*سامر مختار
حين تمرُّ أمامنا عبارة “امرأة في الخمسين”، عراقية، وتعيش في بلد أوروبي، ما هي الأفكار والمشاهد والأحداث التي قد تحضر في ذاكرتنا؟ لعله ماضٍ من الصعب الخلاص منه. هذا ما نلمسه وندركه أثناء قراءة رواية “نسكافيه مع الشريف الرضي” للكاتبة العراقية ميادة خليل.
“آمنة” سيدة عراقية أرملة، تعيش في هولندا. في اليوم الذي يصبح عمرها خمسين عاماً يتوفى جارها “دافيد” البالغ من العمر سبعين عاماً.
موت “دافيد” منتحراً يثير فضول آمنة، ويدفعها لتفتيش أغراض شقته المرمية أمام البناية، لتقع بين يديها لوحة كبيرة لقِباب، وكنائس، ونهر، وبيوت، موقعة باسم “سلمى”، حزمة رسائل، وكتاب شعر باللغة العربية “ديوان الشريف الرضي”.
لعلّ الماضي كفكرة طُرحت في الرواية، شكَّلت اليأس النهائي من الحياة، إذ يبدو أن تاريخ البشرية الغارق في حروب مكررة، هو الحقيقة التي يواجهها بطلا الرواية “آمنة، دافيد” إضافة للشخصية التي تُشكّل أحد أهم خطوط الرواية “سلمى” زوجة دافيد العراقية. كما تحضر هنا أبيات من قصيدة للشريف الرضي كانت تقرأها آمنة:
“أرى الناس يهوون الخلاص من الردى
وتكملة المخلوق طول عناء
ويستقبحون القتل والقتل راحة
وأتعبُ ميت مَن يموت بداء”
تحاول آمنة من خلال النبش في حياة دافيد بعد موته، أن تعيد سرد ماضيها. لعلها محاولة للفهم، أو التصالح، أو مداواة تلك الندوب التي ظلت عالقة في روحها وذاكرتها. هي محاولة للبحث عن أنوثة تفتقدها آمنة، هي التي لم يكن أحد يراها جميلة، ولا حتى امرأة، حتى زوجها، تزوجها لأنها “امرأة شريفة وطاهرة، أنا لا أهتمّ بالشكل، المهم عندي الأخلاق والشرف”.
أما دافيد الذي قضى طفولته مع جدته، نتيجة انفصال والديه، والذي لم تشف ذاكرته من الحرب (العالمية الثانية)، فيستعيد أيضاً بعضاً من المشاهد التي علقت بذاكرته “انتهت الحرب، ولم تنته. في كل مكان، الجسور، الشوارع وسكة الحديد. بيت جدّتي نالته حصة من القصف الأميركي أيضاً، تضرّر البيت، الحديقة والمكتبة. ذاكرتي ظلّت تحمل مآسي الحرب معها، الخوف، وموت جدّتي”.
لكن مأساة دافيد في سنواته الأخيرة هي موت زوجته سلمى، بسبب سرطان الرحم. إنها المرأة التي أحبها ولم يستطع العيش من دونها. وقبل ذلك موت جدته. سلمى وجدّته تظلّان ترافقان دافيد في نهاية حياته، كشبحين لا أحد يراهما سواه.
سنلاحظ أيضاً أن آمنة ودافيد لا يعرفان بعضهما البعض جيداً، ليسا سوى جارين في المبنى، كانا يتبادلان التحية في الصباح.
أما سلمى، وديوان الشريف الرضي، فيأتي حضورهما أشبه بالتناص بين خطَّين سرديين لشخصيتين تلاحقان ماضيهما. فسلمى هي من أوصت دافيد في رسالتها الأخير بالاحتفاظ بديوان الشريف الرضي، والذي كان هدية من والدها. في المقابل ستكون فكرة العثور على ديوان الشريف الرضي عند آمنة، باباً ستفتحه على ذكرياتها مع أخيها “صلاح” المثقف والذي كان يعشق القراءة ويمتلك مكتبة كبيرة ومتنوعة، من ضمنها نسخة من الديوان نفسه عثرت عليها في غرفته: “على الطاولة دخلنا الغرفة، كان هناك كتاب مفتوح، كتاب كبير نوعاً ما، لونه أحمر، لم أشك للحظة أنه كتاب الشريف الرضي. نسخة صلاح”.
عمدت الكاتبة في كتابة الرواية على تقنية الأصوات المتعددة في السرد، لنجد الرواية مقسمة لفصول أو مقاطع صغيرة، مرة بصوت آمنة، ومرة بصوت دافيد، كما سيحضر صوت سلمى زوجة دافيد، من خلال رسائلها التي كانت ترسلها من العراق أثناء زياراتها لوالدتها وأصدقائها هناك.
لكن قد يلاحظ قارئ الرواية أن شخصية سلمى غائبة، وحاضرة كسبب أدّى لانتحار دافيد، أيضاً عبر رسائل عابرة، ورسالتها الأخيرة لدافيد. لكن تبقى ملامح هذه الشخصية ضبابية وغير مكتملة في الرواية، خصوصاً أنها تعطي انطباعاً للقارئ طوال الرواية أنها إحدى الشخصيات المحركة لأحداث الرواية.
في المقابل يبقى نص الرواية مفتوحاً على الماضي وغارقاً فيه، خلافاً للكلام الذي كتب على الغلاف الخلفي للرواية، بأن “آمنة التي تجد في دافيد سر حياتها”، كما أن قرار آمنة في العودة نهائياً للعراق، وكبت رغبتها وعواطفها لجارها العراقي الجديد الذي يسكن في شقة دافيد بعد مماته، رغم إعجابها به، وعدم جرأتها بمصارحته بمشاعرها، يظل سؤالاً محيراً للقارئ.
* رواية “نسكافيه مع الشريف الرضي” للكاتبة العراقية ميادة خليل – صادرة عن دار المتوسط إيطاليا 2016.
___
*المدن