بترا تكشف أسرارها: مرافق ضخمة مطمورة


*أمجد ناصر


رأينا آنيةً خزفيّةً في أيدي المنقِّبين. 
الزيتُ ينزُّ من اللقية المستعادة من الأنقاض. 
النبتةُ خضراء. 
العصفورُ أخضر. 
والحداءُ الذي لم يعد يُسْمعُ في هذه الجهات، 
يتردَّدُ خافتاً على جانبي الهجران. 
أسرار بترا لم تتكشَّف بعد. الاكتشاف لا يعني إيجاد شيء من عدم، إنه مجرد كشف عما هو موجود ولم تره الأعين لسببٍ ما. في حال بترا، وغيرها من أوابد منطقتنا، يتعلق الأمر بضعف أدواتنا للوصول إلى ما صنعه أقدمونا. وبين أوابد عديدة، في شرق العالم العربي، لا تكفُّ بترا عن الإدهاش والمفاجأة. فهذه الحاضرة الممشوقة، محمرّة الخدين، كوردة جورية، الطالعة كشهقةٍ، أو لهفةٍ، من بعد ظمأ وجبلٍ جهمٍ، لم تكشف لنا أسرارها كلها. نحتاج، على الأغلب، إلى وقت طويل لنعرف كيف بنى أسلافنا الأنباط هذا المَعْلَم، نادر الوجود، في “قفزة” حضارية لا طفولة لها، كما يبدو حتى الآن، ولا تمهيد. سراً بعد سرٍّ تكشف لنا بترا ما كانته في زمنها الذهبي وانطوى بانطواء الأزمنة التي تنقطع في مكان، لتبدأ في مكان آخر. فالأزمنة لا وجود لها من دون العمران. انها ابنته وصنيعته باعتباره وقتاً، يُرى في المزولة والساعة، وتاريخاً تُخطُّ آثاره في السجلات. 
الطيور التي لا تخبر بما تراه كانت تعرف بترا، وتحلِّق في الموقع الوحيد الذي تُرى منه: من فوق. فمن الجوانب لا يمكن لمخلوق أن يعرف بوجود كل هذا الجمال الرقيق، الهشّ، الناطق شعراً من قلب الحجر الرملي، وكل هذه الحياة المكرَّسة للتجارة والدين ووصل أطراف العالم بعضه ببعض. عليك أن تنزل، أولاً، إلى الوادي المؤدي إليها. سترى عين ماء (يسمونها عين موسى ولا بدَّ أنها كانت تسمى غير ذلك في أزمنة بترا القديمة). حول عين الماء تكوَّنت بلدة “وادي موسى”، التي تتنافر، كلياً، مع الحاضرة القديمة، وتفكِّر أن لها صلة بالنبي موسى الذي قيل إنه ضرب الصخر بعصاه فدفق الماء من الصخر الجلمود. كانت قرية “وادي موسى” تدعى في زمن ازدهار المملكة النبطية “جايا”، حتى إن كبير آلهة النبطيين “ذو الشرى” يدعى، أيضاً، إله جايا. ولكن دعونا ننسى وجود هذه البلدة الحديثة التي قامت، في وضعها الحالي، بعد اكتشاف البتراء كموقع سياحي. دعونا ننسى بيوت الأسمنت والشوارع المسفلتة وضجيج السيارات والمتاجر التي غزتها العلامات التجارية عابرة الحدود.. والناس بأزيائهم الحديثة. سنرى أثر النبع في المنطقة المحيطة به. هناك نباتات وأشجار شبّت والتفّت بقوة الخلق الذي يمنحه الماء لكل شيء: دفلى، عليق، قصب، وتين وعنب وحور. إن واصلت الهبوط في منحدر، ينبسط كلما اقتربت من المدينة المخبأة، ستكون أمام شقٍّ هائل، شاقولي، في الجبل الحاجب، يسمَّى “السيق”. سترى جِمالاً وجمَّالين ودواب وبشراً يدخلون ذلك الشقّ الهائل ويختفون. إمش وراءهم بقدمين مرهقتين وشغوفتين لكي تستحق، أخيراً، رؤية أولى دُرر العالم القديم: الخزنة. بعد ذلك دبِّر أمرك كي لا تصاب بدوار الجَمال الذي لم توطد نفسك على لقائه.
درونز ومرافق شعائرية 
ها نحن نرى فائدة للطائرات التي تقنص الأرواح من الجوّ بدون طيار. يسمونها “درونز”، وقد “أبدع” باراك أوباما في استخدامها، بل لعلها نافست، في عهده، طيور السماء الجوارح، مع فارق أن الأخيرة لم تعد تجد ما تقنصه على الأرض، بعدما فتك الإنسان بأجناس “أثَّثت” الطبيعة من حوله. نقرأ، عادة، أخبار الـ “درونز”، لعبة أوباما المفضَّلة، في حرائق العالم العربي التي تأبى الانطفاء. لكن ها هي تأتينا، بنفسها، بخبر سار. فقد عثر الفريق الأركيولوجي الأميركي الذي يقوده الآثاريان كريستوفر تتل وسارة باركر، في بترا، على مرفق كبير لم يعرف من قبل ولا مثيل له في المدينة، ولم تكن ممكنة رؤيته، أو بالأحرى، تصويره إلا من الجوّ، رغم أنه كان تحت أقدام المنقّبين. 

يعمل كريستوفر تتل منذ عشرين سنة، مع فريقه، في مواقع تنقيب في بترا. كان الآثاري الأميركي يشكُّ بوجود “شيء ما” في موقع على علو 900 متر. ثمة طريق لا يسلكها السياح عادة تبعد نحو كليو متر جنوبي المدينة، لكن تتل وفريقه مرَّوا بها كثيراً. مشوا عليها من دون أن يعرفوا أن تحت أقدامهم مرافق / شعائرية تبلغ مساحتها نحو ستة ملاعب كرة سلة. كان اكتشاف هذه المرافق (المنصَّة) الفريدة، هائلة الحجم ايضاً، ممكناً، فقط، بالصور التي التقطتها طائرات الدرونز والأقمار الصناعية من الجوّ، فهي مطمورة تحت التراب، عدا عن أنها بعيدة عن مركز المدينة الذي يحظى بالاهتمام والمراقبة. 
تحتوي المرافق، حديثة الاكتشاف، ساحة مرصوفة بالحجارة، محاطة بالأعمدة، وينحدر منها درج طويل في اتجاه الجهة الشرقية للمدينة، حيث كان يصعد إليها، على الأرجح، المشاركون في الاحتفالات التي كانت تقام هناك. يقول تتل إن العمل الذي بُذل في تشييد هذه المرافق مضن واستغرق وقتاً مع أن المبنى، المعبد، الذي يتوسطه صغير جداً. هذه ساحة احتفالات وشعائر دينية إذن. ولهذا بنى النبطيون الساحة المحاطة بالأعمدة واسعة لكي تستضيف عدداً كبيراً من سكان المدينة وضيوفها. 
لا يزال الاكتشاف في مرحلته الأولى، أي في الصور الملتقطة من الجوّ التي بيَّنت، بوضوح تام، معالم هذه المرافق الشعائرية الاحتفالية، الثانية في العلو والارتفاع، حتى الآن، بعد الدير. ولا يبدو أن هذه المرافق هائلة الحجم ستخضع كلها للتنقيب، أولاً لضخامة مساحتها، وثانياً لأن الكشف عنها سيعرضها للتفتّت بفعل عوامل الطبيعة، بحسب قول كريستوفر تتل، الذي أكد أن تنقيباً انتقائياً قد يحصل للموقع. تعرّضُ المواقع الأثرية المكتشفة، في بترا خصوصاً، إلى التفتّت ليس خبراً جديداً، لأن الكثير من المرافق والأبنية، في عاصمة الأنباط، أثَّرت فيها عوامل الحتّ والتعرية الى درجة التهديد بزوالها بمرور الوقت، فبترا منحوتة في الحجر الرملي الذي هو أكثر عرضة للتفتّت والاندثار من الحجارة الأخرى، فضلاً عن الأثر البشري الناجم من سوء استخدام المرافق السياحية، وعدم ترميم ما يلزم ترميمه، مع أن هذه مهمة شبه مستحيلة نظراً لضخامة موقع بترا وكثرة مرافقه، بل وأطواره الحضارية التي تستعصي، كلها، على الترميم، والعمل على مقاومة عوامل الطبيعة. يمكن التحكّم بالأثر البشري على الموقع ولكن يصعب ذلك مع عوامل الطبيعة. وما يؤسف له أن يكون هذا مصير نحو ثمانين بالمئة من آثار ومعالم بترا التي لا تزال تحت التراب ولم تكتشف بعد. فحسب الآثاري الأردني زيدون المحيسن الذي يعمل على مواقع في بترا من عام 1979، وخبير أردني مرموق في التاريخ النبطي، فإن ما كشف من بترا، حتى الآن، لا يتجاوز ربع ما كانت عليه عاصمة المملكة النبطية، الحلقة التي لا يُفهم تاريخ العرب، واللغة والكتابة العربيتين، من دونها. 
___
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *