*هنادي زرقة
أنت لا تعرف شيئاً عن «الكراج»!
حسنٌ، سأخبرك.
«الكراج» هو أن تنتظر حافلةً تسع أربعة عشر راكباً وأكياساً كثيرة في يديك. وحين تأتي، تركض إليها وترمي نفسك فيها، مع عشرين راكباً بدلاً من الأربعة عشر، متلاصقين، متكدسين، أجساداً وأكياساً وروائح متعبة، غير آبهين بأي شيء سوى الوصول إلى قراهم البائسة.
«الكراج» هو بائع التبغ الذي لاحظ تدهور وضعي المادي أسوة بكل السوريين الباقين هنا، فقال لي: «من ميريت يا آنسة أصبحت تسألين عن أرخص التبوغ!».
«الكراج» هو بائع القهوة الأعرج الذي يتأتئ ولا يقوى على تركيب جملة واحدة، لكنه لا يكفّ عن غناء الأغاني الوطنية بطريقته، ويستقبلني، حين أشتري منه، بضحكة أكبر من أن أعرف لها سبباً.
«الكراج» هو بائع الخضار الذي همس في أذني: «يا آنسة، زر قميصك مفتوح، سكّريه!»
«الكراج» هو بائع اليانصيب الذي اعتاد الجلوس لسنوات، من الصباح إلى المساء، على كرسيه القديم نصف نائم من دون أن يسعفه أيّ حظ.
أنت لا تعرف «الكراج» في الليل، حين يأوي جميع الناس إلى بيوتهم، وننتظر نحن ركاب الحافلة الأخيرة ولا تأتي. عندئذ يبدو نظيفاً، تصفر الريح فيه، تطيّر أكياس النايلون الفارغة وروائح البشر الذين مروا خلال النهار. وإذا ما انهمر المطر، اجتمع الوحيدون المنتشرون فيه ممن تأخروا لينتظروا معاً أيّ حافلة تقلّهم إلى قراهم البعيدة، فما من أحد منهم يقوى على السداد لسيارة أجرة.
«الكراج» هو أن تذهب في اليوم التالي لما حصل فيه من تفجير، وتدخل من بابه الذي يحرسه الجنود وتتمنى لو أنّ لك جناحي طائر، فليس من العدالة أن تمشي على دماء من قضوا في اليوم السابق وعلى أشلائهم، على الرغم من شعورك أنك لست سوى كومة أشلاء موصولة بخيط وهمي تنتظر تفجيراً تالياً كي تتبعثر.
الموت 2011
أشرد وأستعير جملةً من صديق: «كان ينبغي أن نموت في عام 2011، كان الموت أجمل، كأن تموت وسط تظاهرة، أو في معتقل، بدل أن تموت على يد متطرف يفخخ سيارة وسط مدنيين باسم الثورة التي حلمت بها».
«الكراج» هو أن تدخل فلا تجد بائع التبغ، ولا بائع القهوة، ولا بائع اليانصيب، ولا بائع الخضار الذي ضاعت جثته ولم يعثروا عليها.
أطيل التأمل في الصور المعلقة على أعمدة الإنارة في مدخل المدينة لشباب قضوا في الحرب، وإلى البسطار الذي زرعوا في قمّته الورود. لماذا ينبغي أن يموت كلّ هؤلاء الشباب؟! هل نحن في أيدٍ أمينة؟! هل هناك ما يستحق كلّ هذه الحرب العبثية، وكلّ هذا الموت والحصار والتجويع، من حلب إلى الرقة ودير الزور والمعضمية وداريا والوعر انتهاء بالزارة وجبلة وطرطوس.
ـ «أنت تعيشين في الساحل، الساحل آمن…»
ـ «بل أعيش في ضربة حظ، وفي كلّ موتٍ يصيب البلاد. نجوتُ هذه المرة، إن كان ما نعيشه يُدعى نجاةً، مجرد مصادفة أبقتني في المنزل. ماذا عن المرات القادمة؟ متى يقبض علينا هذا الموت القريب الذي يلاعبنا «الغميضة»؟».
أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي لأكتشف صمت بعض المعارضين الذين ينادون على الدوام بوقف القتل. يبدو أنّ ثوريتهم تنقص إذا أبدوا بعض التعاطف مع ضحايا التفجيرين اللذين ضربا جبلة وطرطوس، أم أنّ عيونهم الطائفية تريهم «الساحل» ملكاً لطائفة بعينها؟ ماذا لو أنني قضيت في هذا التفجير، مثل كثيرين قضوا لا يعرف هؤلاء المعارضون أيّ شيء عن مواقفهم السياسية؟! ومهما كانت مواقف كلّ واحد من هؤلاء الذين قضوا، من عمال وطلاب وعاطلين من العمل وأطباء وممرضات، من أعطى لأحد حقّ الفتك بهم لمجرد أنّ أحداً ما آخر يفتك من غير حقّ بآخرين؟ مثل هذه الأسئلة باتت عجيبة يُنظر إليها باستهجان ولا يُتَوَقَّف عندها، فيما بات طبيعياً أن تطلق على منهكي الداخل الذين لا يسمعونك مواعظك وتعليماتك وترّهاتك الثورية من فرنسا أو السويد أو اسطنبول، حيث عيّنت نفسك بنفسك وببضعة أصحابك معارضاً بفيسبوك ومرتّب وبيت.
أعود بذاكرتي إلى خمسة أعوام خلت، حين حذّر بعض المعارضين من الانجرار وراء السلاح، وكيف قوبلوا بالتهجم والتخوين وتهمة العمالة للنظام. ها قد مضت خمسة أعوام ولم يأت السلاح إلا بالمتطرفين. وبذريعة حماية التظاهرات. غابت التظاهرات ولم يبق مارق إلا ودخل وأقام ميليشياه وإمارة حربه، ولم تبق دولة إلا وتدخلت بحجة مكافحة الإرهاب أو النــظام في الوقــت الذي يبدو أن كلّ شيء سوري إلى زوال ما خلا النــظام والإرهاب.
دُكَّت مدنٌ، هُجِّرت مدنٌ، قُتلت مدنٌ، ودخل البلد طريق اللاعودة، وما زال كلّ طرف سوري يغضّ الطرف عن قتلى الطرف الآخر، واثقاً بأنّ قتلاه في الجنّة وقتلاهم في النار. وحده الدم السوري بات واحداً، من مجرزة البياضــة إلى مجزرة جسر الشغور إلى آخر مجرزة. أفكّر بــأنّ كلّ هذا الدم الواحد لسوريين قضوا جوعاً وغــرقاً وقصفاً وسوى ذلك، هو الذي يمكن أن يرسم معالم سوريا جديدة موحدة، وأنّ من لم يســـتطع النفاذ إلى وحدة نهر الدماء هذا، يصعب أن يفكر بسوريا جديدة.
هل سنعبر؟! كيف؟! وإذا عبرنا هل سنعبر بكامل أجسادنا، أم بأشلاء ما تبقى منها ومن أرواحنا؟!
سينتهي هذا العبث كلّه، سينتهي. أم أنّ العبث وضرب الخبل والجنون هو أن أفكر بهذه الطريقة؟ سيمضي هذا العبث كلّه، سيمضي. وسوف تخرج سوريا بيضاء بيضاء من دون استبداد ولا رايات سوداء، ستخرج سوريا التي نحب لترفع كلّ واحد منا إلى أحلامه.
______
*السفير الثقافي