحم بالغائبين”، وجائزة مسابقة الشعر لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.
وبالحديث عن دَور المتابعين في صناعة الشاعر، يلفت تلاوي إلى أن الحاجة لهم ربما تكون على أشدها في بدايات الكتابة، حيث يميل المبدع إلى تلمس حساسية المتلقي تجاه أعماله.
وكما أن تلاوي يتحفظ على كلمة “جمهور” لأنه لا يرى في الشعر حالة جماهيرية ككرة القدم أو الدراما مثلاً، فهو يحبذ تسميتهم بالقرّاء، ويؤكد على دورهم في الحفاظ على حياة النص، “فالكثير من الشعراء موتى بالمعنى المجازي، لأن أحداً لا يقرأ لهم”.
وعندما يصل الأمر للتقليل من شأن قرّاء “فايسبوك”، يرفض تلاوي اعتبارهم حالة افتراضية لأن “الحسابات الالكترونية يمتلكها أناس حقيقيون، وليس الشخوص من الرسوم المتحركة كما في برامج الألعاب. ويُضاف إلى ذلك “أن هؤلاء القرّاء أكثر واقعية من الجمهور التقليدي الذي كان يقرأ قصائدك من خلال الكتاب أو الصحيفة، حيث لم تكن تراه أو تسمع رأيه”.
ويعتقد تلاوي أن الفضاء الالكتروني قدّمَ خدمة للشعراء وللقصيدة التي أصبحت بضغطة زر واحدة تصل إلى آلاف الأشخاص خلال دقائق. وهو ما حرّر الشعراء من سطوة دور النشر والمنابر المختلفة.
وكنتيجة لمجمل ما تَقدم من آراء، يَصحّ القول أن التبدل في موقع الشاعر ومكانته لم يكن سوى أحد وجوه التحولات الجذرية التي ساهمت فيها وسائل الاتصال، وطاولت شكل الشعر وأغراضه والعلاقة مع الجمهور.
لكن أي مفارقة تلك التي جعلت سوق الشعر يزدهر في موقع “فايسبوك”؟ هذا المعرض والمنتدى والمقصد الأساسي الجامع للسياسة والتجارة والفن والأدب. وكأنه “سوق عكاظ” مُستعاد بصيغة محدّثة. 
أيكون التنافس وحب الظهور قد أعادا الأمور إلى نقطة البدء؟
______
*المدن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *