*محمد يويو
نجد من المحتم علينا اليوم أن نسائل القارئ العربي عن أشكال أدبية مختلفة كقصيدة الهايكو التي “تتكون من ست كلمات، ويدور موضوعها حول شيء قد يكون بلا قيمة بميزان قيم الشعر العربي القديم”.
هذا القارئ التقليدي، تحديدا، قليل الاطلاع على الثقافات الأخرى غير الغربية، والذي بالكاد بدأ يتأقلم مع ما يأتيه من أنماط شعرية جديدة. كما أنّ مسألة التغيير عنده غالبا ما تقابل بالرفض والنفور، توجسا من هذا الآتي من المجهول الذي قد يلوث ذائقته.
ثمّ إنّ ثقافة القارئ العربي، المتشبع بالغنائية في الشعر، والمتشبث تشبثا عنيدا بكلاسيكيته، موزونا مقفى، والمتعوّد على أنواع مجازات وبلاغات ومعاجم، أصبحت عنده ذات دلالات محددة، لذا لن تجد لديه التعطش إلى التعامل مع نصوص شعرية مختلفة وبعيدة كلّ البعد عن الأغراض الشعرية وما اعتاد عليه من شعر. ويمكن القول أيضا إنّه، في تلقيه لشعر الهايكو الياباني، وبفعل ملكته التأويلية سيجد صعوبة في التمكن من نصوصه، صعوبة تكمن خاصة “في أنه (أي شعر الهايكو) لا يعني أكثر مما يقول، أي لا يحتمل التأويل على طريقة الشعر الغربي أو العربي”، وهو ما يؤكده ماسا أوكاشيكي، في معرض رده على بعض الغربيين الذين يريدون رؤية معنى آخر خلف المعنى الظاهر لهايكو باشو، حيث يقول “معنى هذا الهايكو هو تماما ما يقوله، وليس هناك أي معنى آخر، ولا معنى خاص”.
وقد يعود مثل هذا التلقي إلى تعوّد الذائقة الجمالية العربية المتوارثة على أنّ الفن أو الجمال يتلمّس من وراء حجاب، بتعبير آخر المعنى البليغ لا يعطي أسراره إلاّ لمن أكثر مجالسته، ومن هنا قبوله لتأويلات عدّة، بعد مكابدة، ليجد اللذة في هذا، ولا شيء سواه. ومردّ هذه النظرة، كما يقول الكاتب محمد عضيمة، قد يكون إلى تلك “الثقافة التوحيدية، وربطها لكل شيء بالميتافيزيقا، أي بعالم الغيب: الحقيقة والجمال والسعادة وغيرها، لا وجود لها على الأرض وفي هذه الحياة، بل في السماء والحياة القادمة”.
وعندما نقصد فاعلية التلقي لا نقتصر بها على القارئ التقليدي فحسب، وإنما القارئ الدارس أيضا، وهنا نذكر الناقد جمال الجزيري الذي نجد عنده تلك النظرة الماورائية في تفسير قصائد باشو مثلا. يقول في كتابه الإلكتروني “مقدمة نقدية في قصيدة الهايكو” إنه “في كل الحالات هنا، يتجسد مشهدان يتداخلان أو يمتزجان ببعضهما البعض بناء على منظور معين: مشهد حاضر أمام عين الصوت في القصيدة (…)، الأمر الذي يجعل هذا الصوت يستحضر مشهدا غائبا عن حاضره”.
فيقف على خلاصة أنّ الأصل في الهايكو هو المزاوجة بين مشهدين؛ مشهد فيزيقي، حاضر، ومشهد ميتافيزيقي، غائب، وكأنه ربط للمتخيل/ المجرد بالواقعة/ المحسوسة.
لكنّنا رغم اعترافنا ببساطة تلقي الهايكو فإننا كذلك ننفي عنه التقريرية أو المباشرة بل إنّ “الوسيلة الفنية الأساسية للهايكو هي أن القصيدة تلمح ولا تفصح” -يؤكد هذا عبد الوهاب المسيري في مقالته “الهايكو: قصة أقصر قصائد شعرية في أدب العالم- بمعنى أنها تعتمد الكتابة المشهدية إن صحّ القول، والتي تكتفي بالضروري من الألفاظ، ولسنا نقصد بذلك التكثيف أو الإيجاز، بل هي كتابة تتنامى في فضاء التلميح وتستمر حتى عبورها إلى المتلقي”. وما دمنا نتحدث عن متلقي شعر الهايكو الياباني، فذلك يقتضي أن نستحضر أمرا لا ينفك عنه، ألا وهو الإلقاء أو ملقي الشعر، فدائما كان التذوق الفني عند العرب ملازما لإنشاد الشعر. وجدير بالذكر أنّ “الإنشاد عنصر من عناصر الجمال في الشعر، لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه. وحسن الإنشاد قد يسمو بالشعر من أحط الدرجات إلى أرقاها” كما يقول إبراهيم أنيس في كتابه “موسيقى الشعر”. لذا كان به التنافس في أسواق الجاهليين، الذين حفظوا له قدره ومكانته. وقد عدّت بلاغة المتكلم عند النقاد والبلاغيين معيارا للتفاضل، وهذا الاقتدار والتمكن لا يظهران إلا بطول النفس الذي يستلزم طول القصائد، وتعدد صورها الشعرية ونحو ذلك، الشيء الذي نفتقده في شعر الهايكو.
وزيادة على أنه لا يلتقي كثيرا مع الإلقاء؛ بسبب قصره الشديد، يخلو من إمكانيات التفاعل الإلقائي لاقتصار التوقف فيه على رؤوس الأسطر الثلاثة، أو أحيانا قد تقرأ القصيدة في نفس واحد. قد نسلّم بفكرة “الهايكو العربي”، غير أنّه يلزمنا الوقوف مليّا أمام فكرة “الهايكيست الظل” أي المتلقي، والمتلقي العربي تحديدًا. هل فـعلا هو مهيّأ بالشكل الكافـي للقيام بدوره مشاركا في عملية الاستجلاء، أم يلزمه وقت لذلك، أم هو رافض للفكرة من أصلها ليستحيل شعر الهايكو نخبويّا طارئا؟
___
*العرب