إذاً، ما وراءك، أيُّها «الرّبيعُ»؟


*أدونيس



ـ 1 ـ
إذاً، كلُّ شيءٍ يؤكِّد أنّ «الربيع» الذي نعيشه، نحن العرب اليوم، ليس خاصّاً بنا وحدنا، وإنّما هو «ربيعٌ كونيّ».
كان شاعرٌ عربيٌّ قديم يمازح أحد أصحابه، قائلاً:
أبو حَفْصٍ دخلتُ عليه يوماً
فغدّاني برائحة الطّعامِ.
وقد يصحّ في «ربيعنا» أن نقول عنه، لا مزاحاً بل جدّيّاً: لم نَذُقْ منه بعد، على هول ما أذاقَنا حتى اليوم، غير «الرّائحة».
لكن في هذه «الرائحة» ما يرسم خطاطة أوّليّة لدائرة التحوُّلات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، لا في عالمنا العربيّ وحده، وإنّما في العالم كلّه.
هذا كلُّه يُعيدنا إلى المُخيِّلة الفلسفيّة العربية في القرون الوسطى التي كانت تُعنى بالتمييز بين «فلَك الإنسانيّة» و «دَرَك الوحشيّة».
وهي عودةٌ تتيح لنا بدورها أن نرى في هذا «الرّبيع» حرباً كونيّة»، لكن في صورة جديدة وأساليب جديدة:
فهي حربٌ تتمّ «موضعيّاً» – بلداً بلداً، وقسطاً قسطاً، ومرحلةً مرحلةً، في اقتتالٍ داخليّ، وتدمير ذاتيّ لا سابقَ لهما، يفرضان علينا أن نتساءل، وفقاً لتلك المُخيِّلة:
هل أخذ الإنسانُ المتمدّن ينتكِسُ، ويسقط من «فلَك الإنسان» إلى دَرَك التوَحُّش»؟
ربّما نحتاج للإجابة عن هذا السّؤال إلى أكثر من داروين، وإلى أبعدَ من فرويد.

ـ 2 ـ
الرّأس؟ لكن، ما هو؟
القلب؟ لكن، أين مقرُّه؟
هل علينا أن نسأل لغةً أخرى، وما هي؟
أم أنّ علينا أن نعترف: لم يعُد الإنسان هو من يعرف الشّيءَ. أصبح الشّيءُ، على العكس، هو الذي يعرف الإنسان. والمالُ هو، هنا، رأسُ المعرفة وقلبُها.
ـ 3 ـ
– ما الفرق، سياسيّاً، في عالمنا الرّاهن، بين الأنظمة الديكتاتورية، والأنظمة الدّيموقراطيّة؟
– الفرقُ هو أنّ الأولى ترفع، رمزاً لثقافتها، شعاراً هذه خلاصتُه:
«القاضي، قاتلاً»، وأنّ الثانية ترفع شعاراً هذه خلاصتُه: «القاتلُ، قاضياً».

ـ 4 ـ
هل تعرف، حين تنفجر القنبلة، من يفجِّرُها؟ أنا، أم أنتَ، أم هو، أم هي، أم
«شيءٌ» آخر؟
هل تعرف مَن يمكن أن يعرف؟
ولماذا تصمت؟
أعرف جوابَك: الضّجيجُ يقتحم صمتَك، ويحلّ محلّه.
ـ 5 ـ
قُلْ لي: هل تجد فَرْقاً بين قنبلةٍ تنفجِرُ بك، وأخرى تنفجِر فيك؟ ولماذا إذاً، لا تُفصِح عنه؟

ـ 6 ـ
أفهمُك، أفهمُك.
لستَ أنتَ من يصعد على السُّلّم، أيِّ سُلّم.
السُّلّمُ، أيُّ سُلَّمٍ، هو الذي يصعد عليك.
ـ 7 ـ
طلع الفجر. أسمع الآن سيِّد درويش يسأل بدهشة:
مَن قال له أن يطلع؟ لِيَعُد إلى النّوم.

ـ 8 ـ
كنتُ في نيويورك وباريس أسمع وقعَ الخطوات التي تنقشها السّلالم العربيّة على أجسام البشر. كنت ضائعاً، خائفاً.

ـ 9 ـ
لم أعُدْ أخافُ من موتِ البشر، وحدهم.
صرتُ أخافُ أيضاً من موت الأشياء. موت الشوارع، والصّور والتماثيل، والحدائق، والجدران… إلخ.
ـ 10 ـ
لم يصدِّقْني العشب. لم يصدِّقْ أنّه يمكن أن يحترق هو أيضاً.
ـ 11 ـ
أمسكْتُ بيد الخريف وهو يحاول أن يدخُلَ عَنوةً إلى البيت الذي يقيم فيه الرّبيع.
أحملُ في قلبي حناناً كبيراً عليك أيُّها الخريف.

ـ 12 ـ
نعم أحبُّ أن أعترف:
لم أكُن أكثرَ من يدٍ لزرع الألغام. لا في البيوت والطّرُق والحقول وحدها، بل أيضاً في العقول والنّفوس.
ـ 13 ـ
أُمِرتُ بأن أقلِّد شجرة التُّفّاح.
لكن، لا أعرف كيف تحوّلَت بين يديّ كلُّ تفّاحةٍ إلى قنبلة.

ـ 14 ـ
آثارُ دمٍ، رؤوسٌ مقطوعة. نساءٌ في الأقفاص، أطفالٌ في التنّور.
إنّها أبجديّةٌ جديدةٌ فُرِضَت على شفتيَّ وعلى يديّ.
ابتكرَها غيري، ونُسِبَتْ إليّ.

ـ 15 ـ
إنّه الزّمَنُ الأحمر. ولا تقدر أن تُغيِّرَ لونَه، حتّى ألوانُ المحيطات.

ـ 16 ـ
من أعلى كوكبٍ أرضيٍّ سقط عليّ اسمي، وأنا نائمٌ بين العشب والماء.
يا تقويمَ الفلكِ، ضمّني إلى لائحة الذين يكرهون أسماءهم.
ـ 17 ـ
ربيع (ر ب ي ع) = عربي (ع ر ب ي).
حروفٌ واحدةٌ مكرَّرة في كلمتين اثنتين، تستدعي هذا السّؤال الذي لا أحبُّه:
«أربيعٌ» و «عربيّ»؟
في صوت الحروفِ أجراسُ حزنٍ أخذ المستقبلُ يقرعها.
ـ 18 ـ
هل ندرك الآن أنّ العنف المادّيّ سلاحٌ أعمى لا يرى حتى الأشخاص الذين يقتلهم، والأشياء التي يدمِّرها. العنف المادّيّ يُخرج الثّورةَ من هويّتها، ويحوِّلها إلى اقتتالٍ وحرب: يقتلُ الإنسانَ والثورة والفكرَ في آن.

ـ 19 ـ
ليت هذا الكائن الذي يُسَمَّى «المستحيل» يقدر أن يرى كيف أنّ كائناً آخر يخترقه ويتخطّاه، لا بفعل الإبداع، بل بفعل الجريمة.
ـ 20 ـ
ما أكثر الرؤوس التي تنتمي إليّ، أنا ربيعها، والتي لو فُتِحَتْ لما رأى فاتحوها أكثر من أنّها مجرّد حُفَرٍ رمليّة تتكدّس فيها الجُثث والأنقاض.
ـ 21 ـ
«الحياةُ للموتى»، «الموتُ للأحياء»: ذلك هو الهتاف الصّاخب في حنجرتي أنا «الربيع العربيّ».
هكذا كان هؤلاء الصّاخبون بهذه الحنجرة يعلّمون بلدانهم أن تأخذَ قوانين حياتها من السيف والسلطة والمال.
ـ 22 ـ
كان في السجن يعيش داخلَ أحشائه. وكان قادراً، غالباً أن يمحو جدران السجن وأن يجعل من أحلامه الجدرانَ الوحيدة التي تحيط به.
ـ 23 ـ
أنا «الربيع العربيّ»، أعترف وأقول لكم:
سيأتي يومٌ تبدو فيه الكتابةُ باللغة العربية شكلاً من أشكال الحِداد الشّامل، ليس على اللغة وحدها، وإنّما كذلك على هذا العالم الذي يُسَمّى عربيّاً.
ـ 24 ـ
– فنُّ الثورة؟
– إنّه قبل كلّ شيء ثورةُ الفنّ.

ـ 25 ـ
إذا كانت الطّبيعة تتعفّن بفعل الطبيعة ذاتها، فلماذا لا يتعفّن ما بعد الطبيعة بفعل ما بعد الطبيعة أيضاً؟
خصوصاً أنّه ليس هناك، منطقيّاً، ما يحول دون ذلك.
ـ 26 ـ
أنا «الربيع العربيّ» ـ أتجرّأ أن أتحدّث عن المنطق.
منطقيّاً، ليس في اللغة العربية نفسها، في هذه المرحلة من تاريخها السياسيّ، غير الأنقاض وغير فقاعات الألفاظ.
أنصح المؤرّخين أن يهيِّئوا بياناً بإحصاء هذه الأنقاض، تلافِياً لإمكان تحوُّل الكتابة نفسها إلى مجرّد أنقاض.
ـ 27 ـ
أن تكتب عمّا يحدث في البلدان العربيّة – العراق، سورية، اليمن، ليبيا، مصر – ليس أن تصف أو تسردَ. وليس أن تتأوّهَ على خراب العمران وقتل البشر. ليس أن تصفِّق للصديق وتلعن العدوّ.
أن تكتب هنا هو أن تهيّئ المناخ الثّقافيّ الإنسانيّ لانتشال الحياة من براثن الظّلمات التي تلتهمها. هو أن تضع هذا العالم في عريِه الكامل، أمام الحقيقة وإنسانيّة الإنسان، وفي انحدار الأسس والقيَم التي ينتمي إليها، أو ينهض عليها، في رفضٍ جذريٍّ، وعلى نحْوٍ شاملٍ وكامل.
تصدر الكتابة عن هذه الرؤية الجذريّة الشّاملة أو لا تكون إلّا لَهْواً، وإلّا عبئاً على الكتابة وعلى الأبجديّة.
ـ 28 ـ
لكي تُحسِن أيُّها العربيّ قراءة الخراب الكونيّ، فإنّ عليك أن تبدأ بقراءة خرابك الشّخصيّ – الداخليّ.

ـ 29 ـ
فُرِض عليّ أن أشيع باسمي أنا «الربيع العربيّ» ثقافةً يبدو فيها الإنسان أنّه يُقيم في بيتٍ اسمه الخراب، على أرض اسمها العَدَم.
وأنّ العرب يعيشون عمليّاً، سائرين وراء نعشٍ يتمدّدُ فيه طفلٌ قُطِع رأسُه. يرافقه إلى مقرّه الأخير حشدٌ من الأقرباء والأصدقاء، لا حَوْل لهم ولا قوّة.

ـ 30 ـ
التّيهُ هو الوطن الذي يعيش فيه العربيّ، اليوم.
___
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *