أدب الآلات الذكية وأخطارها


*تحسين الخطيب


كادت قصة قصيرة ألّفها في الآونة الأخيرة برنامج كومبيوتري ذكي أن تفوز بجائزة أدبيّة مرموقة في اليابان، فهل كان الإنكليزي صموئيل بتلر على حق حين تحدث في مقالته “دارون بين الآلات” (1863)، عن احتمالية فكرة أن يكون الذكاء الصناعي العتبةَ التالية في سلّم التطور؟ أم أنّ “المجازفة الوجودية” ليست أكثر من مجرد واحدة من بنات أفكار خيالات جامحة؟
وسواء كانت الآلات، وفق بتلر، تعيش “حياة ميكانيكية” دائمة التطوّر، سوف تدفع بها في نهاية المطاف إلى أن تصبح الجنس المهيمن على الأرض، أو كان الإنسان هو الذي يبتكر من يخلفه، ولا يكف عن تزويده بكل أنواع التجهيزات الإبداعية حتى يصبح التنظيم الذاتي والقوة الذاتية، بالنسبة إلى هذه “المخلوقات” الجديدة، لا يختلفان البتّة عمّا يمثله الفكر والمعرفة بالنسبة إلى الكائن الآدمي؛ فإنّ تحديد الزمن الذي تصبح فيه الآلات الذكية جنسا أعلى، يظل أمرا بعيد المنال على العقل الفلسفيّ حتى للحظة واحدة.
خطر الآلات
ولم تغب مسألة الخطر الذي قد تمثله الآلات على مستقبل الوجود الإنسانيّ عن أفضل الأدمغة والخبراء المعنيين بالذكاء الخارق للكمبيوترات في الوقت الراهن، كبيل غيتس وستيفن هوكنغ وإيلون مسك، الذين يحذرون من أنّ تطوير ذكاء صناعيّ كامل قد يشكل بداية نهاية الجنس البشري، لدرجة قيام إيلون مسك بمنح عشرة ملايين دولار لـ”معهد مستقبل الحياة” من أجل تمويل بحوث تعمل على فهم عملية اتّخاذ القرارات بواسطة “أدمغة” الآلات الذكية، وكيف يمكن لنا أن ندير القوة المتعاظمة للتكنولوجيا. وليس هذا فحسب، بل عمد أيضا إلى إنشاء شركات بحوث متخصصة لمراقبة “حيوات” الذكاء التكنولوجيّ وأخطارها المحتملة.
وفي كتابه “الذكاء الخارق: الطرق والأخطار والاستراتيجيات” (2014)، يجادل الفيلسوف السّويدي نيك بوستروم، مدير معهد مستقبل الإنسانيّة وأستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، بأنّ الذكاء الصناعيّ سوف يفرض أخطارا على الإنسانيّة، من حيث “لو قيض لقدر كاف من هذا الذكاء القيام بأعمال تعتمد على تحقيق أهداف بعينها، فإنه سوف يظهر سلوكا تقاربيّا كطلب موارد أو محاولة حماية نفسه من الانغلاق ووقفه عن العمل”.
ثم يقدم لنا بوستروم في مفتتح الكتاب دليله على هذا الخطر المحتمل بـ”خرافة عصافير الدوريّ التي لا تنتهي”؛ حيث وبعد يوم عمل شاق، تتخيّل العصافير، وهي تستريح في المساء مسقسقة، كيف ستكون الحياة سهلة لو ظفرت ببومة تساعدها في بناء أعشاشها. ثم يفكر أحدها في استخدام البومة للعناية بصغار العصافير والطاعنين في الكبر، ثم يقول عصفور ثالث إنها تستطيع أن تقدم لهم النصح وتبقي عينها على قط الحيّ.
وفي احتدام هذه الأحلام وتلاطمها، ينطق باستوس، مشيرا إلى ضرورة إرسال الكشافة في جميع الاتجاهات للعثور على فرخ بومة مهجور، أو ربما بيضة، في مكان ما. وقد ينفع فرخ غراب أو ابن عرس صغير.
تبتهج العصافير لكلام الحكيم وتأخذ في السقسقة بصوت عال، بيد أنّ “سكرونكفينكل”، الغراب الأعور ذو المزاج النكد، لم يقتنع بهذه الحكمة، قائلًا إنه يتوجب عليها في البداية تعلم فنّ تدجين البومات وترويضها قبل السماح لهذا المخلوق بالعيش في وسطها. ولكنّ الحكيم باستوس يرد عليه قائلا بصعوبة تعلم ذلك الفنّ لصعوبة العثور على بيضة بومة في المقام الأول. ثم طلب منها التركيز أولا على نجاح تربية بومة ما، ومن ثم يتم التفكير في التحدي الآخر: فنّ الترويض والتدجين.
الكمبيوتر المؤلف
لم تفلح اعتراضات العصفور الأعور على عيوب خطة باستوس وذهبت أدراج الرياح، خاصة وأنّ العصافير انطلقت محلقة لتنفيذ خطة الحكيم. ولم يتخلف عن السرب سوى عصفورين أو ثلاثة ظلت في أماكنها ولم تبرحها. راحت هذه القلة تحاول التفكير في كيفية تدجين البومات وترويضها. ثم تدرك بأنّ الحكيم باستوس كان على حق بخصوص الصعوبة البالغة لهذا التحدي، لا سيما في غياب بومة حقيقة لممارسة هذا الفنّ عليها.
ولكن، بالرغم من ذلك، واصلت العصافير جهودها بقدر استطاعتها على أمل أن يعود السرب ببيضة بومة قبل الوصول إلى حل لهاته المسألة. ولم يعرف أحد كيف تنتهي الحكاية، لأنّ المؤلف كان يُملي هذا الكتاب على “سكرونكفينكل” وأتباعه.
وعلى الرغم من أن الكمبيوتر اليابانيّ الذكي لم يكن واعيا بما يكفي للتفكير في كتابة تلك القصة القصيرة من تلقاء نفسه وإرسالها إلى المسابقة، بل تمت بمساعدة فريق من الباحثين في جامعة هاكوداتي المستقبلية، قام باختيار كلمات وألفاظ محددة يتم استخدامها في الإطار النهائي للحكاية، إلّا أن الكمبيوتر هو الذي قام بتأليف النص الأخير بنفسه دون أيّ تدخل بشريّ.
فهل نشهد في المستقبل القريب برامج كومبيوترية خارقة الذكاء تكون قادرة بما يكفي على إدارة شؤون نفسها بنفسها، وإبداع أدبها الخاص الذي يتفوق على الأدب البشريّ، أم ستبقى حلقة هشاشة وجودها الفيزيقيّ حلقة تحتاج دائما إلى من يمنحها القوة كي تستمر في الحياة؟
_______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *