السعادة الشيء الأكثر تبجيلا في العالم


*هيثم حسين


يشير عالم الاجتماع الفرنسي فريدريك لونوار (54 عاما) في كتابه “في السعادة.. رحلة فلسفية” إلى أنّ البحث عن السعادة هو الشيء الذي يسعى إليه معظم الناس، إلا أنّه من العسير الكتابة في موضوعه، ويعرب أنه كالكثيرين يشعر بالانزعاج من الاستخدام العشوائي لهذه الكلمة، وعلى الأخص في الإعلانات كما في الأعمال التي تدعي تقديم وصفات جاهزة للسعادة.
ويلفت لونوار إلى أنه لكثرة ما يسمع المرء عن السعادة دون تمييز صار الحديث عنها غير مدرك، ويستدرك أنه خلف هذا الابتذال وبساطته الظاهرة تظل هذه المسألة مثيرة، وتحيل إلى عدة عوامل يصعب الفصل بينها. ويؤكد أن الأمر يتعلق بطبيعة السعادة نفسها التي يصعب الإمساك بها، إذ يشبهها بالماء والريح فما إن يشعر المرء أنه قبض عليها حتى تفلت منه.
تساؤل أبدي
يقول الكاتب في كتابه، الصادر عن دار التنوير، بترجمة خلدون اللبواني، إنه عاش التجربة شخصيا ووجد أن البحث عن السعادة ليس أمرا من دون معنى. وإنه يمكن للمرء أن يكون أكثر سعادة فعليا بتفكيره في حياته، أو بقيامه بالاشتغال على نفسه، أو بتعلمه لاتخاذ القرارات الأكثر حكمة، وكذلك من خلال تغيير أفكاره أو اعتقاداته أو التمثلات التي يكوّنها عن نفسه وعن العالم.
يقترح على القارئ رحلة فلسفية بالمعنى الواسع للكلمة، رحلة يسير فيها القارئ بصحبة عمالقة الفكر من أرسطو إلى أبيقور وإبكتيتوس وبوذا وجوانغ زي وشوبنهاور ومونتاني وإسبينوزا وغيرهم ممن أسهموا في هذا التساؤل الأبدي وفي ممارسة الحياة السعيدة. كما يستذكر لونوار مقولة أرسطو “من الصعب معرفة ما إذا كانت السعادة شيئا يمكن تعلمه، أو يمكن الحصول عليه بالعادة أو من خلال تمارين أخرى. وما إذا كانت السعادة تتأتى من خلال تشارك البعض من القيم السامية، أو حتى بالمصادفة”. ويشير إلى صعوبة تتعلق بالخاصية النسبية للسعادة، وتنوعها وفقا للثقافة، وللأفراد ولمراحل حياة كل واحد من الناس. يقول إنها تتنكر غالبا على هيئة ما ينقص المرء؛ مثلا تكون سعادة بالصحة، والعاطل عن العمل بإيجاد العمل، كما يضاف إلى هذه الاختلافات البعد الذاتي، فيكون الفنان سعيدا بممارسة عمله الفني، والمثقف بالتعامل مع المفاهيم، والعاطفي في علاقات الحب.
وفي فصل “لنحب الحياة التي نعيشها” يلفت لونوار إلى أنه من الأسهل على أي منا الإجابة عن سؤال “ما الذي يجعلك سعيدا؟”، عوضا عن ذلك التساؤل المحرج “ما السعادة؟”.
يكتب أنه يستطيع القول إنه سعيد عندما يجد نفسه بحضور أولئك الذين يحبهم، أو عند استماعه لموسيقى باخ أو موتسارت، أو بتقدمه في عمله، أو بتذوقه طبقا من ثمار البحر، أو بمساعدته أحدهم في الخروج من حزنه أو بؤسه، أو عندما يتأمل بصمت، أو عندما يمارس الحب.
يتساءل إن كانت السعادة تكمن في مضاعفة تلك اللحظات، ولماذا تمنحه هذه التجارب السعادة في حين أنها لا تجعل الجميع سعداء بالضرورة، ويجد أنه يمكن للمرء أن يحيا جيدا، بل وسعيدا إلى حدّ ما، من دون أن يطرح على نفسه مسألة السعادة، وما يمكن أن يحدثها أو يضمنها.
سلم الأولويات
يعتقد لونوار أن السعادة ليست لحظة عابرة، وإنما هي حالة يجب النظر إليها بشيء من العمومية وعلى امتداد زمن ما. كما يعتقد أنها إحساس إنساني مرتبط بوعي الذات. وليكون المرء سعيدا عليه أن يكون واعيا بهنائه وبتلك الميزة أو الهبة التي تمثلها لحظات الوجود الجميلة.
يذكر الباحث أن التعريف النفسي أو الاجتماعي للسعادة يحيل إلى سؤال بسيط؛ هل نحب الحياة التي نعيشها؟ ويعتقد أنه بهذه الطريقة تمت غالبا صياغة السؤال في الأبحاث حول “الهناء الذاتي” للأفراد. تراه يعود إلى آراء أرسطو بين الفصل والآخر ليستشهد بها، أو يناقشها، لكن يثبت مقولته “نحن لم نتفق على طبيعة السعادة نفسها، وشروحات الحكماء غير متوافقة مع أحكام العامة”.
في فصل “لنضف معنى على حياتنا” يتحدث لونوار عن فكرة أن نكون سعداء يعني أن نتعلم الاختيار، ليس فقط اختيار اللذات المناسبة، وإنما أيضا السبيل والحرفة والطريقة في الحياة والحب. اختيار الهوايات والأصدقاء والقيم التي على أساسها يشيّد المرء حياته. أن تعيش جيدا يعني أن تتعلم عدم الاستجابة لكل الإغراءات وأن تضع سلما لأولوياتك.
ويتوقف عند نقطة هامة وهي أنه ليس الأساسي أن يبلغ المرء أهدافه أم لا، فلا يمكن انتظار بلوغ كل الغايات ليبدأ إحساسه بالسعادة. وتراه يدقق على فكرة أن الطريق أكثر أهمية من الهدف، السعادة تأتي في المسير، لكن الرحلة تجعل المرء أكثر سعادة بقدر شعوره بلذة التقدم أو بكون المسافة التي يتوجه إليها محددة وتستجيب للآمال الأكثر عمقا لوجوده.
في فصل “هل يتمنى كل كائن بشري أن يكون سعيدا؟” يؤكد الباحث على أن الأمل في السعادة هو الشيء الأكثر كونية في الوجود. ويستشهد برأي للقديس أوغسطين يقول “الرغبة في السعادة جوهرية لدى الإنسان؛ وهي المحرك لكل أفعالنا. هي الشيء الأكثر تبجيلا في العالم والأكثر فهما والأكثر صفاء والأكثر دواما، ليس فقط أننا نريد أن نكون سعداء، ولكننا لا نريد أن نكون إلا كذلك”.
ويؤكد لونوار على ضرورة أن يكون المرء نفسه مبتعدا عن التزييف والتزويق والتمثيل، حتى يحقق الرضا عن ذاته ويحصل ما يوفر له قسطا من السعادة، بعيدا عن التعدي على حقوق الآخرين، ويشير إلى أن السعادة تكون معدية، بحيث أن الشخص السعيد يضخ طاقة إيجابية حوله، ويساهم بدفع المحيطين به إلى عالم السعادة بصيغة ما.
كما يتساءل إن كان المال يصنع السعادة، وإن كان شرطا أساسيا لجعل المرء سعيدا؟ ويلفت إلى أن هناك الكثير من الأسباب الوجيهة التي تجعل المرء يرغب في المال ولكن ليس كغاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة تسهل عليه حياته وتساعده.
يثبت الكاتب رأيا للفيلسوف الرومانيّ سينيكا يقول فيه إنه “بينما ننتظر أن نحيا تمرّ الحياة”. ويعتبر أنّ وسواس السعادة يشكل غالبا عقبة أمام السعادة، ويذكر الكثير من الأسباب؛ منها أن المجتمع التجاري يجعل المرء ينساق وراء العديد من الوعود المزيفة بالسعادة المرتبطة باستهلاك الأشياء، وبالمظهر الجسدي، وبالنجاح الاجتماعي، وغالبا ما ينتقل أولئك الذين يستسلمون لها من لذات مشبعة إلى أخرى غير مشبعة، أي من حرمان إلى آخر.
ويستعين المؤلف بحكم صينية تشرح السعادة أنها على المرء أن يترك اهتمامه يمارس دوره من دون جهد، وألّا يواجه أبدا موقفه بتكسير رأسه، وأن يعرف كيف يتصرف. وأن يأمل في السعادة ويسعى وراءها بأن يكون مرنا وصبورا من دون توقعات مبالغ فيها ومن دون تشنج، وأن يفتح قلبه وعقله بشكل دائم.
ويخلص إلى أن السعادة تعني حب الحياة بكل ما فيها، وأنها كالتعاسة تقيم في داخل المرء، وأن الشخص التعس سيكون تعيسا في كل مكان، بينما سيكون الشخص الذي وجد السعادة في داخله سعيدا في كل مكان مهما كان محيطه.
___
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *