*د .يسري عبد الغني عبد الله
خاص ( ثقافات )
تهدف هذه السطور إلى إلقاء الضوء على الحالة المالية للمكتبات العربية الإسلامية ، ومصادر تمويلها ، ورواتب العاملين بها ، وبمعنى آخر محاولة من جانبنا لأن نقرا ميزانية هذه المكتبات .
نقرأ في خطط المقريزي ، وفي شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي : أن كثيراً ما كانت الأوقاف هي المصدر الأساسي التي ينفق منه على المكتبات الإسلامية وما يلزمها . 1 ويشمل ذلك :
أ ـ ترميم بناء المكتبات .
ب ـ تزويد المكتبات بالكتب الجديدة .
ج ـ دفع مرتبات الموظفين (أمناء المكتبات ـ المترجمون ـ النساخ ـ المجلدون ـ المناولون ـ العمال) .
وغير ذلك مما ييسر للمكتبات استمرارية عملها وأداء دورها في خدمة الجمهور وأهل الثقافة والعلم .
وكان أمين المكتبة (المشرف عليها ) يحصل على ربع الوقف ، ويقوم بإنفاقه على مصارفه ، ويسأل عن ذلك مسئولية تامة وكاملة .
ولكن يبدو أن مرتبات العاملين في المكتبات الإسلامية لم تكن ثابتة بشكل دوري ، بل كان مرتبهم يتبع في ارتفاعه وانخفاضه ما يستطيع أمين المكتبة أو المشرف عليها أن يحصل عليه من إيراد الوقف المخصص للمكتبة .
*
ولكن النصوص التي بين أيدينا ـ على أية حال ـ قد أوردت إلينا صورة ثابتة للمرتبات تتناسب مع ما يبذله الموظفون في المكتبات من جهد ، وسوف نحاول أن نذكر بعض الأمثلة للدلالة على ذلك :
كان المأمون العباسي (أبو عبد الله أبو العباس ، الخليفة السابع في قائمة الخلفاء العباسيين في بغداد ، والمتوفى سنة 218 هـ) يعطي حنين بن اسحق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى اللغة العربية مثل بمثل . 2
وهذا يدل على مدى اهتمام المأمون العباسي (الفتى الذهبي للحضارة العربية الإسلامية) بالثقافة والفكر ، المأمون الذي يرجع إليه الفضل في النهوض بالعلم والترجمة ، والانفتاح على الثقافات و الحضارات الأخرى ، معمقًا بذلك دعوة الحضارة العربية الإسلامية للتقدم العلمي ، والرقي الفكري ، والنهوض الثقافي ، فلسان حال الحضارة العربية الإسلامية يقول لنا : لقد خلقنا الله تعالى لنتبادل الآراء والأفكار والخبرات والثقافات من أجل واقع أفضل وأحسن لنا ولذوينا ، بعيدًا عن الصراعات والنزاعات .
لقد كان بنو شاكر وهم : محمد وأحمد والحسن ، يعطون جماعة من النقلة (المترجمون والنساخ) منهم : حنين بن إسحق ، وحبيش بن الحسن ، وثابت بن قرة ، مبلغ (500) دينار وذلك نظير قيامهم بالنقل والترجمة ، والتفرغ للعلم والدرس . 3
كما وجه الواثق بالله هارون أبو جعفر ، المتوفى سنة 332 هـ ، الخليفة العباسي التاسع في سلسلة الخلفاء العباسيين في بغداد ، وجه عناية كبيرة للمترجمين الذين نقلوا الذخائر الأجنبية للسان العربي ، وكان ابن ماسويه يده اليمنى في ذلك ، فأغدق عليه الواثق العباسي نعماً متوالية ، وخيراً وفيراً ، وفي إحدى المرات أعطاه دراهم تعادل 300.000 روبية . 4
وكان الوزير/ محمد بن عبد الملك الزيات يعطي بسخاء كبير للنقلة والنساخ ، حيث قيل : إنه في كل شهر ينفق عليهم ما يعادل 2000 دينار . 5
وابن الزيات هو محمد بن عبد الملك الزيات الشاعر الكاتب ، وقد عمل وزيراً للمعتصم بدين الله العباسي ، وللواثق العباسي ، وللمتوكل على الله العباسي ، حيث قتل ابن الزيات بعد تولي المتوكل الخلافة بعام واحد ، أي سنة 233 هـ ، وقد عرف عن ابن الزيات ولعه الشديد بالعلم والثقافة والكتب والمكتبات ، كما أنه كان يعطي العاملين في المكتبات العطايا والمنح السخية ، في ذات الوقت الذي كان يشجع الأدباء وأهل العلم ماديًا ومعنويًا ، كما كان يوجه إليهم الكثير من العطايا والهدايا والمساعدات تشجيعاً لهم .
*
ويورد لنا المقريزي في كتابه ( الخطط ) قائمة مهمة بالنفقات السنوية لمكتبة دار الحكمة التي أسسها الخليفة الفاطمي / الحاكم بأمر الله في القاهرة ، مفصلة تفصيلاً واضحاً ، وإن كنا نرى أنها أقل سخاء بالنسبة لما عرف من الإنفاق على بعض المكتبات الكبرى في الحضارة العربية الإسلامية ، وفيما يلي ما تتضمنه هذه القائمة :ـ 6
(1) الناسخ (مرتبه + ورقه ) ـ 90 ديناراً من العين المغربي .
(2) مرتب الخازن (أمين المكتبة ) ـ 48 ديناراً من العين المغربي .
(3) مرتب الفراش (المسئول عن تنظيف المكتبة) ـ 15 ديناراً من العين المغربي .
(4) مجلد الكتب بالإضافة إلى مواد وأدوات التجليد التي يستعملها في عملية التجليد ـ 12 ديناراً من العين المغربي .
(5) ورق وحبر وأقلام للقراء من رواد المكتبة ـ 12 ديناراً من العين المغربي .
(6) ثمن الحصر العبداني ـ 10 دنانير من العين المغربي .
(7) ثمن الماء الذي يشرب منه رواد المكتبة والعاملين بها ـ 10 دنانير من العين المغربي .
(8) ثمن لبود للفرش في فصل الشتاء ـ 5 دنانير من العين المغربي .
(9) ثمن طنافس في الشتاء ـ 4 دنانير من العين المغربي .
(10) مرمة ستائر المكتبة ـ 1 دينار من العين المغربي .
ونلاحظ في هذه القائمة التالي : ـ
أ ـ توفير مرتبات دورية للنساخ والخزنة والفراشين والمجلدين في المكتبة .
ب ـ الحرص على ضرورة توفير الأوراق والأحبار والأقلام للنساخ ولعامة القراء (بالمجان) ليستمر دولاب العمل في المكتبة ، كي تؤدي دورها العلمي والتربوي المنوط به .
ج ـ الحرص على فرش المكتبة ببسط ، وهي الحصير في فصل الصيف ، واللبود في فصل الشتاء .
د ـ الحرص على توفير أردية (ملابس) للقراء والعاملين في المكتبة تقيهم من برد الشتاء القارص .
هـ ـ الحرص على ترميم المكتبة بشكل دائم ومستمر ، حتى الستائر كان يهتم بها وترمم بصفة دورية على أحسن وجه .
و ـ الحرص على توفير الماء داخل المكتبة للقراء والعاملين بها ، ونحب أن ننوه هنا إلى أن بعض المكتبات الإسلامية كانت تقدم وجبة ساخنة للمترددين عليها ، وللعاملين بها ، كما كانت بعض المكتبات تقدم الحلوى بشكل دائم ، نضيف لذلك أن مكتبات أخرى كانت تكلف بعض الموسيقيين بعزف الموسيقى الهادئة للقراء حتى يتمكنوا من القراءة والإطلاع والنسخ في مزاج هادئ معتدل .
*
ويحدثنا العلامة / كوركيس عواد في كتابه : (خزائن الكتب القديمة في العراق) عن المرتبات التي كان يتقاضاها موظفي المكتبة الملحقة بالمدرسة المستنصرية ، ومن كلامه نقتبس التالي : ـ
(1) خازن الكتب : يستحق 10 أرطال من الخبز ، و 4 أرطال من اللحم ، كل يوم ، كما أنه يتقاضى 10 دنانير نقداً كل شهر .
(2) المشرف أو أمين عام المكتبة : يستحق 5 أرطال من الخبز ، و 2 رطل من اللحم ، كل يوم ، كما أنه يتقاضى 3 دنانير كل شهر .
(3) المناول أو المرشد : يستحق 4 أرطال من الخبز ، وعدة غرفات من الطبيخ ، كل يوم ، كما أنه يتقاضى 2 دينار كل شهر . 7
ويلاحظ على القائمة التي اقتبسناها من كلام كوركيس عواد الآتي : ـ
أ ـ بالنسبة للحم كان نصيب خازن الكتب 4 أرطال ، بينما نصيب أمين عام المكتبة أو المشرف عليها 5 أرطال من اللحم ، أي يزيد على الخازن برطل واحد ، بينما كان نصيب المناول أو المرشد من اللحم منعدماً تماماً ، وبدلاً منه غرفات من الطبيخ ، وإن كنا قد قرأنا العديد من النصوص التي تؤكد على أن المناولين والعمال (الفراشين) كان لهم نصيب معلوم من اللحم والطبيخ والنقود .
ب ـ كان نصيب أمين عام المكتبة من الخبز 5 أرطال ، بينما كان نصيب الخازن 10 أرطال ، ونصيب المناول 4 أرطال .
ج ـ ومن كلام كوركيس نجد أن المناول هو الوحيد الذي كان يتناول أو يحصل على غرفات من الطبيخ ، وهذا يؤكد لنا أن ثمة وجبات طازجة ساخنة كانت تقدم للعاملين بالمكتبة مثل المناول ، كما كانت تقدم أيضاً لرواد المكتبة من القراء والباحثين .
د ـ يبدو أن الخازن كان يقوم بدور مضاعف في العمل ، أو أن مسئولياته أكبر وأكثر إرهاقاً ، ولذلك كان نصيبه من الخبز 10 أرطال كاملة ، كما أنه يتقاضى أعلى الأجور 10 دنانير كاملة ، بينما أجر المشرف أو الأمين 3 دنانير فقط ، وأجر المناول 2 دينار فقط لا غير .
*
وأحب أن أقول ـ هنا وكي لا يفهم كلامنا السابق بالمعنى غير الصواب ـ أقول : إنه طالما كان في المكتبة العربية الإسلامية مشرفاً عاماً عليها فهو إذن الذي يقوم بدور الأمين العام للمكتبة ، ويشرف على كل ما يتعلق بها من أمور .
أما إذا كان في المكتبة خازناً للكتب ولا يوجد بها مشرف عام ، فإن الذي يقوم بدور أمين المكتبة هو الخازن .
ولكن في بعض المكتبات العربية الإسلامية كانت الوظائف هي : الخازن الذي يقوم بدور الأمين العام للمكتبة في حالة عدم تواجد مشرف يتولى عملية الإشراف عليها ، والمترجمون ، والنساخ ، والمناولون (المرشدون) ، والمجلدون ، والمشرف العام على المكتبة .
ووظيفة المشرف العام كانت قليلة الانتشار ، فلم توجد إلا في المكتبات العظيمة ، كالمكتبة المستنصرية بالعراق مثلاً .
وفي بعض الأحيان لا تستلزم هذه الوظيفة من شاغلها أن يمضي بالمكتبة وقتاً طويلاً كما يفعل الخازن الذي يتواجد طوال يوم العمل ، بل كان يكفي أن يتردد المسشرف على المكتبة من يوم إلى آخر لوقت قصير ، ولعل هذا هو السبب في أن مرتبه لم يرتق إلى مستوى مرتب الخازن ، بل كان أقل منه .
وكان من الممكن في بعض الأحيان أن ينتقل المشرف فيصبح خازناً كابن القوطي المؤرخ الأديب صاحب كتاب : (الحوادث الجامعة ) ، الذي نشر لأول مرة في العاصمة العراقية بغداد ، سنة 1351 هـ ، وكان ابن القوطي مشرفاً عاماً على خزانة المكتبة الملحقة بالمدرسة المستنصرية ، ثم عين خازناً لها .
والمعروف أن المدرسة المستنصرية والتي أسسها المستنصر بالله المنصور أبو جعفر ، الخليفة العباسي رقم (36) في قائمة الخلفاء العباسيين في بغداد ، حيث تولى الحكم في 623 هـ ، وتوفي سنة 640 هـ ، وهذه المكتبة كانت مكتبة غنية منظمة تضم الكثير من الكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والأدبية ، كما كانت تحتوى على العديد من الكتب النادرة ، والكتب التي كتبت بخط مؤلفيها .
والمتتبع لما كتب عن المكتبات العربية الإسلامية في تراثنا يرى أن وظيفة خازن المكتبة كان ينظر إليها باهتمام وتقدير أكثر من وظيفة المشرف العام على المكتبة ، كما أنه لم تكن وظيفة المشرف العام موجودة بكل مكتبة أو بأغلب المكتبات ، لذلك نضيف أن هذه الوظيفة كانت غير دقيقة الاختصاصات ، ولكن الذي نحب أن نؤكده أن الخازن أو أمين عام المكتبة أو المشرف عليها ، كانوا جميعاً من أهل العلم والفكر والثقافة ، وكان أولياء الأمور يقومون باختيار النخبة أو الصفوة منهم كي يتولوا هذه المسئولية الكبيرة ألا وهى مساعدة الناس ومحبي العلم والثقافة في الاطلاع والقراءة ، وهذا مظهر حضاري سبقت إليه الحضارة العربية الإسلامية كل الحضارات السابقة او المعاصرة له أو التي جاءت بعدها .
الهوامش و الأسانيد
1 ـ المقريزي ، الخطط ، القاهرة ، 1170 هـ ، 1 / 459 ، وكذلك : ابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، القاهرة ، 1350 هـ ، 3 / 104
2 ـ ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، نشرة : أوجست موللر ، 1884 م ، 1 / 187
3 ـ أبن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، مرجع سابق ، 1 / 187 ، وما بعدها.
4 – Khuda Bukheh : Contribution to The History of Islamic Civilization Calcutta 1905, P. 269
5 ـ ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، مرجع سابق ، 1 / 206 .
6 ـ المقريزي ، الخطط ، مرجع سابق ، 1 / 459.
7 ـ كوركيس عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1948 م ، ص 195 ، وما بعدها .وكذلك : أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1987 م ، ص 183.
___
*باحث وخبير في التراث الثقافي