*ترجمة: عادل العامل
إعادة الترتيب الزمني مهمة لخلق فن قصصي مؤثّر
كان روبرت بيلكناب ( 1929 ــ 2014 ) أستاذاً بجامعة كولومبيا لوقتٍ طويل ومؤلفاً لدراستين مهمتين لرواية ( الأخوة كارامازوف ) لدوستويفسكي. وفي عام 2011، قدم محاضرات، شكلت أساس كتابه هذا الصادر بعد موته ( الحبكات Plots )، وهو تحليل للحبكة في الدراما والأدب القصصي. ويعكس، مع إيجازه، وفقاً لمقدمة الباحث الروسي روبين فيوَر ميلر، سنوات كثيرة من التفكير والبحث، كما جاء في عرض مايكل ديردا للكتاب.
يمكن القول إن بيلكناب، حين يقوم بالتنظير، يميل لأن يكون مهذباً وموجزاً مثل أرسطو في كتابه ( الشعر )، ، وهو نقطة البدء لأي اهتمام بالكيفية التي تؤدي بها أعمال الأدب وظيفتها. وبتقسيمه كتابه الصغير الكثيف إلى ثلاثة أقسام، يصور بيلكناب بدقة أولاً مفهومه عن الحبكة، ثم ينظر إلى استخدام شكسبير للتماثل ومشاهد التعرف في مسرحية ” الملك لير “، ويفحص أخيراً تركيب ” الجريمة والعقاب “، وبوجه خاص كيف يجعل دوستويفسكي القارئ يتعاطف مع القاتل راسكالنيكوف الذي يرتكب جريمته بفأس. وعلى ما يبدو، فإن مسرحية شكسبير ورواية دوستويفسكي تؤديان عملهما كمعادلين حديثين لمسرحية سوفوكلس “أوديب الملك” وملاحم هوميروس، العملين القديمين اللذين اعتمد عليهما أرسطو في صياغة رؤاه المؤثرة حول الشعر، أو فن الصنع. وبموجب خبرة بيلكناب، فمن الطبيعي كما يبدو أن ينظر في البدء إلى الأدب القصصي الروسي في القرن التاسع عشر ليوضح أغراضه، تماماً كما فعل بيتر بروك، في ” قراءة من أجل الحبكة “، حين اختارالكثير من أمثلة النتاج المثير للاعجاب من الأدب الفرنسي، مجال تخصصه. وبالتالي، فإن بيلكناب يسبر غور رؤى تولستوي النقدية الأخلاقية فيما يتعلق بشكسبير ويتقصى تأثير غوغول على دوستويفسكي. وكل ذلك حسن ــ إلا حين يتقدم الكتاب، حيث يبدو بعيداً خارج الموضوع قليلاً.
وتعيد نقاط بيلكناب النظرية الواقعية إلى حد كببير اختصار الملاحظات الخاصة بالشكليين الروس، وخاصةً بوريس توماشيفسكي وفكتور شكلوفسكي. ونجده، مثلهم، يشدد على حقيقة واحدة بسيطة بشأن الحبكات: أن في العمل الفني السردي، لا تُقدَّم الأحداث على الدوام مرتبةً زمنياً. ففي تاريخ حياته، يواجه أوديسيوس السايكلوب، ( وهم عمالقة أسطوريون بعين واحدة ) قبل أن يلتقي الفتاة الشابة الساحرة نوسيكا، ومع هذا تقدم قصيدة هومير الحلقة الختامية أولاً. ولا نعلم شيئاً عن مغامرات البطل السابقة إلا حين يرويها في وليمة أقامها أبو نوسيكا. ويبدأ هومير ملحمته وسط هذه الأمور.
وباختصار، فإن الحبكات تعيد بانتظام ترتيب التسلسل الزمني لتحقيق بعض التأثير الفني. ويقارن بيلكناب “زمنية fibula” القصة، وهو يصنّف الحوادث في ترتيبها الزمني، مع إعادة تشكيلها الجمالي، التي يدعوها بـ ” siuzhet ” ( وتعني الطريقة التي تُنظَّم بها القصة )، وهو مصطلح اختلقه الشكليون.. وهذه التعابير التقنية تصدمني باعتبارها غير مناسبة، خاصةً وأن الكثيرين منا يحتاجون لتخمين الكيفية التي يُلفظ بها siuzhet، مثلاً. مع هذا ليس هناك من شك في أن إعادة الترتيب الزمني تبقى مركزية بالنسبة لخلق فن قصصي قوي. فما الذي سيفعله الروائيون والسينمائيون من دون اللقطات الاسترجاعية flashbacks ، والتصورات المسبقة، والحبكات الفرعية الموازية، هذه التقنية المخلَّدة في عبارة ” والآن، نرجع إلى المزرعة Meanwhile, back at the ranch ؟ ” ( التي أصبحت معبراً من حالة إلى أخرى أو مشهد إلى آخر في الأدب والسينما).
ويستعمل بيلكناب نفسه تلك العبارة، وهي إشارة واحدة بأن تحت الأردية الأكاديمية يكمن ذكاء بارع. فنجده، وهو يتحدث عن ” تاريخ حقيقي ” للوسيان وأعمال ذات عناوين مماثلة، يذكر أن ” كلمة حقيقي، هنا، تُظهر بشكل واضح طبيعة النص القصصية “. وبرأيي، أن الكتاب سيكون قد انتفع حتى من مزيد من مثل هذه الدعابة، نغمة أقل سمواً في التفكير ومدى إشارة أوسع كثيراً.
وفي الوقت الذي يناقش فيه بيلكناب كتاب CliffsNote، ( وهو مرجع معلومات ثقافية )، وقيمة موجز الحبكة، فإن اهتمامه الرئيس ينصب كلياً تقريباً على النصوص الأدبية القانونية. وهو يركز ، في الواقع، على الأعمال التي تحركها الشخصية، خاصةً الدراما والأدب القصصي اللذين يتعاملان مع الأشخاص والمجتمعات التي في أزمة.
وليس لدى بيلكناب ما يقول بشأن القصة المدفوعة بالحبكة، حيث الحدث action وليس السايكولوجيا هو المتحكم الأعلى. مع هذا فإني لا أرى كيف يمكنك أن تكتب بجدية عن الحبكة من دون فحص دقيق لرواية الرومانس الصيغية formulaic، وقصص المغامرات مثل ” كنوز الملك سليمان ” لرايدر هاغارد، و “الخطوات التسع والثلاثون” لجون بوتشان، أو الخداعيات المعقدة لأغاثا كريستي.
وهناك في الحقيقة استكشافات عملية عديدة أدنى للحبكة. ويقدم كتاب لورنس بلوك المنشور حديثاً، “كتابة الرواية من الحبكة إلى الطباعة إلى شاشة الكومبيوتر” إدراكات عميقة قيّمة للكيفية التي يفكر بها الروائي التجاري الناجح ويُبدع. وإذا عدنا إلى الثلاثينات، نجد أن جاك ودفورد قد نشر إرشادات مماثلة عديدة، منها “حبكة لكل نوع من الكتابة”. وكما يوضح ودفورد في هذا الكتاب بقوله ” الصراع هو البنزين الذي يُبقي العربة تتحرك “، فإن بيلكناب يذكر هنا ، ولو بشيء من التنازل، كتاب ” المواقف الدرامية الستة والثلاثون ” الشهير لجورج بولتي. بل أن كتاب وليام والاس كوك الأكثر إدهاشاً، والمعاد إصداره مؤخراً، ” بلوتو Plotto “، يطرح نظاماً توافقياً مدروساً لخلق المئات من موجزات القصة.
مع هذا، يمكن لمن يخالف ذلك أن يجادل بأن هناك، أصلاً، حبكة أساسية وحيدة فقط، يمكن تلخيصها بأربع كلمات: ” يأتي غريب إلى البلدة “. ويكتشف المرء ذلك في التركيبة العميقة من أعمال مختلفة مثل ” أوديب الملك “، و” غاتسبي العظيم “، و ” The Hobbit “. وبالطبع، فإن الفن الحقيقي يكمن في التركيب الرفيع، في الكيفية التي يعرّف بها سوفوكليس، وفيتزجيرالد، وتولكين هذا النموذج الأصلي العام ويحولونه إلى شيءٍ ما جديد وخاص بهم على نحوٍ فريد.
عن/ Washigton post
____
*المدى